قراءة في رواية “جمرات من ثلج ” لمها خير بك ناصر
هل شاهدتَ إنسانا متوهّجا وهو من لحم ودمّ ؟ لا تذهب بعيدا ، أنموذجه مها خير بك ناصر . أنت لا تلتقي بها مرّة من دون أن تراها تشعّ بهموم واهتمامات ومشاغل على علاقة بالسرديّات الكبرى . وهي لن تكون غير ذلك في ما تكتبه . وروايتها الموسومة بعنوان ” جمرات من ثلج ” الصادرة العام 2009 ، بعد انتصار تموز 2006 وقبل ابتداء الردّ عليه ، من القوى المعادية ، في ما سُمِّي بالربيع العربيّ ، إنّما تُمثِّل ذلك التوهّجَ تمثيلا جيّدا . ويبدو هذا العنوان ، للوهلة الأولى ، عنوانا قائما على الوهم . فهو يومئ إليك لترى في أعماق الجمر ثلجا ، وفي أعماق الثلج جمرا .
وإيماءته هذه ما كان لها أن تقوم لو لم تكن الروائيّة قد وقعت على هذه الحقيقة في العالم المرجعيّ . ولعلّ ثنائيّة (الثلج/ الجمر) التي اتّخِذت عنوانا للرواية ، قد تمثّل معادلا فنيّا لثنائيّة (العقل/ العاطفة) التي تردّدت،بشكل لافت،في تضاعيف الرواية . والذي يؤكّد هذا الأمر شخصيّة الهادي إمام التي اشتعلت عاطفةً ، جمراتٍ قرّبتها من الجنون . وحضورها الموقّع على توقيت دقيق تحت ذلك الجسر هو علامة الاقتراب من جنون ضعُف معه دور العقل لصالح توهّم أنّ ابنه سيعود ذات لحظة إلى مكان اختفائه قرب ذلك الجسر . فكان ينتظره هناك من غير أن يضيّع لحظة يُحتمَل أن يحضر الإبن فيها . وجمرات العاطفة هذه لم تصل إلى حدّ الاجهاز على الهادي ؛ لأنّ العقل عنده ما زال فاعلا حاضرا حال دون وصول تلك الجمرات لتكون حارقة ماحقة . والعنوان ” جمرات من ثلج ” يفترض هذا الأمر .
ويبقى أنّ هذا العنوان لم يكن نتيجة اختيارٍ اعتباطيّ . وهو لم يكن قصدَ الإثارة من خلال الضدّية القائمة ، في الواقع، بين الجمر والثلج . الأديب الكبير لا يُرخي عنان كلمة ، أيِّ كلمة ، من دون أن يقيّدها برؤيته إلى العالم ، أن يحفظ لها كرامتها . ومها خير بك ناصر ما كان لها أن تكون أديبة متوهّجة لو لم تكن حمّالة همّ . وتوهّجها ما كان له أن يكون باهرا لو لم يكن صادقا . ما أريد الوصول إليه ، أنّ عنوان هذه الرواية هو مفتاحها . والنجاح في أن يكون العنوان مفتاحا ناجم عن النجاح في الخطاب الروائي نفسه . فكيف تمثّل هذا العنوان من خلال الشخصيّتين المتنافستين فوق ساحة الرواية ، أعني بهما الراوية الأنثى المشاركة الدكتورة ميس، والهادي إمام الذي أضاع ولده طفلا في ظروف الحرب ؟
بدت شخصيّة الدكتورة ميس شخصيّة منفعلة ، في البداية . لفت انتباهها ذلك الرجل الذي تشاهده ، وبشكل يوميّ ، واقفا تحت الجسر يراقب المارّة . فراحت تبحث عن وظيفة وقفته هناك بعد أن صار وجوده ، تحت أحد الجسور ، جزءا من تكوين ذاكرت(ها) (ص7) . ولعلّ وصف الدكتورة ميس ذلك الرجل بكلمة (صديقي) ، وفي مرحلة مبكرة من العلاقة التي بدأت تنشأ معه هو إيماءة إلى اهتمامها به ،وهو وصف هادف موقّع يومئ إلى ما ستؤول إليه العلاقة في مستقبل الرواية ، من دون أن يكشف سرّا من خطّة الروائيّة فيما وضعته من حبكة لروايتها .أثارت فضول القارئ كما أثارت أسئلته. لماذا قالت الدكتورة مها على لسان الدكتورة ميس :” لكم قطعت عليّ رؤيته، في كلّ عبور،ترتيب أفكاري التي حرصت على تنسيقها ، لتستوعب أعمالي وبرامجي ، فكنت أتساءل عن حقيقة هذا الصامت” (ص7) ؟. لقد وضعت الكاتبة المتلقّي على سكّة روايتها ، وشدّته إلى متابعتها في الدروب التي ستسلكه إيّاها . وإذا كان همّ الروائي أن يستحوذ على المتلقّي ، فيأسره إلى عالمه ، وهذه استراتيجيّته، إذا نجح بها الكاتب نجح ، وإن فشل ألقى بخطابه جانبا ،فإنّ ما يمسك بالقارئ سؤالان : ما الدور الذي يمكن أن تؤدّيه شخصيّة تمرّست بالوقوف تحت الجسر ، في مستقبل الرواية ؟ وما سرّ هذا الواقف الصامت ؟
إنّهما سؤالان ، دفعت الرواية القارئ ليطرحهما، فيشكّلا أداة أسره إلى المتابعة .
لا يجد المتلقّي في الرواية ، خصوصا في بدايتها ،مشروعا خاصّا بالدكتورة ميس، ولا يشكّل ،كذلك ، موضوعُ رغبة خاصّ بها عاملا محدّدا لحراك هذه الشخصيّة داخل الرواية. ولهذا بدت شخصيّةً منفعلة غير فاعلة كما أشرنا . كان نشاطها متمحورا حول شخصيّة الهادي إمام . شخصيّة الهادي هي المثير المحرّك لشخصيّتها . والحدث الذي تكون هي الفاعلة فيه تابع للحدث الذي يكون الهادي هو الفاعل فيه ومرتبط به . فهل يعني ذلك أنّ شخصيّة الهادي هي الشخصيّة الرئيسيّة التي استقطبت مجموعة شخصيّات الرواية ، وعلى رأسها شخصيّة الدكتورة ميس؟
بصوت عال ك ” كسر ذلك اللقاء القصير جدار الرهبة ،بل أعترف بأكثر من ذلك ، لقد شعرت بالانجذاب إلى الرجل،وتمنّيت لو كان لقاؤنا في زمن متقدّم على تجاوزي الخمسين ” (ص 28 ). الرغبة واضحة ، أعجبها الرجل .وهذا الاعجاب يضعها أمام مشروع زواج ، وما يستدعيه ذلك من نشاط ينتج أحداثا تشكّل شبكة تقوم عليها الرواية. ولا يمثّل تمنّي ميس ، لو كان اللقاء في زمن متقدّم على سنّ الخمسين ، الحائل الكافي دون الانجذاب إلى ذلك الرجل؛ بما يرتّب إلغاء مفاعيله المحرّكة . ويأتي لومُها اللطيف لذاتها :” ما هذا الشعور يا ميس ؟ هل يجتاح صمودَك توقٌ إلى أمومة لا تزال تؤذي قناعاتك؟ … ما هذا الوجع الذي يضرب ثباتي ؟ ” ( ص 28- 29)، ليؤكّد كبح فاعليّة ذلك الشعور المفاجئ بالانجذاب إلى الهادي،وليطلّ على ثنائيّة العنوان من شرفة عالية.فالمواجهة داخل ثنائيّة (القناعات/ الانجذاب ) هي مواجهة داخل ثنائيّة ( العقل / العاطفة ). العاطفة لا تستأذن ، هي سلطة تمارس حضورها ، حين يُتاح لها ذلك .ولكنّ هذه السلطة تواجه سلطة أخرى متعالية عليها. وهي سلطة منحازة إليها صاحبة العلاقة . إنّ التمنّي يمثّل تخطئة لموقف سابق . وقولها : إنّ الأمومة ( العاطفة ) ما زالت تؤدّي قناعاتها ،إنّما يشير إلى أمرين : فقولها (تؤذي ) هو موقف أخلاقيّ يدين الإمومة في غير وقتها، وقولها (لا تزال ) إشارة إلى صمود العاطفة وقوّتها وقوّة حضورها . وحضورها ، وإن لم يكن معلنا ، فهو مضمر ولكنّه قائم . والتمنّي إدانة لموقف ولمرحلة من العمر وتخطئة له . وهو إعلان رضى عن العاطفة . ويطرح هذا سؤالين جوهريّين : الأوّل هو أيّ الطرفين من طرفي الثنائيّة هو المتعالي العقل أم العاطفة ؟ الصراع هنا محسوم . والسؤال الثاني، ماذا تنفع استفاقة العاطفة في زمن متأخّر ؟ هل ستتمثّل هذه الاستفاقة سلوكا في الرواية، أم سيظلّ سلوك ميس مستقلّا بسلوك الهادي ؟
احتلّ ما تركه انجذابُ ميس إلى الهادي مساحة بسيطة من الرواية (75) ، حاولت أن تفسّر سبب إصرارها على مقابلة الهادي . هل هذا السبب هو رغبتها في معرفة سرّه ؟سخر الوسواس في داخلها من هذه الفرضيّة معلنا أنّ إصرارها “ليس إنسانيّا،
هو محض عاطفيّ ” (ص57). وتسأل نفسها عن سبب تأجيل استلامها الأوراق الثبوتيّة الخاصّة بولده يوسف . وتفترض أنّ ذلك كان لتربح ” لقاء آخر”(ص120). وإذا سألت : ” هل أنا عاشقة ؟ ” (ص122) ، لتضع نفسها في مواجهة مع الذات ومفاتحة حول ما يتعلّق بمستقبلها ، وبإمكانيّة الزواج من الهادي . وما إن بدأت قصّتها مع صموئيل (ص 132)، حتّى كاد موضوع رغبتها المتعلّق بالانجذاب إلى الهادي أن يغيب بشكل شبه تامّ . ولكنّ هذا الغياب كان غيابا في الظاهر،لأنّ القارئ ظلّ محمّلا ، وإلى آخر كلمة في الرواية بهاجس معرفة نهاية العلاقة بين شخصيّتي الرواية المحوريّتين : الهادي وميس . يعني أنّ الرواية قد أمسكت بالقارئ ، ليس بما أعلنته بشكل صريح وواضح فحسب ،ولكن بما أومأت إليه أيضا .
ويكاد هذا الأمر يأخذنا إلى القول: إنّ شخصيّة ميس هي الشخصيّة الأفعل في توجيه أحداث الرواية ؛لأنّ خيوط الرواية بأكملها كانت بيدها ، وفاعليّة كلّ من حسّان وصموئيل والهادي فاعليّة مضبوطة بإيقاعيّتها ، فهي التي تديرها . صحيح أنّ موضوع الرغبة الوجوديَّ القويّ والمهيمن الخاصّ بالهادي هو الذي استدعى فاعلية ميس ،إلّا أنّ فاعليته فاعليّة سلبيّة تُعالَج ولا تعالِج . وهذا ما جعل شخصيّة الهادي شخصيّة متوهّجة في نظر ميس ، وليس يُدرى إن كان اسم الهادي قد فرضته إيقاعيّة الرغبة المتوهّجة في ذات ميس . مقابل هذا كانت فاعليّة ميس فاعليّة إيجابيّة موضوعها معالجة موضوع رغبة الآخر. ويطرح هذا سؤالا مبدئيّا : ما الذي جعل شخصيّة ميس شخصيّة متعالية على سائر شخصيّات الرواية ؟ هل يعود ذلك إلى أنّ مرجعيّة شخصيّة ميس الواقعيّة هي الأديبة مها خير بك ؟ ما علاقة حسّان الذي أُهديت إليه الرواية بحسّان الحكاية شقيق ميس الذي قدّم علاقته بميس قائلا :”بكلّ تأكيد يا ميس أنت أختي وأمّي وأبي ، أنتِ الطمأنينة يا ميس ” (ص18)؟ ألا يقيم الحسّانان علاقة ما بين ميس الرواية و مها العالم المرجعي ؟ فلا يمكن أن تكون ميسُ الرواية الأستاذةُ الجامعيّة الناشطة الثقافيّة ذاتُ الموقف المحدّد من قضيّة الأمّة الكبرى فلسطين مستفادة من شخص آخر غير شخص مها . وهل جاءت أسماء الشخصيّات النسويّة المحبّبة في الرواية :”ميس” و” مريم” وهي مبتدئة بحرف الميم ، ميم مها، صدفة ؟
ولماذا كان اسم زوج حسّان ( هندا)؟ وهل نون النسوة الفاصلة بين الميم والهاء في ترتيب حروف الهجاء العربيّة هي التي ميّزت كلّا من ميس ومريم ومنى عن هند التي لم تستطع أن تكون زوجا ناجحة لحسّان أخي ميس الرواية . وكأنّ هندا ليست أثنى؟
ومهما يكن من أمر ، فإنّ شخصيّة ميس المستقاة من شخص الروائيّة مها ، ليست هي نفسها . ثمّة مسافة تفصل بين الشخصيّة التي رسمتها مها وبين مها . جاءت بها محكومة بما يقتضيه سياق الرواية وأهدافها،وإن كان همّها في إيهام المتلقّي بواقعيّة ميس قد نجح إلى حدّ بعيد بإقناع ذلك المتلقّي بأنّ ميسا هي إنسان من لحم ودمّ .