لغة عمر شبلي الشعرية في مطوّلته
«إلى الحسين بن علي(ع) شاهداً وشهيداً»
بقلم علي مهدي زيتون
أــ مدخل نظري : يقوم على نقطتين : الرمز الحسيني ، والرمز الحسيني والشعر .
1ــ الرمز الحسين: الرمز التاريخي لا يكون رمزاً في زمن صاحبه . زمان صاحبه يوفّر المادة المرجعية فقط . نعني بها التفوّق اللافت في ميدان من ميادين الحياة . هذا التفوّق الذي يصبح بعد انقضاء زمن صاحبه، أنموذجاً يُتَمثّل به، ويقاسُ عليه . استطاع كرم حاتم الطائي ، مثلاً ، اختراق الأجيال على مرّ الزمان . تحدّث به الناس جيلاً بعد جيل . وهذا الاحتضانُ الذي تقوم به الذاكرة الجمعية ليس احتضاناً حيادياً . تغذّى الكرمُ الحاتميّ من تجارب الأجيال المتتالية مع الكرم . وهو ، بهذا الغذاء النامي، أصبح رمزاً. ينضج الرمز التاريخي على نارٍ هادئة بعيداً عن أي استعجال .
والرمز الحسيني، وان كان رمزاً تاريخياً ، إلاّ أنه يختلف عن غيره من الرموز التاريخية . نشأت رمزيته من تفاصيل حياة الإمام(ع) اليومية . تلك التفاصيل التي يحمل كلٌّ منها رمزيّته من خلال حدوثه . فالحسين(ع) ليس شخصيّة تاريخيّة يمكن ان تتوازى معها أية شخصيّة أخرى . يكفي ان يجترح الفعل ليكون هذا الفعل رمزاً مثقلاً بدلالته . ما بالك برجل قال عنه الرسول الأكرم (ص) «حسين منّي وأنا من حسين» ؟ ألا تكفي هذه الاشارةُ لتؤكّد ما ذهبنا إليه بخصوص هذه الشخصيّة ؟ كيف لا وقد نشأ الحسين(ع) وتربّى في مدرسة علي بن أبي طالب(ع) الدينية والأخلاقية والثقافية ؟ لقد تهيّأ له ما لم يتهيّأ لأيّ إنسانٍ آخر على الأرض . فهو خصوصيّة دينيّة أخلاقية ثقافيّة مكّنته من تفاصيل سلوكيّة أدّت الى أن تكتمل رمزيّته ساعة استشهاده(ع) .
ومهما يكن من أمر، فانّ الرموز التاريخيّة العاديّة تأخذ من اللغة الشعريّة بقدر ما تعطيها . تقدّم معرفة بالعمق الذي وصلت إليه رؤية شاعرٍ ما في جانب من جوانب العالم المرجعي . هذه المعرفة التي تعود لتغذي ذلك الرمز بمثل ما غذّاها.
أمّا الرمز الحسيني فهو نبع ثرّ يمنح الشعريّة من وهجه ما يمنحها، ولا يستردَّ من تلك الشعريّة ما يمكن أن يغذّي القيم الحسينية التي اكتملت مع اكتمال شهادته . رسوليّة الامام الحسين(ع) جعلت من رمزيّته رمزيّة متعالية على التاريخ؛ لأن شخصيّته، بعظمتها ، غير قابلة للتكرار .
2ــ الرمز الحسيني والشعر: احتفظت الذاكرة الثقافيّة بالوهج الوضّاء الذي تدفّق من جرح الحسين(ع)، أمّا الذاكرة الشعبيّة، مع تدفّقها وشدّة اندفاعتها، فانها قد عجزت عن حمل أمانته، وناءت به . يعني أنّ الشعر بوصفه عمقاً ثقافياً، وحده القادر على تقديم تلك الرمزية، فما الشعر ؟ ثم ما علاقة الشعر بالرمز ؟
الأدبيّة ، على وجه العموم، هي ذلك النسيج اللغوي الذي استطاع أديب ما، من خلاله ، ان يعبّر عمّا نفذت إليه رؤيته من عمقٍ من أعماق العالم المرجعي . فكانت الأدبية ، بناء على ذلك، ثلاثية الأبعاد : رؤية نافذة، عمق من أعماق أحد جوانب العالم المرجعي، لغة كاشفة عن ذلك العمق . ولا يستطيع أي ضلع من هذه الأضلاع الثلاثة أن يوجد مستقلاً . والانتقال من الطابع العام للأدبيّة إلى الطابع الخاص المتعلّق بالشعريّة، يضعنا في مواجهة السلطة العليا التي تحكم مكوّنات أية رؤية إلى العالم . واذا علا سهم المكوّن الثقافي داخل الأدبية على سائر مكوّنات الرؤية من قناعات، وهموم ، واهتمام، وأنفعال من دون أية منازعة للثقافة على حاكميّتها من قبل أيّ مكوّن آخر ، فان الوضع في الشعريّة مختلف . والاختلاف ، هنا، من حيّز الانفعال . الانفعال في الشعرية استعارٌ يبلغ حدّ التوهّج بما يجعله منافساً جدّياً للثقافة على سلطتها، ولكن من دون أن يعني ذلك تهميشها . انه يحاول جرّها ومن خلفها القناعات، والهموم، والاهتمامات إلى وضعيّة تبئيريّة تجعلها متمحورة حول جزء دقيق من أعماق العالم المرجعي، خصوصاً أن محرّك ذلك الانفعال هو تماسّ الشاعر مع الحياة .
وإذا كان المجاز الذي أسماه جان كوهين (الحيد) معرّبةً من كلمة (l’écart) الفرنسية هو جذر الشعريّة (poéticité)، فانّ الرمز طاقة متعالية تستطيع التقاط أيّ عمق مرجعيّ يعجز المجاز عن التقاطه ..
وإذا كانت حقيقة المجاز مرتكزة إلى قدرته على تعويض القصور المنهجي الذي تتصف به مفردات اللغة في وضعيّتها المعجمية ودلالتها الوضعية؛ لأنّ كل ّ واحدة منها عنوان عامّ لا يقوى على تقديم خصوصيّة ما . فكلمة (فرح) مثلاً، علامة لغوية على ما لا يعدّ ولا يحصى من أنواع الفرح ودرجاته، ولا يمكنها التقاط خصوصيّة (فرح) أحدهم في وضعيّة من وضعيات حياته . فالاحتمالية التي يتصف بها المجاز وحدها القادرة على الامساك بفرح خاصّ احتمالي هو الاخر . وإذا وازنّا احتماليّة المجاز بالاحتمالية التي يكتنزها الرمز وجدنا الاحتمالية الثانية متعالية على الاحتمالية الأولى بما لا يُقاس . ويعني ذلك أنّ الرمز هو البديل حين تُعْجز المجازَ وسائلُه عن إدراك ما توهّجت به ثقافة شاعر ما من معرفة . فكيف إذا كان هذا الرمز هو الرمز الحسيني والقضيّة التي يستكشفها الشاعر قضيّة تتعلق بوجود الانسان ومصيره على الأرض ؟
ولئن برزت الذات ، ذات الشاعر ، بشكل واضح في معظم الرموز التاريخية فأعطتها بعضا من وهجها، فان القضيّة هي المتعالية بشكل حاسم ، في الرمز الحسيني .
ب ــ المستوى الاجرائي: يقوم على مجموعة من النقاط هي: سيمائية العنوان، وشعرية المعجم، وشعرية الصورة .
1ــ سيمائية العنوان: يشكّل السياق النظري السابق مدخل البحث إلى الرسالة الشعريّة التي توجّه بها الشاعر عمر شبلي «إلى الحسين بن عليّ شاهداً وشهيداً» . وان يقرن عمرُ اسمَ الحسين(ع) باسم والده عليّ(ع) يعني أنه يقيم قراناً وظيفيّا غير حياديّ . وإذا كانت كلمة (الحسين) وحدها كافية للاشارة إلى الحسين الشهيد، فان اقترانها بكلمة (علي)، أنما يمثل إشارة قويّة إلى مدرسة دينيّة أخلاقية ثقافية أسسها عليّ(ع) ، بناء على فهمه الإسلام، ذلك الفهم العميق الخاصّ، وسار على نهجها تلامذته . وارتباط الحسين وعترته الطاهرة(ع) بالإمام علي(ع) ليس ارتباطاً عائلياً، مع أهميّة ذلك الارتباط، هو ارتباط مدرسيّ ثقافي . وهذا ما أبقى الحسين(ع) برمزيته المكتملة والعصيّة على المحاصرة ، شاهداً على التاريخ اليزيدي المستمرّ ، وشهيداً في كلّ المعارك التي تُخاض ضد يزيد كلّ عصر من العصور .
2ــ شعريّة المعجم: معجم أيّة قصيدة ليس مجموعة كلماتها التي حضرت في متنها . الكلمة في قصيدة ما منتمية إلى تلك القصيدة دون غيرها من القصائد، وهي بقدر شراكتها مع نفسها في القصائد الأخرى ، هي مختلفة مع نفسها أيضاً . هي مخلوق متجدّد الولادة مع كل استخدام جديد . معجم القصيدة، بناء على ذلك، هو معجمها المختلف عن ذاته حين يرد في أية قصيدة أخرى؛ لأن رؤية الشاعر إلى العالم لا تتساوى مع رؤية أيّ شخص آخر من الناس ، وهي لا تتساوى مع نفسها في لحظة أخرى . ما أريد الوصول إليه هو أن المعجم مكوّن فاعل من مكوّنات بنية اللغة الشعريّة الخاصة بقصيدة محدّدة . والمستوى المعجمي في أية قصيدة هو معجم متعدّد التجلّيات . لعلّ أهمّها : التكرار ، وحضور بعض الحقول المعجمية .
1.2ــ التكرار في مطوّلة عمر: إنّ ورود كلمة محدّدة في إحدى القصائد وروداً عابراً لا يتحوّل إلى علامة دالة . تردّد الكلمة نفسها بوتيرة لافتة يحوّلها إلى علامة تفرض حضورها على المتلقي فيتنسّم دلالتها بناء على رؤيته إلى العالم، لأنّ العلامة نفسها حمّالةُ أوجه. تداعب رؤى المتلقين فتمسك كل رؤية بما استطاعت الحصول عليه من تلك الأوجه .
والتكرار في مطوّلة عمر شبلي عن الإمام الحسين(ع) ليس تكراراً مستقلاً عن الحقول المعجميّة . هو متداخل معها بقدْر .
ورد اسم الحسين(ع) في هذه المطوّلة ما يقارب الثلاثين مرّة . وإذا مثل تردّدُه هذا التردّدَ الأعلى بالنسبة إلى سائر كلمات القصيدة، صار هذا الاسمُ سلطة تمسك بزمام سائر الكلمات فتحدّد مسارها الدلاليّ وتغذّيها بأبعادٍ جديدة تعطيها خصوصيّتها الدلالية ، وانتماءها إلى القصيدة . وحين يخرج التكرار بهذا الاسم من كونه اسماً لشخصيّة تاريخيّة غير عاديّة، ليتحوّل إلى علامة تشير إلى مقام ثقافي جهادي يستحضر رمزيّة هذا الإمام(ع) بكلّ تدفّقها وتعاليها الأخلاقي والنفسي، يعني أنه لا يمكنها أن تكون علامة معزولة . كيف لا وقد تحلّقت حولها مجموعة من الكلمات الحافة بمقام هذا الإمام(ع) ورمزيته ؟
فقد تردّدت كلّ من كلمتي (الشهيد) و(الجرح) ما يقارب العشرين مرّة، وكلّ من كلمتي (ذبيح) و(يبكي) عشر مرّات .
وعبرت كلٌّ من كلمتي (الرأس) و(كربلاء) النصَّ ستّ مرّات . أما كلمة (الدماء) فخمساً ، وكلمة (العنق) ثلاثاً ، ومن يعد إلى السيرة الحسينيّة يجد أنّ هذه الكلمات هي كلمات مفتاحيّة في تلك السيرة . تبدأ من (الجرح) لتعبر (العنق) و(الذبح) إلى (الرأس) وصلاً إلى (الدماء) و(البكاء) اللذين تحتضنهما (كربلاء) . وإذا كانت هذه الكلمات خصوصيّة حسينيّة تومئ كل واحدة منها إلى كربلاء، فانها لم تعد لتشكل حقلاً مكوّناً من مجموعة كلمات تنضوي تحت عنوان واحد، بقدر ما باتت تحمل اسم (الحسين) بوصفها علامات فارقة تخصّه وحده دون سائر الناس . فاذا تضايفت وتائر ورود هذه الكلمات إلى وتيرة تردّد كلمة (الحسين) في القصيدة قارب العدد التسعين مرّة . ويمثل هذا العدد الجامع علامة كبرى تقدّم التجربة الكربلائية المتحيّزة في تاريخ معروف قضيّة إنسانيّة كبرى يقف فيها الجرح الحسيني الذي يجتاز التاريخ مرحلة مرحلة ليلاحق الظلم اليزيدي الذي يجتاز ، هو الآخر، التاريخ مرحلة إثر مرحلة متّخذا في كلّ مرّة شكلا جديدا ولونا مضلّلا مختلفاً . ويؤكد هذا الترابط القائم بين هذه الكلمات من جهةٍ ، وعنوان المطوّلة من جهةٍ أخرى «الحسين شاهداً وشهيداً» ، ما تردّد من كلمات أخرى تغذّي الشهادة وحقلها وتقدّم خصوصيتها خصوصيّة مختلفة عن أية شهادة أخرى .
وردت في حقل الدين كلمة (الصلاة) ما يزيد على العشر مرّات ، وكلمة (المآذن) المرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً ما يقارب السبع مرّات ، لترد كلمة (الجنة) مرّة واحدة .
ويضعنا هذا في مناخات مقولة الإمام علي(ع): «إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً بجنّتك، ولكنني وجدتك أهلاً للعبادة [الحق] فعبدتك» .
ويشير هذا إلى أن الإمام الحسين(ع) منتم إلى المدرسة العلويّة انتماء ثقافياً راقياً . حساب الحق متعالٍ فيها ، بشكل قويّ وواضح ، على حساب الجزاء . وهذا ما يقدّم لنا شخصيّة الحسين(ع) شخصيّة رساليّة غير عادية . ولقد استدعى كلّ هذا، بالضرورة ، ورود كلمة (درب) والمقصود به الدرب الحسيني، ما يزيد على الخمس عشرة مرّة وإلى جانبها الفعل (تعلّم) عشر مرات . هذا الفعل الذي يشير إلى الدور التربوي التعليمي الذي يضطلع به ذلك الدرب .
وإذا كانت شخصيّة الحسين(ع) شخصيّة رساليّة من طرازٍ فريد عال كان لا بدّ من حضور (الدرب) و(المدرسة) مثل هذا الحضور . هذا ولا تُختصر رساليّة الإمام(ع) بأضعف الإيمان ، ولكنها رساليّة تقدّم سلوك الحسين(ع) عينَ قناعاته . فقد وردت كلمة (سيف) ما يقارب الخمس عشرة مرّة ، و(الحصان) ، و(الصهيل) ما يزيد على العشر مرّات ، ترتفع إلى جانبهما كلمة (راية) حوالي الستّ مرّات . ويعني ذلك أن الجهادية في سلوك الإمام(ع) صنو قناعاته تلازمها وتذود عن صدقيّة حضورها .
ويبقى أننا إذا أردنا أن نخرج بحصيلة معرفيّة من هذه الاحصائيّة المتعلقة باسم (الحسين)(ع) ، فاننا لن نخرج منها بحصيلة جديّة إذا لم نقف عند ثنائيّة (الخصوبة/الجفاف) . وردت كلمة (نهر) عشرين مرّة تقريباً، وكلمة (فراتُ) ما يزيد على العشر مرّات، تعضدها كلمة (غمام) التي تردّدت ما يقارب الخمس عشرة مرّة .
هذا ولا نجد قبالة حقل الماء الصديق هذا سوى نهر معادٍ واحد هو (المسيسبي) الذي لم يحضر سوى مرّة يتيمة واحدة .
وإذا أضفنا إلى حقل الماء حقل النبات الذي يتصل بالخصوبة التي ينتجها الماء، وجدنا كلمة (تخيّل) قد تردّدت خمس عشرة مرّة ، وكلمة (شجر) خمس مرّات . وإذا جمعنا حقل النبات إلى حقل الماء تحت عنوان الخصوبة بات لدينا حقلٌ يقارب السبعين مفردة . وإذا عرفنا أن كلمات مثل (نهر) و(فرات) و(نخيّل) تومئ بغير التفاتة إلى تجربة الحسين الكربلائية، أدركنا ما تعنيه هذه الإشارة العلاميّة في مواجهة اليباب الذي تسلّل إلى جسد القصيدة عبر كلمة (صحراء) التي تردّدت إحدى عشرة مرّة، وكلمة (رمل) عشر مرّات ، وكلمة (جفاف) ثلاث مرّات، وكلمة (الظمأ) ثلاث مرّات، أي ما يقارب الثلاثين مرّة . ومما يجدر ذكره، في هذا المقام ، إنّ تفوّق حقل الخصوبة بما يقارب الضعفين إنّما يمثّل إشارة إلى بعدٍ تفاؤلي مؤسّس على انتصار الدّم الحسيني على السيف اليزيدي مهما تقلّبت الحقب والأزمان .
2.2ــ الحقول المعجمية: إذا كان التكرار غير مستقلٍّ عن حقول معجميّة محدّدة شكّلت إطاراً وجّه الدلالة وجهة حسينيّة، فان مجموعة أخرى من الحقول قد استدعاها موضوع الحسين(ع) بوصفه شاهداً وشهيداً، وهذه الحقول هي حقل المعارك، وحقل الأعلام، وحقل الأماكن.
1.2.2ــ حقل المعارك: أوردت مطوّلة عمر شبلي الحسينية أسماء مجموعة من المعارك من مثل: (بدر)، و(أُحد)، و(حنين) و(مؤتة)، و(كربلاء)، و(غزة)، و(الجنوب اللبناني)، فرسمت خارطة الصراع الذي تخوضه الأمة استناداً إلى محوريّة معركة (كربلاء) . وإذا مثّلت كلّ من (بدر) ، و(أحد) ، و(حنين) صراع الأمة ضدّ الجاهلية ، مؤسّسة برسالتها تلك لزمن جديد ، و(مؤتة) انطلاقة تلك الرسالة إلى العالم ، فان (كربلاء) قصيدة عمر قد أرسلت إشاراتها الضوئيّة باتجاهين: كانت استكمالا للمعارك الاسلاميّة الأولى في مواجهة انبعاث القبليّة الجاهليّة من خلال (يزيد) التاريخ ، وكانت تأسيسا لمعارك الأمّة الحديثة في فلسطين ولبنان. فما جرى في غزّة وجنوب لبنان هو بعض من إيحاءات كربلاء وامتداد لها . إن حضور هذه المعارك بعينها في مطوّلة عمر شبلي لا يشير إلى الدور الذي أدّته كربلاء في وصل النهايات بالبدايات بقدر ما مثّلت إشارة تفاؤليّة، حتى لكأنها تقول لنا: بالحسين وحده يُواجه يزيد العصر اعتمر كوفيّة ، أم اعتمر قلنسوة حاخامية .
2.2.2ـــ حقل الأعلام: اشتملت المطوّلة ما يقارب الخمسة عشر اسم علم هي: (الحمزة، الشمر، وحشيّ، الفاروق، الحرّ، صلاح الدين، يزيد، يوسف، محمد الدرّة، الفرزدق، مسيلمة، أبرهة، أبو أيوب الأنصاري، ابن زياد، بوش) ، فرزتها القصيدة نفسها قسمين متناقضين . والفرز قد أجري بناء على الميزان الحسيني . ولعلّ ما يلفت الانتباه هو أنّ اسمين معاصرين قد حضرا إلى جانب تلك الأسماء التاريخية . أحدهما يمثّل المظلوميّة الحديثة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، عنيت به (محمد الدرّة) بكل رمزيّته التي تعيد دماءه المنتصرة على السيف الإسرائيلي بنسبها إلى الدم الحسيني الذي انتصر على السيف في كربلاء .
والثاني يمثّل الظالم العالمي المركزي الحديث الذي وصفه الإمام الخميني(قده) بالشرّ المطلق . عنيت به (بوش) بكلّ رمزيّته التي تعيد نسبه إلى يزيد وتستقطب حوله جميع ممثلي يزيد هذا الزمان . ولئن أشارت هذه المواجهة بين ما يمثله (محمد الدرّة)، وما يمثله (بوش) إلى أمر ، فانها تشير إلى البوصلة المرشدة . فمن أضاعها هوى في جحيم الظالمين، ومَن استنار بها أرشدته إلى سواء السبيل . فاميركا رأس الشر، وقضيّة فلسطين رأس الحق . إنها البوصلة الحسينيّة التي تقيم حداً فاصلاً واضحاً بين المظلوم والظالم، بين الحق والباطل .
وممّا يجدر ذكره، هنا، هو أن تفوّق عدد الأسماء المنتمية إلى دائرة الظالمين على عدد الأسماء المنتمية إلى دائرة المظلومين انما تمثّل إشارة إلى صعوبة المعركة ، ودعوةً إلى أن نكون حسينيين في الزمن الصعب .
3.2.2. حقل الأماكن: حضر حقل الأماكن بكثافة لافتة في مطوّلة عمر الحسينية: (الكوفة ، غزّة ، الجنوب اللبناني، البصرة، النجف، الدجيل، جلّق، المسجد الأموي، الكرخ ، الرصافة، الملويّة ، الجنائن المعلّقة، مؤتة، ساحة التحرير، القدس، سينا، الجولان، الربذة، الطف، حراء، سامرّاء، الكاظميّة، الأعظميّة، أم الطبول، بحر البقر ، قانا) ، أي ما يقارب الستة والعشرين مكاناً . وهذا رقم يعني حضوراً قوياً للمكان . وحضور المكان في هذه القصيدة لا يمثل حيّزاً للحركة ومسرحاً للأحداث ، فتشاركه الشخصيّة في تكوين علاميّته ودلالته . أمكنة القصيدة مجحموعة رموز استدعتها التجربة الحسينية، فحضرت حاملة بين برديها تاريخاً مكثّفاً ، وشخصيّة مكثّفة ، وهمّاً عابراً التاريخ مكثّفاً. لا تصلنا كلمة (الكوفة) بمدينة اختطّتها حركة الجيوش الإسلاميّة في زمن الفتح فحسب ؛ لأننا عندما نقرأ اسم هذه المدينة نجد أنفسنا أمام رمزيتها المغذّاة بتجربة كلّ من عليّ(ع)، والحسين(ع) معها . انها مكان مثقل بالدلالة ، يحرّك انتباهنا في اتجاهات متعدّدة ، فيقدّم الينا دلالة احتمالية الابعاد مفتوحة .
ويطول بنا الحديث لو وقفنا أمام رمزية كلّ واحدٍ من هذه الأماكن الواردة . ما يشملها انّ أيّاً منها لا يستطيع ان يكون مستقلاً عن الرمز الحسينيّ في هذه القصيدة .
فالأماكن العراقية التي بلغ عددها ستة عشر مكاناً ، وهو العدد الأكبر بين الحقول الفرعية التي يمكن تصنيفها داخل حقل المكان المحوري ، تمثل إشارة إلى المكانة التي تمثّلها الساحة العراقيّة في تاريخ الأمّة من جهة ، وعلاقة هذا التاريخ بالحدث الحسيني على وجه الخصوص من جهة ثانية .هذا وتتوسّط عقد هذا الحقل كلمتان هما اسمان لمكان واحد (الطفّ)، و(كربلاء) . ويعني ذلك أننا لن نتمكّن من الامساك برمزيّة أيّ مكان من هذه الأمكنة العراقية مستقلاً عن (كربلاء)، بؤرة المواجهة والمؤسِّسة لحركة الصراع التي شهدها تاريخ أمتنا من زمن يزيد إلى زمن بوش .
ومما يجدر ذكره، في هذا المقام، اننا لا نستطيع قراءة المكان الفلسطيني إلاّ في ضوء المكان العراقي . وإذا كنا لا نستطيع أن نخرج بعض الأماكن العربية من دائرة المكان الفلسطيني من مثل: بحر البقر ، وسيناء، والجولان ، والجنوب اللبناني ، وقانا ، فلأنها جميعها قد تعرضت لظلم العدو الذي تعرّضت له الأماكن الفلسطينيّة .
والمكان الفلسطيني هذا متّصل بنسب القربى والدم والمظلوميّة بكربلاء المقدّسة . ولا يمكنه إلاّ أن يكون امتداداً لها .
وممّا يجدر ذكره ، أنّ نوعين من الأمكنة قد اهتمت بهما القصيدة العمرية . مثلت (حراء) و(أم القرى)، و(مكة) فضاء مكانياً إسلامياً ، ومثّلت (جلّق) فضاء مكانياً عربياً . ولقد تناغم الفضاءان حتى بلغا حدّ التوحّد الذي أسس لكربلاء عابرةٍ التاريخ ، حاملةٍ التفاؤل بالنسبة إلى المكان الفلسطيني الذي يمثل كربلاء جديدة .
3ــ شعريّة الصورة: رأينا ، في ما سبق، أن معجم القصيدة ، من الناحية الاحصائية ، يؤدي دوراً واضحاً في انتاج شعرية القصيدة . وهذا الدور، مع أهميّته، لا يمكنه التوازي مع الدور الذي تؤدّيه الصورة في هذا المجال . فالواقع الموضوعي للعالم قائم على نسق سببيّ منطقي يعيه العقل، فيكون الوضوح هو السمة الغالبة . أمّا حين تتصدّى رؤية شاعرنا لجانب من جوانب ذلك العالم، فانها تتجاوز ظاهر ذلك الجانب الذي يتساوى الناس ، إلى حدّ كبير في استيعابه، لتنفذ ، كما رأينا ، إلى عمق ذي خصوصيّة احتمالية لا تمسك بها إلاّ الصورة التي تشكل الاحتمالية سمتها الغالبة فلا تشغل بالها بالمقدمات المنطقيّة ولا بما يترتب عليه من نتائج . انها تخضع لسببيّة انفعالية رؤيوية واقعة خارج دائرة المنطق .
يعني أنّ الخروج على النسق الموضوعي السببي والدخول إلى دائرة السببيّة الشعورية لا يقدّم لنا معنى واضحاً قابلاً لفهم محدّد ، ولكنه يقدّم لنا دلالة احتمالية تحمل بعداًمختلفاً مع كلّ متلقّ مختلف . ولا وجود للشعرية خارج الصورة الفنيّة .اللغة الشعرية هي الصورة عينها.
1.3ــ رمزية الفرات وشعريته: يحتلّ الفرات في مطوّلة عمر موقعاً غير عاديّ ، تحوّل إلى رمز يختصر مواجهة الظلم والظالمين قديماً وحديثاً . فقد خاطب الشاعرُ الإمام الحسين(ع) قائلاً :
ومن أيّ نهرٍ توضّأت يا سيّد الشهداءْ ؟
إلى الآن نهر الفرات يضنّ على الشهداءِ
بقطرة ماءْ
أفي كلّ يوم على النهر (شمرٌ) جديدْ ؟
و(بوشٌ) جديدْ ؟([1])
خرج الاستفهام في السطر الأوّل من هذا النص على وظيفته التي أوجدته اللغة للقيام بها. الاستفهام ، هنا ، لا يقتضي إجابة ولا يطلبها .
وما خرج إليه هذا الاستفهام لا ينفي أن يكون الإمام الحسين(ع) قد توضّأ بماء الفرات فحسب، ولكنه يخرج بالوضوء نفسه من دائرة الوضوء، من دلالته الوضعيّة بصفته كلمة ، وعن وظيفته العمليّة بصفته تمهيداً للصلاة أيضا . حتى الصلاة لم تعد الصلاة العبادية المعروفة. يطلّ هذا الاستفهام بغير التفاتة إلى الشهادة .
ووصف الإمام(ع) بسيّد الشهداء كان استحقاقاً مؤسّساً على ذلك النوع من الوضوء . والنهر الذي توضّأ الحسين(ع) من مائه ليس نهراً . التبس بالقيم الاخلاقية والثقافية التي يعتنقها الإمام(ع) . صار إيّاها، كما كانت إيّاه . ولا تأخذ شعرية الفرات في السطرين الثاني والثالث زينتها من خلال اسناد الفعل (يضنّ) الخاصّ بالبخل إليه، بقدر ما تتجلّى بالبعد الكنائي الذي يقوم عليه هذان السطران . تلك الكناية التي أقامت اتصالاً بين زمن الإمام الحسين(ع) ، والزمن الحديث . فالظلم الذي تعرّضَ له الإمام(ع) ما زال قائماً . فالفرات مستلب وماؤه محرّف عن مواضعه . لم يتحرّر ، بعدُ ، من ربقة البشعيْن : (الشمر) و(بوش) :
أفي كلّ يوم (شمر) جديدْ ؟
و(بوشٌ) جديدْ ؟
يعني أن المعركة التي بدأها الحسين(ع) في مواجهة الظلم لم تزل قائمة . وإذا حمل (الشمر) رمزيّة الأداة الظالمة في زمن الحسين(ع)، فان (بوشاً) قد حمل رمزية الأداة الظالمة في عصرنا الحديث . ويأتي العراق ساحة محوريّة لهذا الصراع الذي احتل فيه الفرات موقعاً فاصلاً . فمن يمسك به يمسك بالعراق . وما كان الفرات ليمثّل هذه الرمزية في مطوّلة عمر لو لم يكن على علاقة بالمأساة الحسينية التي ارتقت لتكون مأساة الأمّة نفسها، في تاربخها القديم وتاريخها الحديث .
ولئن أومأ (فرات) القصيدة إلى أنّ مظلوميّة الأمّة الحالية متصلة بالمظلومية التي تعرّض لها الحسين(ع) ، فان محاولة تحرير هذا النهر من أسره ما زالت قائمة ؛ لأنه ما زال أسيراً منذ أن وقع في أسر يزيد والشمر .
لم تزلْ غمامةٌ مقهورةٌ
تبحث عن أرضٍ بلا (شمرٍ) ، بلا (يزيدٍ)
حتى تحطَّ حملها
ونحصدَ الغمام من جديدْ
وتمرع البلاد بالشهيدْ([2])
إنّ تنكير كلمة (غمامة) لا يشير إلى ندرة الغمام فحسب، خصوصاً ذلك الغمام الذي يمكنه أن يحمل همّ قضيّة كبرى، ولكنّه يشير إلى عدم خلوّ الساحة من وجود مثل ذلك الغمام أيضاً . ووصف تلك الغمامة بالمقهورة لا يسبغ عليها هويّة إنسانية فحسب ، ولكنه يشير إلى حساسة ذلك الهم أيضاً ، والذي يتبدّى مع هذا القهر قضيّة كبرى . فما طبيعة هذه القضيّة؟ لا يقوم السطر الأوّل على مسألة نحوية (التنكير) ، وأخرى مجازية فقط، ولكنه يقوم على كناية لا تخلّص الكلمات من أحمالها الدلاليّة التي أشرنا إليها فحسب ، ولكنها تومئ إلى أنّ ثورة جنينيّة حديثة قيد التشكل، خصوصاً أن الفعل (تبحث) الذي أُسند إلى تلك الغمامة إنما يقوم على علاميّة تشير إلى استمرار المعركة، وان كان بالقوّة ، وليس بالفعل . ويعني ذلك غياباً للحضور وانتظاراً له في الوقت نفسه .
والبحث عن أرض بلا شمر ولا يزيد كناية تعضد الكناية السابقة وتشير إلى أنه لا توجد الآن ، مثل تلك الأرض . ولا يوجد قبالة هذا الغياب سوى الاصطبار والأمل . والفعلان (نحصد) و(نمرع) هما فعلان مرتبطان بالخصب ويعودان بنسبهما إلى تلك الغمامة الفراتيّة المؤمنة بانتصار الحسين(ع) وان طال الزمان، وامتد لقرون عديدة . وهذا فيه من التفاؤل ما فيه . وهذه الغمامة التي سمعت الفرات يقول للغزاة :
«أنا الذي ما زلت ظمآناً إلى غمامة»([3]) ، هي نفسها الغمامة التي سمعته يقول: «لن أخذل الثوّار مرّتين»([4]) .
ويعني ذلك في ما يعنيه إنها الغمامة التي ظمئ إليها النهر، وان القضيّة الكبرى ما زالت بذرة حيّة ولن تموت .
وإذا كان حضور مثل هذا الإيمان حضوراً تفاؤلياً ، فان الانتقال ، من البحث عن أرض بلا شمر ولا يزيد ، إلى عتاب للفرات هو انتقال إيجابي ، وخطوة إلى الأمام . كيف لا، وقد خاطب الشاعرُ الإمام(ع) قائلاً :
«أشعلْ لنا جراحك يا حسين
نريد أن نعاتب الفرات والنهر حين يجهل النار التي تنمو على
الضفاف
يظلّ رغم مائه متّهما
بالشحّ والجفاف»([5]) .
لا يخرج عتابُ الفرات بذلك النهر إلى هويّة بشريّة بقدر ما يزيل الخدودج بين الرموز الحسينية، لتتواشج داخل ظمأ الإمام(ع) عند ضفة ذلك النهر الغزير المياه ، فتشكل علامة شديدة الدلالة على التخاذل .
إنّ رمزيّة الفرات التي يُراد منها أن تكون عنواناً لمقاومة الظلم، لم تكن كذلك . كانت إشارة خفيّة إلى ما تدخره أمتنا وجغرافيا أمتنا من خيرات لم توظّف الوظيفة المطلوبة . فما نفع ماءٍ (خيراتٍ) تتجاهل النار النامية ؟ والعتاب إذاً لم يقم بوظيفته المرتجاة تحوّل ، وبشكل آليّ ، إلى اتهام . وإذا كان الاتهام بالشحّ اتهاماً أخلاقيّاً ، فان الاتهام بالجفاف اتهام بفقدانم القيمة والدور . فهل ينتظر الشاعر من النفط العربي أن ينتفض على سارقيه ،ومتجاهلي حقوق الشعب الفلسطيني فيه ؟ وصرخة كهذه الصرخة كم هي مجدية ؟ ما مقدار محمولها الايجابي ؟ ألم يتحوّل ذلك النفط سلاحاً بيد أعداء الأمّة ؟ كم أنت حزين يا عمر ؟
2.3ــ شعريّة الموقف: خاطب الشاعر الإمام(ع) قائلاً:
«ونحن يا حسينْ
ومنذ أن أقفرت الأرحامُ والأصلابْ
لا نعد القدس سوى بأشهر النسيءْ
لكنّها في الحرْ لا تجيء
في القرّ لا تجيءْ
فآه يا نسيء
نودّ أنّ راية نرفعها في الأشهر الحرامْ»([6])
وإذا كان النسيء زيادة في الكفر يستحضر خصلةً من خصال الجاهلية، فانّ الفرار من الحرّ والقرّ ما زال يسوّغ التقصير، ويستحضر المأساة العلويّة مع رجاله ناقلاً إياها من زمانها حين حُرِمَتْ الأمّة من نهضتها ، إلى زماننا الذي ما زال يعيش مأساة النسيء والفرار بكل أبعادهما. ولا يعوّض الفعل (نودّ) البعد المأسوي ، مع أنّ اللغة قد أوجدته واحة للأمل .
فهو لا يبشّر بقرب رفع أية راية في الأشهر الحرام، لأنه لا ينتمي إلى دائرة الفعل ، يقف على مسافة واضحة من الفعل (نجترح) . فهل يدخل ذلك شيئاً من اليأس إلى نفوسنا .
الحزن العمريّ حزنٌ منهجي يقلّل من ذلك اليأس؛ لأنّ معرفة الطريق إلى فلسطين قد ترمّم ذلك الحزن وتحوّله فرحاً .
وكلام عمر الذي يصف فيه حال الأمّة حين قال:
«قتلتنا الفتاوى التي لا تسمّى العدوّ عدوّاً
تحلّل أكل الجرادْ
وقد أكل الأمريكانُ البلادْ»([7])
لا يصبّ في دائرة السلبي تماما، إنه يضع الإصبع على الجراح . ووضع الاصبع على الجراح هو الطريق الوحيد وأساس الشفاء .
ويعني ذلك توجيه إصبع الاتهام ، وبشكل مباشر لا لبس فيه ، إلى جميع أولئك الذي يحرّفون الكلم عن مواضعه خدمة لعدوّ الأمّة الحقيقي المتمثّل بالعدوّ الإسرائيلي .
كأني بعمر يقول لا يمكن القضاء على الوجود الصهيوني في فلسطين من دون القضاء على ظهيره العربي الذي يحاول إيهام الناس بأن العدوَّ من يرسل السلاح إلى غزة وليس من يقتل الناس في غزة . فالمعركة حين تُخاض يجب أن تُخاض ضدّ كلّ يزيد بقطع النظر عن اللباس الذي يتنكر به . والانتصار لن يكون إلاّ بالحسين(ع)، ولا يوجد تفاؤل خارج دائرة الحسين ، وعمر حين يقول :
«رأيتك مطعوناً على الفجر تتّكي»([8])
فانه يومئ إلى أن الفجر، زماناً ، هو الولادة المعادلة للولادة التي يجترحها الفرات مكاناً . ولذلك أحب عمر الفرات :
«فرات
أحبك يا أيها النهر يحكي لنا
كيف يأتيك في جيشه قاتلٌ
ويصير القتيل»([9])
فما تبدّى انتصاراً يزيدياً، كان وهماً، كان هزيمة قياسا على سلّم القيم الإنسانية التي أعلنت مع شهادة الحسين(ع) انتصار الدم على السيف ، فأعطى هذا الانتصار الفرات رمزيته الخالدة على مرّ الزمان .
كلمة أخيرة :
ويبقى أن الشعر الحسيني ذو مذاق خاصّ . فالكلمات فيه تخلع عن نفسها أعباءها التي حُمّلتها ، عبر التاريخ، من نصوص هي هامش إذا ما قيست بنصّ الإمام الحسين(ع) . والشعر ، حين يكون شعرا حسينيّا ، هو الآخر يخلع عن نفسه الأحمال التي حمّله إياها كلٌّ من أدونيس ، وجان كوهين، وكمال أبو ديب ليصبح لغة متعالية على أيّة لغة أخرى . ولعلّ الشعر الحسيني هو غاية الشعريّة العالميّة وحلمها ؛ لما يحمله من هموم وقضايا عابرةٍ الزمان مجتازةٍ المكان إلى غايةٍ لا تدرك إلاّ بظهور المخلّص . ومهما يكن من أمر ، فإنّنا لن ننصف مطوّلة عمر الحسينيّة إذا لم نشر إلى المرقى الذي بلغته وهي تقوم بالعمليّة الكشفيّة التي أناطتها بها رؤية الشاعر من ناحية ، وما استطاعت تلك الرؤية من الوصول إليه في عمق التجربة الحسينيّة الفريدة من ناحية أخرى . رؤية عمر إلى العالم رؤية مثقّف كبير ، لم يتملّك ثقافة عصره تملّك المستريح إلى أريكته الوثيرة ، تملّكها وهو مثقل بعبء انعدام المسافة بين قناعاته وسلوكه ، جريا على القاعدة الحسينيّة نفسها . يعني أنّه كان يعتصر الثقافة بقدر ما تعتصره الثقافة . كان يحرجها بأسئلته بقدر ما كانت تحرجه بما تطرحه عليه من هموم . بمثل هذه الثقافة قرأ عمر التجربة الحسينيّة فنفذ إلى عمق ما كان لأيّة ثقافة أخرى أن تصل إليه . ما أريد أن أقوله هو أنّ مطوّلة عمر قد تحمّلت بأمانة متناهية مسؤوليّة الشعريّة في هذا الزمان ، ومسؤوليّة أن تكون تلك الشعريّة ملتزمة بقضايا الإنسان الكبرى على الأرض .