السيمائيّة والتفكيكيّة بين اومبيرتو إيكو ودكتور علي زيتون في اسم الوردة
د.درية كمال فرحات
اسم الوردة رواية بوليسية لأومبيرتو إيكو، نشرت لأول مرة باللغة الإيطالية عام 1980 ، وترجمت للإنكليزية عام 1983، وإلى الكثير من اللغات الأخرى لاحقاً. وقد حقّقت هذه الرواية نجاحًا كبيرًا أدّى في نهاية المطاف إلى تجسيد أحداثها في فيلم عام1986 ، وقد نالت هذه الرّواية صدًى كبيرًا. وإذا تم حسبان هذه الرّواية أنّها تنتمي إلى العمل البوليسي، فلأنّ أحداثها الغامضة تدور في أحد أديرة شمال إيطاليا التابع للرهبنة البنديكتية وذلك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 1327، حيث تتكرّر في الدير جرائم قتل مريبة ضحاياها جميعهم من النّساك، ويكون التّفسير الوحيد للرّهبان حول هذه الظّاهرة وجود روح شريرة في الدّير. ولكن هذا لم يقنع الراهب الضّيف الذي يُدعى ويليم، فقد كان يشك في وجود شخص ما يقف وراء جميع تلك الجرائم، وهو شخص حاد الذّكاء سريع البديهة يعتمد على عقله في الإجابة على أي شيء، عمل سابقا محقّقًا في محاكم التفتيش ولكنّه تخلّى عن وظيفته تلك لاعتقاده أنّ مهمة محاكم التّفتيش تحوّلت إلى معاقبة النّاس وبوسائل بشعة بعيدة من روح المسيحيّة عوضًا عن إرشادهم. يقوم ويليم بزيارة للدّير –المذكور سابقًا- مع تلميذه أدزو الذي قام هو نفسه بتدوين القصة كما يقترح المؤلف، وبعد سلسلة من الأحداث الشيّقة يصطدم فيها الراهب ويليم بأحد محققي محاكم التّفتيش والذي كان قد اتهمه سابقاً بالهرطقة مهدًّدا إياه بالموت، ولكن في نهاية الأمر يتمكّن ويليم من فكّ ألغاز الجريمة ويتوصل لمعرفة القاتل الحقيقي.
إنّ سرد هذه الأحداث قد يدلّ على كون هذه الرّواية رواية مغامرات شيّقة، تأخذنا إلى عالم الجرائم والتّشويق والبحث عن الحقيقة، لكن يذكر دكتور علي زيتون أنّ ” التقليل من الأدبيّة ليس القضيّة الوحيدة التي يواجهها القارئ مع رواية ايكو، فالجانب التّنظيري المتخفّي وراء قناع السّرد يضعنا أمام حقيقة مفادها أن ايكو في روايته هذه لا يتقبّل قارئًا كسولاً غير مثقف . أراد لروايته قارئًا مشاركًا من طراز غير عاديّ” . فإنّ القارئ لما كتبه د.زيتون لا يجب أن يكون كسولًا، إنّما عليه أن يحلّق في إبداع الكاتب والنّاقد، وأن يتجوّل في عالم يأخذنا إلى مفاهيم متعدّدة ما بين الحداثة والمناهج والنّظريات، فقد فتح لنا مغاليق المذاهب النقديّة، وقدّم تعريفات للسيمائيّة والتّفكيكيّة، ووقف عند علم اللغة والحداثة، هذا إضافة إلى غوصه عن الباحثين والفلاسفة الذين كتبوا في هذا الموضوع، مقدّمًا اراءهم، رابطًا بينها وبين رواية “اسم الوردة”.
وبذلك يخرج القارئ لبحث الدكتور علي زيتون بكنز معلوماتيّ واسع، يسمح له بالدخول إلى رواية “اسم الوردة”، واكتشاف كنهها، ومضامينها، فيدرك أنّها أكثر من رواية بوليسية، تبحث في جريمة قتل. فنحن نتحسّس قدرتنا القرائيّة مع د.علي زيتون الذي يتساءل في خاتمة بحثه ” لماذا أوصلنا ايكو في «اسم الوردة» إلى أن نتحسّس قدراتنا القرائيّة ونحن نقبل على التعامل القرائيّ معها ؟ ولماذا تدعونا إلى استحضار نظريات متعدّدة لنتمكّن من تلك القراءة؟ هل يدعو إلى متعة قرائية صعبة المنال لا يستطيع الحصول عليها إلاّ أولو العزم والثقافة العالية من القرّاء ؟”
ولعل الطّرفة الممهّدة التي انطلق منها في بداية بحثه نستلهم منها ما سيحدث لنا، فعوضًا من أن يستمتع الأحفاد بسرد حكايات الجدّ سيملّون من العمليات الحسابيّة التي طرحها عليهم، وهكذا يمكن أن يحدث مع قارئ رواية “اسم الوردة”، وذلك لما تطرحه من اسئلة في السيمائية والتّفكيكية وغيرها من الأفكار النّقديّة العميقة، وتطرح الرّواية أيضًا أسئلة تتعلّق بالوجوديّة وبمصير الإنسان، وتعرض للكثير من القضايا الفلسفيّة التي يصعب على الكثير من مناقشتها، وخصوصًا إذا كانت ترتبط بالأديان السّماويّة، ومن هذه القضايا ما يتعلّق بدوران الشّمس والأرض، أو القضايا الوجوديّة للظّواهر العريبة، والموقف من إخفاء صفحات من الكتاب المقدّس. فكانت هذه الطّرفة خيرَ ممهّد بأسلوب سلس وشيّق، يدفع القارئ إلى متابعة القراءة.
وهذا ما جعل الورقة البحثية المقدّمة من الدّكتور علي تنقسم منهجيًّا إلى أقسام عدّة، يبدأ فيها بتهيئة القارئ وتجهيزة إلى ما سيرد في الرّواية، خصوصًا لهذا القارئ الذي ليس لديه اطّلاع بهذه المناهج النّقديّة، فينطلق أوّلًا بتوضيح مفهوم السّيمائيّة، فيرى أنّ حداثيّة هذا العلم تكمن في انتمائه إلى زخم العقل العلميّ الذي توخّى اليقينيّة التي مثلت ميسم الحداثة الذي أعطاها هويّتها ، ثم يتحدّث عن ما بعد الحداثة (التّفكيكيّة)، وفيه يعرض للموقف المتناقض بين فهم المصطلح وهدفه الذي يصل إليه، أي كيف لنا أن نفهم مصطلحاً هدفه الأساسي تقويض المفهمة فمصطلح ما بعد الحداثة يعني أول ما يعنيه سقوط الحداثة والبنيويّة . وسقوطهما يعني سقوط ما يمثلانه من إمامة العقل. وللوصول إلى هذا المفهوم كان له عرض لأراء الفلاسفة من (كانت) إلى (نيتشيه). ويربط ذلك بنظرية التّلقي فيذكر أنّ ” القراءة ، ما بعد الحداثيّة ، هي نقلٌ لسلطة التفسير من النصّ وقصد المؤلف إلى القارئ المتلقي”. وفي ذلك إشارة الى نظرية التّلقي، وللكاتب “أومبيرتو إيكو” قول في ذلك: ” إنّ النّصّ الأدبيّ هو مثل آلة كسولة تنتظر أن تنشطّها القراءة لتنتج معانيها. وتعتمد هذه الاستراتيجيّة من ناحية على توظيف العلامة باعتبارها أساس عملية التّخمين والتّأويل، ومن ناحية أخرى على التّناص باعتباره أداة معرفيّة يستعملها القارئ حسب قدراته الموسوعيّة لتقفي أثر المؤلّف”. وإيكو يتبنى مفهوم النص المفتوح، لذلك فهو يعتمد كثيراً على تأويل القارئ الشخصي للنص.
ومن هنا فإنّ قراءة رواية “اسم الوردة” تتطلّب حضور القارئ بما في داخله من أفكار ومشاعر وأحاسيس، ولعل خير ما ينطبق ذلك على عنوان الرواية، فاسم الوردة اسم يثير الاهتمام والتّساؤل، فهو عنوان محايد لا يرتبط بموضوع الجريمة الذي تدور حوله الرّواية، ولم يختر الكاتب عنوانًا واضحًا ومباشرًا، إنّما اختار عنوانًا يترك فيه المجال للقارئ أن يكتشف المعاني الدّلاليّة له.
وبعد هذا التنظير للسيميائيّة ينتقل باحثنا إلى الرّواية ليُظهر أنّ العمل الفنّي يملك قابليّة لتعدّد القراءات اعتماداً على مفاتيح تأويلية مختلفة، وهذا ما يذكره الكاتب أيكو من قدرة القارئ على التأويل للنّصّ. ولم يكن العرض بعيدًا من دراسة علاقة اللسانيّة بالسيمائيّة التي وضّحها أيكو بين العالم واللغة، فيرى أنّ امتلاك العالم باللغة هو امتلاك سطحيّ عام بعيداً من خصوصيات أشياء العالم ودقائق تمظهرها.
ومن الأمور المهمة التي أبرزها الدكتور علي زيتون في بحثه هي البحث عن الحقيقة، وهو ما تريد الرواية الوصول إليه، فيعرض د. علي حقيقة الحداثة، ومدى وصول الكاتب إليكو إلى الحقيقة التي يبتغيها، ومن خلال ذلك يعرض لمفهوم الشّك والتّخمين، فيُشير إلى أدزو سارد الرّواية، الذي استند إلى فعل “أخمّن”، إضافة إلى الشّك الناتج من تصرّفات غوليالمو، وكان في اقتباسة لقول ادزو تأكيد لهذا الشّك، يقول لنا أدزو : “والشكّ ـ الذي كان دائماً يبديه [غوليالمو] ـ بأن الحقيقة ليست تلك التي تظهر له في الآونة الحاضرة”؟
ويقودنا الباحث في رواية “اسم الوردة” إلى بعض العلامات التي اعتمدها الكاتب عبر أبطاله للوصول إلى المجرم، ويرى أنّ العلامة بناء على ذلك علامة باهتة تؤشّر، ولكنّها تبقى على مسافة واضحة من الحقيقة اليقينيّة. ومن خلال ذلك يمكننا القول إنّ مسألة الوصول على الحقيقة والبحث عنها معقدة، وقد توصّل الفلاسفة توصّلوا إلى نظرياتهم التي اعتبرها كلّ واحد منهم حقيقته الخاصّة. وهطذا هو الإنسان في سعي مستمر في الحياة للوصول إلى الحقيقة وبلوغها كمماسة وقيمة معياريّة أساسيّة، ولطالما كان هدف الفسلفة الوصول إلى الحقيقة وثمّ تحقيق السّعادة. وقد عبّر كاتب “اسم الورد” عن هذه المفاهيم، وعن صراع الإنسان مع أفكار الآخرين الذي يكون من أجل الحكم على حقيقة الأشياء، مع تأكيد اختلاف معرفة حقيقة الأمور بين كلّ عقل وآخر.
وتحاول الرّواية أن تحدّد عددًا من التّناقضات والثنائيات ، منها ثنائية الشّكّ والتّخمين، إضافة إلى التناقضات بين العقل والجنون، الخير والشر، التسامح والتشدد، النضج والسذاجة، الدين والروحانية، العلم والسحر، الإمبريقي/ التجريبي والنظري.
واللافت في رواية “اسم الوردة” أنّها أشارت إلى عظمة الحضارة العربيّة الإسلاميّة، فتم ذكر العلوم عند العرب وتقدّمهم في هذا المجال، واختراعاتهم المتعدّدة في علوم الطّبّ والفلك، كما أشارت إلى تعدّد المؤلّفات والكتب، وبرز ذلك في الحوار الذي دار بين غوليالمو ورئيس الدّير منذ اليوم الأوّل . فإنّ هذه الحقبة التي سميّت بالعصور المظلمة في أوروبا هي في الحقيقة عصور مزدهرة في أرض العرب، وأنّ هذه الحضارة الأوربيّة التي نتغنّى بها الأن ما هي إلّا نتاج الحضارة العربيّة وما سبقها من حضارات، وقد عرفناها لأنّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة لم تنكر فضل من سبقها، إنّما اعترفت بها وتابعتها، بينما هذه الحضارة الأوربيّة انطلقت بحضارتها ناكرة من سبقها, ولعلنا هنا نتوافق مع المفكر قسطنطين زريق عندما أطلق على هذه الحضارة الجديدة بالحضارة الحديثة رافضًا تسميتها بالحضارة الأوربيّة لأنّها نتاج الحضارات المتعدّدة ونتيجة التّفاعل الثقافي بين الشّعوب.
وقد أشار الدّكتور علي زيتون في بحثه إلى هذا الرّبط بين رواية “اسم الوردة” والتّراث العربيّ، فيذكر: “التخمين وغياب اليقينيّة في قراءة العلامات وعلامات العلامات تذكرنا بما جاء في كتاب “الطراز” للبحراني الذي عاش في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، أي قبل زمن الرواية، القرن الرابع عشر الميلادي ، وزمن ايكو، القرن العشرين بأمد طويل . ربط البحراني قبل سوسير العلامة بالمفهوم، رفض قبله مقولة انّ العلامة اسم لمسمى . العلامة ثنائيّة قائمة على (دال/مدلول) . ولقد توصّل إلى ذلك وفق الطريقة التي استخدمها ايكو، حتى لكأنّ ايكو، يردّد كلام البحراني في قوله الآتي: “إن أنت رأيت شيئاً من بعيد، دون أن تعرف ما هو، فستكتفي بتعريفه كجرم ممتدّ . وعندما يقترب منك ستعرف آنذاك أنه حيوان، حتى وان كنت تجهل ان كان جواداً أو حماراً. وعندما يقترب أكثر سيمكنك القول أنه جواد”.
هذه هي رواية “اسم الوردة” التي استطاعت أن تترك أثرًا كبيرًا في الأدب والثقافة، واستطاع كاتبها أيكو من الجمع بين الفلسفة والرّواية والسيمائيّة والتّفكيكيّة، فشكرًا لدكتور على على هذه المطالعة المهمة التي قدّمت لنا الرّواية وأثرت مخزوننا بأفكار ومعلومات مهمة، وحفزتنا الى البحث.
والشكر موجه لكم عل حسن استمتاعكم … وإلى لقاء قريب.
دكتورة دريّة كمال فرحات.
03514870
dorriaf@hotmail.com