في كل مرة أغوص في مؤلف من مؤلفات د. علي زيتون، أجدني يتنازعني شعوران: شعور بالفرح والاعتزاز بالثقة التي يوليني إياها للحديث عن نتاج له، وشعور بالمسؤولية أمام كتاب فيه من المعلومات والعمق ما يجعل قراءته والبحث فيه أمراً شاقاً بقدر ما هو ممتع. فهذا البحث يتصف بمنهجية علمية تعكس سعة ثقافة الباحث وعمق نظرته. فهو لا يدرس النص الذي يتناوله دراسة عادية، بل يشرّحه تشريحاً علمياً دقيقاً ولا يكتفي بتقويم لغوي أدبي للنتاجات الشعرية والأدبية التي بين يديه، بل يتطرق إليها من باب فكري فلسفي وثقافي عميق. وهو يرى أن الشاعر لا يكون شاعراً إلا عندما يعكس ثقافة عصره ويستخرج القيم من أعماق عالمه المرجعي ويتناول قضايا الإنسان الكبرى بفعالية ووعي. لا بل أكثر من ذلك، يرى أن على الشاعر “أن يكون حداثياً إلى أي زمن انتمى”(ص183)، أي أن يحكّم العقل ويبحث عن الجدّة. وعلى الشاعر أن يكون استشرافياً كبيراً، قارئاً للتاريخ ولحركته، مخترقاً زمانه، واعياً ما لا تعيه ثقافة عصره. لذلك هو لا يتورع عن أن يصيب بسهام نقده إسماً لامعاً في دنيا الشعر كنزار قباني لأنه، برأيه، يفتقد الرؤية النافذة والبصيرة الاستشرافية في قصيدته السياسية، ولم يستطع أن ينفذ من خلالها إلى عمق من أعماق الأزمات السياسية في عصره بل ظل على هامشها.
منذ البداية يضعنا العنوان “الشعرية بين الرمز والعرفان” أمام أسئلة ومواضيع شائكة. ما الشعرية وما مستلزماتها؟ ما علاقتها بالرمز وبالعرفان؟ ما قيمة الرمز للشعر وكيف يتشابك الشعر مع العرفان؟
فليكون الشاعر شاعراً، حسب د. علي، يحتاج بالإضافة إلى الموهبة، يحتاج إلى امتلاك ثقافة عصره والنفاذ إلى عمق تلك الثقافة والكشف عن
مآزقها. والشاعر لا يكون كبيراً إلا إذا كان مثقفاً كبيراً ومفكّراً متفوقاً، لا بل إذا كان قادراً على طرح الأسئلة المحرجة التي يصعب الإجابة عنها والتي “ترجّ الثقافة العامة رجّاً”. والشاعر الكبير هو “ذو همّ كبير، يتجاوز هموم الذات إلى الهموم الجمعية”. وتكمن فرادة الشاعر في خصوصية رؤيته وفرادتها، وفي اكتشافه بعداً جديداً للعالم المرجعي. وتغدو القصيدة عمقاً من أعماق العالم المرجعي لا انعكاساً له، تلعب ثقافة الشاعر دوراً أساسياً في خصوصية الإمساك به. و”الجمال، فيما يسمّى فنّاً، هو عمق بديع جديد مكتشف”(ص46). لكن الانفعال يشكل منافساً هاماً لحاكمية الثقافة في الشعر، “خصوصاً أن محرّك ذلك الانفعال هو تماسّ الشاعر مع الحياة”(ص53).
وللتعريف عن الشعرية عاد إلى الأزمنة المغرقة في بدائيتها ليستنتج أن الشعر وجد “قبل وعي العقل بجماليات الأدب”. وأن “الجمالية تخص النص الشعري وُجد من يستطيع التفاعل معه أم لم يوجد”(ص13). ثم تطرق إلى العصور الإسلامية وبيّن أن المزيّة الأدبية للقرآن كانت هي الدليل الذي اتخذه المسلمون برهاناً على المعجزة النبوية المحمدية. من هنا الصلة بين علم الكلام الذي حاول إثبات هذه المعجزة من ناحية، وبين الشعرية العربية من ناحية أخرى، وبينه وبين النقد الأدبي الذي أضحى بناء على ذلك نقداً منهجياً، يحتكم إلى النص القرآني لتحديد مقياس الشاعرية والأدبية بشكل عام. ولاحظ تأثير كتاب “الشعر” لأرسطو في فهم الشعر العربي. وبيّن الأهمية التي أولاها النقّاد العرب الأوائل للثقافة حتى قبل أن يهتدوا إلى مصطلح “الثقافة”، وقد أولوا أهمية كبيرة “للدربة” التي تقوم بتنمية معارف الشاعر. فذكر سلّام الجمحيّ، والأصمعي والآمدي وعبد الجبار الهمذاني المعتزلي وعبد القاهر الجرجاني الأشعري الذين اتخذت نظرتهم الأدبية منحىً أسلوبياً علمياً إلى حدّ كبير وذلك في القرون الإسلامية الأولى. وقد
فصّل الدكتور علي زيتون بناء على ذلك نظرة كل منهم للشعرية، بالإضافة إلى ابن رشيق والخفاجي وحازم القرطاجنّي.
وبعد أن يذكر السنين العجاف التي مرت بها الثقافة العربية منذ مرحلة الغزو الصليبي حتى بداية المثاقفة مع الغرب، يتطرق إلى الحداثة الشعرية التي تأثرت سياسياً بالماركسية ونظرت إليها كفلسفة علمية، فكانت النصوص الأدبية نصوصاً وظيفية محكومة بالأيديولوجيا دون أن تجحب القيمة الفعلية للشعراء أو تمنعهم من احتلال مواقعهم في الساحة الثقافية. فمن الطبيعي أن يكون الأدب نتاج ثقافة ما، دون أن يكون هناك وصاية من هذه الثقافة على النتاج الأدبي. وقد أدّى سقوط المعسكر الاشتراكي إلى فراغ ثقافي فيما يخص الدفاع عن قضايا المظلومين والسعي لإقامة مجتمع العدل والرفاه. وقد كانت الصحوة الإسلامية التي خلفت اليسار في مواجهة المعسكر الرأسمالي ورفعت شعارات مثل (أميركا الشيطان الأكبر) و(إسرائيل شر مطلق) هي البديل الذي ما زال حتى الآن قاصراً عن إنتاج منظومة ثقافية فعّالة في مواجهة الخلايا السرطانية التي زرعها الغرب وإسرائيل لتجد مكاناً لها داخل الحياة الثقافية الإسلامية. فما زال النتاج الأدبي والشعري امتداداً لما كان قائماً في المرحلة اليسارية.
تناول الباحث مفهوم الشعر والشعرية من وجهة نظر أعلام محدثين، فشرح مفهوم كل من جان كوهين وكمال أبو ديب وأدونيس للشعرية، ليخلص إلى أن “الجمال الفني عامة، والجمال الأدبي على وجه الخصوص، متصل برؤية الأديب إلى العالم”، و”غنى الشعرية من غنى الرؤية”، وما يرى الشاعر “إنما يراه باللغة”. من هنا التلازم بين الرؤية والتعبير. لكن اللغة تظل قاصرة عن التعبير وإمكانياتها محدودة. من هنا أهمية المجاز والرمز وأقرانهما السيميولوجية للتعويض عن ذلك القصور، مع تعالي الاحتمالية التي يكتنزها الرمز على تلك يتصف بها المجاز(ص 53 )
وإذا كان للرمز بصورة عامة أهمية كبيرة في التعبير الشعري، فإن للرمز الحسيني دلالة تميّزه عن باقي الرموز التاريخية لما للحسين من خصوصية دينية وأخلاقية وثقافية، نهلها من مدرسة أبيه علي بن أبي طالب، ومن “رمزية متعالية على التاريخ”، و”غير قابلة للتكرار”، ولما يمثله من قيم “اكتملت مع اكتمال شهادته”(ص52). وفي مفهوم كل من علي زيتون وعمر شبلي الذي يحلًل د. علي قصيدته، لا يقتصر مفهوم الرمز الحسيني على الشخصية التاريخية مهما علا شأنها، إنما يغدو مقاماً ثقافياً جهادياً أخلاقياً يجتاز التاريخ ليصبح قضية إنسانية كبرى، وشخصية رسالية منحازة للحق الذي يشكل ركيزة المدرسة العلوية، ويتحول يزيد إلى رمز لكل الطغاة الظالمين، وكربلاء إلى رمز لمعارك الأمة الحديثة في لبنان وفلسطين والعراق وغيرها في حتمية “انتصار الدم الحسيني على السيف اليزيدي”. ويصير الرمز الحسيني هو الفيصل بين الحق والباطل، ويصير بمواجهته ليس فقط العدو الصهيوني والمحتل الأميركي، إنما أيضاً القوى الظلامية وكل متخاذل عن نصرة قضايا الأمة المحقة. ويقول د. علي: “وكما يتناسل الحسين(ع) حالمين، يتناسل الكهف اليزيدي قاتلين”(136). ولعل أهم خلاصة يستنتجها الباحث هي أن الشعر، حين يكون شعراً حسينياً “يصبح لغة متعالية على أية لغة أخرى… لما يحمله من هموم وقضايا عابرةٍ الزمان مجتازةٍ المكان إلى غاية لا تدرك إلا بظهور المخلّص”.(ص65)
أما العرفان فهو من منظور علي زيتون الوسيلة الذي لجأ إليها العربي المسلم للبحث عن الحقيقة بعدما وجد العقل العربي نفسه عاجزاً عن البرهنة على إعجاز الوحي بواسطة الفلسفة وعلم الكلام، حيث وقع المتكلمون المسلمون وفلاسفتهم في مأزق الجدل حول قدم القرآن والعالم وحدوثهما. و”صارت المعركة عند الصوفي بين الروح والجسد”.(ص69) فالخالق هو الحقيقة المطلقة وبلوغ هذه الحقيقة يكون عن طريق الروح وعن طريق مجاهدة النفس الجسد، دون الاستغناء استغناء كلياً عن العقل. فما علاقة العرفان بالشعر؟ يرى د. علي أن “الشاعر، بطبيعته، عرفاني في مستوىً من المستويات خصوصاً إذا صارت الحقيقة بالنسبة إلى هذا الشاعر قضية وجودية. والعرفاني، بطبيعته، شاعر في مستوًى من المستويات لأنه لا يستطيع أن يقدم ما كشفه من أسرار الوجود من خلال اللغة العادية. يحتاج إلى لغة الشعر”(ص70). لا بل هو يؤكّد أكثر من ذلك أن “الشاعر لن يكون شاعراً إذا لم يكن عارفاً من أهل النظر، ولن يكون العارف عارفاً من أهل النظر إذا لم يكن شاعراً”(ص70). والشعر والعرفان كلاهما قادر على إخراج العقل والثقافة من مآزقهما. وإذا كان كل من حافظ الشيرازي ومحمد علي شمس الدين شاعراً عرفانياً، فإن عرفان الأول ناجم عن مأزق العقل الإسلامي في حين أن عرفان الثاني هو نتيجة لمأزق العقل العلمي الحديث. هذا العقل العلمي حوّل كل الدراسات إلى علوم حتى وصل إلى مأزق، لتأتي التفكيكية وتجرّد العقل من كل مرجعية ولتجعل الحقيقة مجرّد وجهة نظر. ويتساءل علي زيتون إن كان العرفان سيشكل البديل الذي يؤمّن الصحة النفسية للإنسان بدلاً من التفكيكية(72). وشعر محمد علي شمس الدين هو المثال الحديث “لإنزال الوعي العقلي من عليائه لصالح الوعي العرفاني”(75)، وللمأزقية الوجودية المعبّر عنها بالشك، ولمأزق العقل العلمي. كذلك يتميز شعر محمود نون، كما يرى د. علي زيتون، بمناخ صوفي عرفاني، يقرأ الوجود بغية اكتشاف ما خفي من أبعاده، وتتمحور مفرداته حول طرفيّ العلاقة الوجوديّة: الله والإنسان.
غاية العرفان عند د. علي هي تحقيق إنسانية الإنسان. ولعل ذلك يتحقّق “في تأصيل ثقافة دينية حديثة ترتكز إلى تكريم بني آدم. فالطريق إلى الله هو طريق الإنسان إلى إنسانيته”(90). والثقافة الإسلامية هي إحدى أفضل الطرق إلى ذلك، إنما بعد إعادة إنتاجها وتحديثها، فتكون الحلّ لمأزق العقل وتتأسس على حوار بين ما يواجهه الإنسان المعاصر وبين القرآن الكريم(71). ويرى أن ظاهرة التكفير لها عدة أسباب منها عدم تجديد الثقافة الإسلامية بما يتلاءم مع المستجدات العصرية، بناء على “قراءة جديدة للقرآن الكريم في ضوء ثقافة العصر وحاجات الإنسان فيه”(132). فالثقافة الظلامية قد ملأت الفراغ الذي لم تقم الثقافة الإسلامية “التقدمية” التي تعمل لتعزيز إنسانية الإنسان، بملئه، بعد إفلاس الثقافتين الرأسمالية والماركسية. والتمسك بالثقافة الإسلامية لا ينفي ضرورة الإفادة من الثقافة الغربية للارتقاء والنهوض والانطلاق إلى ما بعدها(ص 183). وهو ما امتلكه، حسب د. علي زيتون، شعراؤنا الكبار حيث أقاموا حواراً خلّاقاً بين الحقول المعرفية الحديثة وبين التراث، ما مكّنهم من كشف أعماق جديدة من العالم المرجعي.
للنقد الأدبي القادر على مواكبة الشعر الحديث وتقديمه إلى المثقف العادي دور غير عادي عند علي زيتون. هو ضروري “لصناعةِ بشريةٍ متمتعة بالصحة النفسية، قادرة على اجتراح إرادتها بعيداً عن حياة القطيع”(74). ولئن كان هناك هوة ثقافية قائمة بين الجمهور والشاعر، ذلك أن الجمهور يملك ثقافة بسيطة تجعله عاجزاً عن تمثّل الشعر الحديث، فإن دور الناقد الحقيقي هو تقديم هذا الشعر إلى المثقف العادي. لكنه يرى أن النقد الأدبي القادر على مواكبة الشعر غائب تقريباً عن الساحة الأدبية(73). ويذكّر بصيحة المتنبي الشهيرة: “ابن جنّي أعلم بشعري مني” ليقول إن ابن جني مطلوب مرة ثانية ليقيم الصلة بين الجمهور والشاعر/العارف. وينتقد النقد الأدبي الحديث الذي امتلك الثقافة النقدية الغربية، إنما لم يتجاوز ما وصل إليه الغرب للبناء عليه انطلاقاً من تراثنا الذي سبق الغرب بكثير في تكريم الإنسان والحفاظ على القيم الإنسانية. يقول: “تجاوزت ثقافتنا التراثية حدود حقوق الإنسان إلى تكريمه، وشكّلت فكرة استخلاف الإنسان في الأرض إشارة قوية إلى مقامه الرفيع داخل ثقافتنا”(185). “ففي الوقت الذي أقامت فيه الثقافة الغربية، بنظر علي
زيتون، حدوداً عنصرية عالية بين الغرب والشرق، وأحلت دم الآخر وماله”، انطلقت ثقافتنا من “بنوة البشر جميعاً لأبوين مشتركين”، ومن “ايمان عميق بوحدة الجنس البشري”. فالإنسان هو القيمة وكرامته تعلو كل كرامة.
علي زيتون ليس باحثاً عادياً ولا ناقداً ضمن حدود المألوف. كتاباته هي عين قناعاته. يشهر رأيه بجرأة عزّ نظيرها في عالم شاعت فيه المسايرات والتخاذلات وكثر التلطي وراء المصالح والغايات. يعتزّ بثقافته الإسلامية في عصر أصبح فيه الإسلام تهمة، ويدافع عن خيار مقاومة إسرائيل وأميركا حين لا يكرّم إلا من رفع لهما راية الاستسلام والخذلان. وتبقى فلسطين والجنوب وسوريا والعراق وكل بلادنا الجريحة همّه الأول والأهمّ.