مساء الخير،
باسم الملتقى الثقافيّ الجامعي، أهلاً وسهلاً بكم…
منذ أكثر من عشرِ سنواتٍ، وفي محاضرةٍ حولَ النقدِ الأدبيِّ الحديث، علّمني أحدُ النقّادِ الكبار، ونحنُ في ضيافته اليوم، أنّ الشاعرَ ليكونَ شاعرًا كبيرًا، عليهِ أن يحملَ ثقافةً كبيرةً، وهمًّا كبيرًا…
وفي العام نفسِه، ومن ضمنِ الأمسياتِ الشعريّةِ التي كنّا نُقيمُها، وكنتُ أشرِف على التحضيرِ لها وتنفيذِها، أعطاني هذا الناقدُ مجموعةَ أسماءٍ لشعراء من لبنان، قالَ إنّه سيتواصلُ معهم ليُحيُوا الأمسيةَ القادمة، وطلبَ منّي البَدءَ بتحضيرِ الدعوات…
يومَها أشار بإصبَعِهِ إلى اسمٍ وقال: “هيدي رفيقة من جماعتكن”، سوريا بدّور الطويلة، وأصرَّ عليّ أن أكتبَ اسمها كاملاً “ما تنسى تكتب الطويلة بتزعل”!
كان اللقاءُ في آذار 2007، يومَها ألقتْ راعيةَ الأيام قصائدَها وأهدتني مجموعتَها “راعيةُ الأيام”، ومن القصائدِ التي أثّرتْ بي في هذه المجموعة “أعدُّ تجاعيد روحي” وهي مهداةٌ إلى “بكّيفا”، أذكر منها هذا المقطع:
أعودُ وقد أكمَلَ القمحُ رحلتَهُ في السراب
ووجهُ الحصادِ يلوحُ بعيدًا
ووجهكِ خلفي رعودٌ
تحطُّ صواعقها على بيدرٍ في الجبين…
أعدُّ تجاعيدَ روحي
على كفِّ ليلٍ ينوءُ بحملِ النجومِ العتاقِ
وأعبرُ بين سيوفِ الحنينْ
تكونينَ بينَ دمعي وبيني
غموضًا شفيفًا
تمرُّ نِصالُ قراميدِهِ الحمرِ فوقَ الجراحِ
فأذكُرُ أنَّ الدماءَ تسيلُ وراءَ اخضرارِ عروقي
وأنَّكِ كنتِ هناكَ
على صهوةِ الفجرِ
في عمقِ ذاكَ الصباحِ الحزين..
– أعودُ لأدمِنَ فصلاً جديدًا، خريفًا أخيرًا يضيقُ بدفءِ رياحينِهِ –
روحَ هذا الترابْ
وأنتِ ارتِحالُ الجذورِ
التي أصعدَتْها المياهُ إلى حضرةِ الشمسِ
أنتِ العميقةُ تحتَ الترابِ
الجميلةُ فوق التراب…
وفي “أحلام الماء” ديوانِ الشاعرةِ الصادرِ عامَ 2010، يتجلّى همُّها الكبيرُ حينَ تُهدي قصيدةَ “قيامة” إلى شاعر كبيرٍ استشهدَ بسببِ حملهِ الهمّ نفسَه، وهو كمال خير بك، حيث تقول:
ذاتَ ظلامٍ قتلوا قمرًا
كانَ يُطارِدُ أشباحَ الليل
وما زالت قطراتُ النورِ تسيلُ من الجرحِ
على رملِ الصحراءْ
لكنَّ الرملَ العاقِرَ مفتونٌ بالموت
فلم تصِبْهُ مياهٌ أو تحييهِ دِماءْ
أعرفُ هذا القمرَ الغجرِيَّ المقتولَ على قارِعةِ الليلِ
الزاهِدِ في سلطانِ السمواتْ
ملِكًا يتدروَشُ كلَّ مساءٍ
في ثوبِ الصعلوكِ الهائمِ في الفلواتْ
يطوي في جبَّتِهِ العربيّةِ بحرَ مدينتِهِ الزرقاءْ
ويرسمُ فوقَ مرافئِ غربتِهِ أيقونَتَهُ الحمراءْ
ويطوِّفُ في صمتِ صحاريهِ
بشَكِّ قصائدِهِ خرزًا يلمعُ
في خيطِ الكلماتْ
دمُهُ مشدودٌ كغزالٍ برّيٍّ
لجذوعِ الشجرِ الواقفِ تحت بروقِ الموتِ
الغارِسِ في لحمِ الأرضِ أظافِرَهُ
لا يشرَبُ إلّا ماءَ الشعرِ
ولا يرتاحُ سوى في ظلِّ غدائرَ فاتنةٍ
عمَّدها القهرُ وعاشتْ في رحمِ الثوراتْ…
نصلُ إلى مجموعة “كتبتُ إليكَ” حيثُ تتجلّى ثقافةُ الشاعرةِ المثقَلةُ بحبّ الحياةِ وحب الأرضِ وحبّ الوطن، المنتميةُ إلى القومية الاجتماعية، حيث تُهدي شهيدَ الثامن من تمّوز قصيدةَ “ويكونُ دمُك” فتقول:
حينَ يطلُّ تمّوز، تتململُ العناقيدُ في خاطِرِ الدوالي ويستيقظُ السُّكرُ،
تتثاءبُ الأشجارُ تحتَ سلطانِ الشمسِ
ويستكينُ قلَقُ البحرِ
فيفرشُ مرآتَهُ لوجهِ السماءِ المتبرِّجَةِ بقلائدِ الذهَبْ.
تتهافتُ أجسادُنا على مفارِشِ الظلالِ
ويكونُ دمُكَ واقِفًا على غصّةِ القلب
وفي دمعةِ الكبرياء
ينتشرُ كالرياحِ
ويسقي عطشَ الرِّمالِ بماءِ الزهر،
حينَ يُطلُّ الثامنُ من تمّوز
يقفُ دمُكَ شجرًا في عروقي
وينزفُ فوقَ تراب القلبِ
حيثُ زرعتُ لكَ شجرةً
“أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء”
من بقايا عرزالِكَ القديم
تقرأُ في ظلِّها فاتحةَ كتابِكَ
وتوقِدُ بي نارَ الذكرياتِ الساطعة
حينَ يخيِّمُ بردَ المساءِ على جبالِ الروح
كما على جِبال الشُّوير
مجدِّدًا اتّحادي بلهيبِ روحِكَ الخالدة
في أجيالٍ لم تولَد بَعد.
سوريا بدّور الطويلة، دمتِ لنا شاعرةً كبيرة…