الكناية ودورها الدلالي في نهج البلاغة
بقلم علي مهدي زينون
تمهيد :
يقوم هذا البحث على نقطتين أساسيتين : الأولى محاولة نظرية لتقديم فهم محدّد للكناية ولوظيفتها في إنتاج أدبية الأدب ، والثانية محاولة إجرائيّة لقراءة الكناية في «نهج البلاغة» وإبراز جمالياتها . وذلك في ضوء ما سنحصّله من فهم نظري .
أــ مفهوم الكناية ووظيفتها نظرياً:
يتدرج هذا المبحث من مفهوم الأدبية وصولاً إلى مفهوم الكناية ووظيفتها:
1ـ الأدب مادّةً مخترَقة: كانت قراءة العالم أو (اكتشافة)، وما زالت المثير المحرّك الذي يدفع الانسان إلى التفكير. ولقد توزّعت عمليّة التفكير هذه على مجموعة من الحقول وُصِفت بأنها حقول معرفيّة، لما تشكله المعرفة من همّ محوري فيها . فعلم الاجتماع آليّة معرفيّة مادّتها المجتمع، وعلم النفس مادته النفس البشرية، وقل الأمر نفسه بالنسبة إلى مختلف العلوم التي انتجها الإنسان . وكان كلّ علم من العلوم الانسانية يرى أن له السلطة المعرفيّة، واليد العليا في التعامل مع الحقول المعرفيّة المختلفة،يحاول اختراق أيّ حقل آخر يستضعفه. ولعلّ المستضعَف الأوّل الذي امتدّت معظم أيادي العلوم إليه، ورأت فيه حقلاً معرفياً ملحقاً بها هو (الأدب)، استتبعه التاريخ إلى دائرته، ورأى فيه نتاج حياة الكاتب من جهة، ونتاج المرحلة التاريخيّة التي تفيّأ تحت ظلالها من جهة ثانية، فهما بالنسبة إليه الفاعلان القويان في إنتاج الخطاب الأدبي . ورأى علم النفس أن الأدب بعض من أحلام اليقظة التي لا يستطيع فك رموزها سواه . وآمن علم الاجتماع إيماناً شديداً بأنّ المجتمع هو السلطة المكوّنة للأدب . وهذا ما يسوّغ له استتباع النشاط الأدبي إلى دائرة اهتماماته المعرفية، وما كان يخطر ببال أية فلسفة من الفلسفات التي عرفها الإنسان أن الأدب مستقل عن سلطتها . وما كان للأدب ، بالنسبة إليها ، أن يُقرأ قراءة مجدية من خارج الملامح التي تراها فيه هذه الفلسفة أو تلك .
2ــ حركة الأبوياز والأدبية: جاءت هذه الحركة في ظلّ مرحلة الحداثة الغربيّة لتواجه هذا التدخّل وذلك الاختراق الذي تقوم به تلك العلوم، معلنة وجود (علم أدب) يقف إلى جانب تلك العلوم، من دون أية مركبات نقص، ويحول دون تدخلها في حقله المعرفيّ (الأدب) . وكان أوّل ما قامت به على طريق تخليص الأدب من ذلك التدخّل هو تقديم فهم علميّ جديد لثنائيّة (الشكل/المضمون) قوامه أنّ الأجراء (الشكل) ليس سوى التشكيل الخاصّ للمادة (المضمون) التي يمكن أن تخضع للعديد من الاجراءات المختلفة، ولا يمكن فصل أحد طرفي هذه الثنائية عن الاخر، فهما وجهان لحقيقة واحدة غير قابلة للتجزيء. أمّا الثورة الثانية التي اجترحتها هذه الحركة في دفاعها عن الأدب، فهي مقولة (أدبيّة الأدب) المرتكزة إلى أن الأدب فنّ لغوي . والنسيج اللغوي لأيّ خطاب أدبي هو (الأدبيّة) عينها التي تشكل حقل اشتغال (علم الأدب) .
ويدفعنا موقف حركة الابوياز إلى أن نرى أنّ الأدب حقل ذو خصوصيّة تشكّل مادّة لاكتشافات (علم الأدب)، تماماً كما أن لكل حقل معرفيّ آخر علمه الخاص. وعلم الأدب، بناء على ذلك، شريك تلك العلوم في عملية اكتشاف العالم المرجعي، وليس قاصراً ليدّعي هذا العلم أو ذاك حقّ حضانته .
3ــ الكناية وموقعها من تقنيات الأدبيّة الأخرى :
وما دام الأمر، كما رأينا، فان للباحث الحقّ أن يدخل (علم الأدب)، وان يفكّر من داخله، ومن خلال آليّات اشتغاله . وتأتي ثنائيّة (النثر/الشعر) لتطرح علينا أسئلتها . ولعلّ السؤال الأوّل الذي يفرض نفسه هو: هل من حدود صلبة قائمة بين طرفي هذه الثنائيّة؟ والجواب البدهيّ هو ان الحدود مفتوحة بالاتجاهين وفي معظم المواقع . ذلك أن مصطلح الأدبيّة يضمّ بين جناحيه فنيّة النثر مثلما يضمّ فنيّة الشعر. ويدخلنا هذا الأمر مدخل اللغة . أوجدت اللغةُ (كلمةً) علامةً لكلّ شيء من أشياء العالم المرجعي المعروفة، محسوساً كان ذلك الشيء أم مجرّداً .
ويعني ذلك أن مفردات أية لغة محدودة العدد، تبعاً لمحدوديّة أشياء العالم المعروفة، ولن تمكّنها محدوديتها من جهة، واتصاف كل مفردة من مفرداتها بصفة العموميّة التي تتخذ شكل عنوان عام من جهة أخرى ، من التعبير عن الخصوصيّات التي لا حصر لها. فلا تستطيع هذه المفردات في حدود الاسناد الوضعي العادي أن تنقل إلينا الأبعاد غير المتناهية التي تقع داخل القشرة التي التقطتها اللغة من العالم . ولا بد للغة، أية لغة، من أن تبتكر الوسائل التي تعوّض مثل هذا القصور الذي تتصف به ، فلا يمكننا أن نعبّر بكلمة (فرح) عن جميع أنواع الفرح التي ندركها، ولا عن مختلف درجاتها . وقل الأمر نفسه بالنسبة إلى (البغضاء)، و(المحبّة)، و(الحقد) و(الأنفة) وغيرها([1]) .
ويأتي (التشبيه) و(الاستعارة) ليشكلا تقنيتين فاعلتين في عملية تعويض قصور اللغة في حالها الوضعية([2]) ، وإن لم يكونا التقنيّتين الوحيدتين . وهذا ما يثير في وجهنا سؤالاً مبدئيّاً هو: أين تقع (الكناية) على الساحة التعويضيّة التي ابتُكرت في مواجهة قصور اللغة وفق مستواها المعجمي الوضعي ؟
4ــ وظيفة الكناية الدلالية وسلطتها على سائر التقنيات:
إن الكناية المشهورة في البلاغة العربيّة والمرتبطة بالفروسيّة (طويل نجاد السيف)، لا تنفي، كما نعرف، الدلالة المباشرة في أن هذا الفارس ذو نجاد سيفٍ طويل قياساً على نجاد سيف فارس آخر، ولكنها لا تقتصر على هذه الدلالة. وهذا ما يذكّرنا بـ(أسطوريّة) بارت، ويضع أمامنا فكرة (اللغة المسروقة) التي ارتكزت إليها تلك الاسطوريّة . وإذا كانت (أسطوريّة) بارت وظيفيّة إغوائيّة تلجأ إليها طبقة اجتماعيّة مستغِلّة؛ لتضليل طبقة اجتماعيّة أخرى (مستَغَلّة)، (فتغسل دماغها) من أجل استمرار سيطرتها واستغلالها، فان (الكناية) العربية، كانت وظيفيّة كشفيّة تخدم رؤية الأديب في تقديم ما نفذت إليه من عمقٍ في جانب من جوانب العالم المرجعي .
وندخل هنا باباً أدقّ ، وذلك عبر السؤال الآتي : إذا كان (المجاز) تشبيهاً أو استعارة يمثّل قراءة خصوصيّة محدّدة، عمقا نفذت إليه الرؤية ، فما الذي تمثله الكناية في قراءتها؟ تتطلب الإجابة وقفة عند نموذجين أحدهما تشبيه والآخر استعارة .
تحدّث امرؤ القيس عن دموعه نتيجة رحيل احبّته، فقال:
كأنّي غداة البين لمّا تحمّلوا لدى سمرات الحيّ ناقف حنظل
وإذا كان مستوى غزارة دموع الشاعر مسألة معرفيّة لا بد ـمن أن يلتقطها المتلقّي ، إلاّ انها ليست الدلالة الفعليّة التي يقصدها امرؤ القيس . ما قصده هو الإشارة إلى الحزن الكبير الذي تنطق به تلك الغزارة . ويعني ذلك أننا ، بناء على لغة بارت ، أمام (لغة مسروقة “مقترضة”) وظيفيّة محكومة ،هنا،ببراءة التوظيف بعيداً عن سوء النية التي أومأ اليها بارت. ويصل بنا هذا الأمر إلى أن التشبيه غير مستقلّ عن الكناية التي هي لباب الشعريّة التي يحملها التشبيه. فالغزارة لغة مقترضة تُدخلها باب الكناية .
ونجد الأمر نفسه بالنسبة إلى الاستعارة . فعجز بيت البحتري :
كلانا بها ذئب يحدّث نفسه بصاحبه والجدّ أتعسه الجدّ
والذي أُسنِد فيه الفعل(أتعس) إلى (الجدّ) فأدخل العبارة في باب الاستعارة التي اكسبت (الجدّ) هويّة فنيّة إنسانية اسبغت عليه طاقة تعبيريّة لا تقدّمه (جدّاً) سيء الطالع فقط، ولكنها تضعنا أمام احتماليّة مفتوحة، فلا يمكن أيّ متلقٍّ أن يتنبّأ بنتيجة الصراع القائم بين حظّي كلّ من الشاعر والذئب . أننا أمام نتائج مجهولة .
ويعني هذا أن الاستعارة ما كان لها أن تبلغ مداها التعبيري عن عمق الخوف الذي انتاب الشاعر لولا الكناية التي استدرجت الاستعارة إلى مداها . قدّمت الاستعارة النتائج مجهولة، والنتائج المجهولة هي المادّة التي اقترضتها الكناية لتعبّر عن أمر آخر تحتمله ويقع على مسافة أبعد . نعني به حجم الخوف الذي تملّك البحتري . ولا يعني ذلك أنه لا توجد كناية مستقلة عن التقنيّات التعبيريّة الأخرى . فقول المتنبي : «بناها فأعلى» في بيته
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا وموج المنايا حوله متلاطم
هو كناية واضحة مستقلة، بشكل عام، وان كانت غير قادرة على أن تأخذ مداها التعبيري لولا وجود استعارتين إلى جانبها هما: «القنا يقرع القنا»، و«موج المنايا حوله متلاطم» . والتركيب «بناها فأعلى» لا يهدف إلى تقديم (فائدة الخبر)، وان كانت هذه الفائدة موضوعة في الحسبان.اقترض الشاعر هذا التركيب الدالّ على عظمة الباني وعظمة البناء. ليصل إلى ما هو أبعد من ذلك. أدخلت الاستعارتان سيف الدولة دائرة الاسطورة .وإذا نحن أمام طبقات من معنى المعنى اجترحتها الكنايات المتراكمة . ومما يجدر ذكره ، في هذا المقام، أنّ وصف بارت اللغة المؤسطرة بانها (مسروقة) هو وصف صحيح في الثقافة السياسيّة الغربيّة؛ لأنها لغة مسروقة فعلاً . وذلك لغاية سياسية سلبيّة بعيداً من البراءة التي يحاول المستغِل إيهام المستغَل بها .
أمّا في الخطاب الأدبي العربي، فلا يجوز استخدام مصطلح بارت؛ لأنّ الغاية من (الكناية) هي تمكين الشاعر أو الأديب من الامساك، بوساطة اللغة، بالعمق الذي نفذت إليه رؤية المتكلم في جانب من جوانب العالم المرجعيّ . ولعل المصطلح المناسب، في مثل هذه الحال، هو (اللغة المقترضة)؛ لأن الاقتراض قائم على علاقة واضحة بين طرفين ليس فيها افتراء ولا تدليس . وهو يحفظ حقّ المقرِض ويسمح للمقترِض بالإفادة من المقترَض. غايتها الوصول إلى معنى المعنى الذي تحدّث عنه الشيخ الجرجانيّ .
ب ــ الكناية ووظيفتها الدلاليّة في «نهج البلاغة»:
يعالج هذا المبحث مجموعة من العناوين التي تتدرّج في تقديم المسائل.
1ــ الكناية والبعد السيمائي العلامي: ويبقى أنّ الكناية سواء وظّفت التشبيه ، أم الإستعارة، أم الإستفهام، أم كانت مستقلة عن أية تقنيّة تعبيريّة أخرى ، هي علامة سيمائيّة تحمل دلالة ما . وهذه العلامة ليست كغيرها من العلامات السيمائيّة . إنّ تحيّزها داخل اللغة يجعل منها علامة مقترِضة للغة بحثاً عن معنى المعنى . وهي ، في اقتراضها هذا، لا تهدف إلى أن تقدّم دلالة تقريريّة واضحة ، ولكنها تهدف إلى تقديم دلالة احتماليّة تستطيع التقاط خصوصيّة رؤيويّة لا يمكن التقاطها إلاّ بلغة احتماليّة مفتوحة .
والسيمائيّة منهج معرفيّ تعامل معه القرآن الكريم بشكل دقيق وواسع ؛ لأن القرآن الكريم كان يتوخّى من العلامات التي أشار إليها تقديم حقائق يقينيّة للناس . ولقد أفاد الإمام(ع) من هذا المنهج في مواضع عديدة من «نهجه» . تحدّث عن البيت الحرام وعلاقة الناس به، فقال: «وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته»([3]) . وبقطع النظر عن ورود كلمة (علامة) وأهميّة تحيّزها في مرحلة البدايات الاسلاميّة، فانّ قراءة الإمام(ع) هذه العلامة المتشكلة بالاستناد إلى عبارتين، هما: «لتواضعهم لعظمته» و«إذعانهم لعزّته» تشكّلان كنايتين، (لغة مقترضة) ،إنما يمثل وعياً مبكراً من الإمام بالعلامية، وبكيفية التعامل معها . فالكنايتان ليستا للتعبير عن موقع الانسان قياساً على تعزّز الله وتنزّهه كما تحتمله فائدة الخبر في العبارتين، ولكنهما إشارة إلى قدسيّة البيت الحرام، وإلى وظيفته التربوية والثقافية والاجتماعية والإنسانيّة.
ويقول في مكان آخر: إنّ الله قد أرسل النبيَّ(ص) «إزاحة للشبهات، واحتجاجاً بالبيّنات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمتلاث»([4]) . وإذا كانت وظيفتا النبي(ص) الأولى والثانية اللتان تعبّران عمّا هو يقيني من إزاحة الشبهات، واستخدام العقل احتجاجاً بالبيّنات، فان الوظيفتين الثالثة والرابعة تمثّلان وعياً إضافيّاً بالعلاميّة، كيف لا وهما تنطلقان إلى ما هو احتمالي . فالحذر والخوف غير قابلين للقياس بمقياس دقيق . هما حالان نفسيّتان مفتوحتان على كلّ احتمال . ويوصلنا هذا إلى أنّ العلاميّة السيمائيّة حاضرة بقوّة في تفكير علي(ع) وثقافته الإسلاميّة، وهذا ما يثير، في وجهنا ، سؤالاً منهجياً . إذا كان عليّ (ع) قد اقترض (الآيات) و(المثلات) في أثناء قراءته بعض وظائف النبي(ص) من خارج اللغة، فكيف اقترض اللغة لقراءة ما أراد قراءته ؟
2ــ الكناية المصفاة أو المخلّصة:
ذكر عليّ(ع) اللهَ قائلاً: «متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده»([5]) . ولقد أراد التعبير عن رؤيته إلى غنى الله عن الإنسان، فلم يجد وسيلة، أنجح من أن ينطلق من فقر الإنسان إلى خالقه . ويعني ذلك أنّ الإمام(ع) لا يريد أن يقدّم إلى القارئ معلومات لا يعرفها، فائدة الخبر . أراد أن يقدّم إليه لازمه؛ فدخل مدخل الكناية التي اقترضت الكلام لتذهب بنا إلى عمق متعلّق بصفات الله لا يمكن لتفكيرنا أن يسْبره إلى منتهاه. فثنائيّة (الاستئناس/ الاستيحاش) وثنائيّة ( السكن/ فقد السكن) الخاصّتان بالإنسان تقدّمان الذات الإلهيّة ذاتاً منزّهة يعجز العقل البشريّ عن استيعابها . ذلك العقل المؤسّس على السببيّة التي أودعها الله في خلقه (العالم)، فكيف لعقل كهذا أن يفقه صفات خالق السببيّة . ظلّ هذا العقل عند تخوم صفات الله . أهي مستقلة عنه، أم هي عين ذاته ؟
وأورد الإمام(ع) التشبيه إلى جانب الكناية وأشركه معها لأداء الدلالة المقصودة، يوم جاءه الناس مبايعين: «فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع إليّ ينثالون عليّ من كلّ جانب [حتى لقد وطئ الحسنان، وشُقّ عطفاي] مجتمعين حولي كربيضة الغنم»([6]) . فلو عزلنا التشبيهين وأبقينا على الكناية مخلّصة «حتى لقد وطئ الحسنان، وشقّ عطفاي» لوقعنا على كناية تقترض (فائدة الخبر) لتعبر بها إلى لازمه . ويكون هذا اللازم عادياً إذا وقفنا عند حدود الإشارة إلى العدد الكبير الخاص بأولئك الذين انثالوا إليه من كلّ جانب . فالفعلان الماضيان المبنيّان للمجهول لا يشيران إلى أنّ ما حدث للحسنين ولعطفي الامام قد ضاعت مسؤوليته فحسب ، ولكنّهما يشيران إلى ضخامة الحشد الذي سلك سلوكاً غريزياً أيضا ، فتحوّل من جديد، إلى لغة مقترضة .
تشير هذه الغريزيّة إلى خوف صاعق شكّل مادّة اقتراض جديدة تشير إلى أيمان عميق كانت تخفيه تحت طبقات عديدة من الغرق في الضلالة، إيمانٍ بأنّ عليّاً(ع) هو المنجاة . ويؤكّد هذا المعنى التشبيهان اللذان رافقا تلك الكناية . وإذا إشار (عرف الضبع) إلى كثافة تهافت الناس عليه، فان (ربيضة الغنم) أدخلت المتهافتين في عداد الأنعام، وذلك من خلال تقلّص دور العقل إلى حدّ الاختفاء لتطغى عليه غريزة النجاة من المأزق الجمعي . وهذه الدلالة الاحتماليّة التي قدّمتها الكناية لا يستطيع أيّ متلقّ أن يتمثلها من دون الإرتكاز إلى الثقافة التي يمتلكها الإمام(ع) من جهة ، وإلى مشروعه الاجرائي لمبادئ الاسلام من جهة ثانية . ذلك المشروع المرتبط بـ«حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ اللهُ على العلماء ألاّ يقارّوا على كظّه ظالم ولا سغب مظلوم»، بما يعني أن الكناية لم تكن كناية تسوّغ قبول الإمام(ع) بالأمر، فثقافته قائمة على الزهد بالدنيا، كيف لا وهي أزهد عنده «من عفطة عنز»([7]) الحكم مسؤولية لا مكسب . وهذا ما يجعل من انثيال الناس إليه ، إشارة إلى فجيعتين : الأولى أنتجها التعامل مع جموع محكومة بغريزتها الجمعية ،والثانية تجلّت في قبول خلافة قد زهد بها .
وتأتي كناية أخرى لتقدّم الوجع العلويّ المرّ بواقع الناس في عصره ، فتدفع المرء ليتساءل: لماذا جاء الإسلام ؟ وهل تحتاج البشريّة إلى هذه التجربة المديدة المرّة لكي يتمّ اجراؤه مع المنتظر (عج) ؟ قال عن الذين طالبوه بدم عثمان : «إنّهم ليطلبون حقاً تركوه ، ودماً هم سفكوه»([8]) ، في إشارة إلى الكيفيّة التي جرى بها مقتل الخليفة الثالث . وهذه الكيفيّة هي فائدة الخبر التي لم تكن مقصودة لذاتها ولكن للازمها .
فالمعلومات التي تفيد بأن هؤلاء الناس قد حرّضوا على قتل عثمان متخلين عنه، مع أنه إمام المسلمين بالنسبة إليهم ، تعني أنّهم ليسوا حياديين منصفين ، هم شركاء في سفك دمه. وهذا الكلام هو لغة مقترضة تومئ إلى ذرائعيّة هذه الجماعة : الذرائعيّة التي تخرجها من دائرة المبدئيّة، وتقدمها فئة منحرفة عن الإسلام ومبادئه . ويصل بنا هذا المعنى إلى معناه في أن معركة علي(ع) هي معركة الإسلام في مواجهة العاملين على إجهاض حركته ، كيف لا ، وقد نظر إلى هذه الذرائعيّة بعين اليقينيّة التي رأى الإسلام من خلالها؟ فهو قد آمن إلى درجةٍ بات معها رفع الغطاء لا يزيد في ذلك الإيمان ولا ينقصه .
ولم تتجلَّ الأزمة التي واجهها الإمام(ع) في تجربته الاجرائيّة للإسلام مع الفئّة التي ناصبته العداء فحسب، فلو كانت المشكلة عند هؤلاء وحدهم لهان الأمر . تجلّت تلك الأزمة في من عُرفوا بأصحابه أيضاً . وقوله : «إن أحبّ ما أنا لاقٍ إليّ الموتُ»([9]) ، لا يشير إلى عمق الوجع الذي يشكو منه الإمام(ع) تماما؛لأنّ المتلقّي لن يدرك خصوصيّة ذلك الوجع إلاّ إذا سمعه يقول : «أفٍ لكم، لقد سئمت عتابكم»([10]) . وهذا الكلام لا يصلنا بالشعور الذاتي الذي انتاب علياً(ع) حيال أصحابه فقط ؛ لأنّ هذا الشعور لغة مقترضة تخرج به من فائدة الخبر إلى لازمه . وإذا كان العتاب لا يوجّه إلاّ إلى صديق، فهل يعني ذلك أنّ الإمام(ع) كان يتأمّل خيراً من هؤلاء الأصحاب ، فينهضوا معه لمواجهة الفتنة التي أثارها معاوية في بلاد الشام ؟ السأم إشارة إلى أن العتاب قد وُجّه المرّة بعد المرّة حتى بلغ حدّاً أشعر المعاتِب بعدم جدواه . فالتجريب الخائب يقود صاحبه حتماً إلى السأم. ووضع كهذا لا يؤشّر إلى وجود خلل في البنية النفسيّة والاخلاقيّة الخاصة بهولاء الأصحاب فحسب ، ولكنّه يتعدّى ذلك ليشير إلى وضعيّة مرّة يعيشها الإمام(ع) في وقوفه إلى جانب الدين في مواجهة الدنيا أيضاً . إنها إيماءة إلى أن هؤلاء الأصحاب يصبّون في مصب معاويّة ،رجل الدنيا بامتياز، وعوا ذلك أم لم يعوه . واستفهامه عقب الإشارة إلى ذلك السأم قائلاً : «أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضكم»([11]) . هو استفهام كنائي يعبّر عن يأس مكين من استنهاض هؤلاء الرجال . فكيف يواجه الدنيا برجال هم رجالها ؟
إنّ رؤية عليّ(ع) الثاقبة إلى العالم المبنيّة على ثقافةٍ ، إذا أردنا أن نقدّمها قلنا : إنّها الثقافة التي أتاحها العصر، واجه بها الإمام الواقع بيقينيّة ركينة . وثقافته هذه تقرأ الواقع قراءة الانسان الأديب من موقعيّة القائد . فشخصيّة عليّ(ع) ليست شخصية المؤمن الموقن فحسب، ولكنها شخصيّة الأديب الكبير ، والقائد الكبير ؟
3ــ الكناية القائمة على المقايسة: تأتي الكناية القائمة على المقايسة، في خطابته، لتمثّل كناية ذات مذاق خاصّ ، فبعد وقعة النهروان التي خرج منها منتصراً متهيّئاً لإنهاء الوضع الشاذ الذي أثاره معاوية في بلاد الشام، قال في خطبة له : «الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحقّ منه»([12]). وكلام كهذا عابق ، كما يُلاحظ، بصراعيّة واضحة جداً . فالثنائيتات الضديّة متعدّدة :
ــ (الذليل / عزيز) القائمة على ثنائية أخرى ضمنيّة (التعريف / التنكير) .
ــ (آخذ له / آخذ منه )
ــ (القويّ / ضعيف) القائمة أيضاً على ثنائيّة (التعريف / التنكير) .
ونجد إلى جانب هذه الثنائيّات ثنائيتين قائمتين بين مادتي الموازنة 🙁 المستضعف والمستقوي)، نعني بهما : (الذليل / القوي)، و(عزيز / ضعيف) .
أضف إلى كل ذلك ثنائيّة متشكلة من مآلي طرفي الصراع : (المآل الإيجابي ← عزيز «نكرة» / والمآل السلبي ← ضعيف «نكرة») انها رؤية عليّ(ع) النافذة إلى عمق من أعماق العدالة الإسلامية لم تصل إليه أية رؤية أخرى . و(حتى) التي قال عنها لغويّ كبير «سأموت وفي نفسي شيء من (حتى)”؛ لوعورة مسالكها . سلكت بنا في هذه الخطبة مسلكاً طيّعاً . كلمة (عزيز) تضع من يتصف بها في مقام متعال على مقام الناس العاديين .
ولقد احتلّ هذا الموقعَ المتعالي ، عند عليّ(ع) بسبب الظلم الذي لحق به . ، وسيظلّ عزيزاً متميّزاً عن العادي حتى يُنصف من مظلوميّته . فإذا ما أُنصِف خرج من دائرة التعالي ليدخل من جديد دائرة العاديّة التي تعبّر عن صحّة الحياة الاجتماعية ، حيث لا عزيز ولا ذليل . ومما يجدر ذكره، هنا، أن (أل) التعريف التي دخلت على كلمة (ذليل) في الخطبة، إنما دخلت لتسليط الضوء على وضعيته غير السويّة . وذلك عكس كلمة (عزيز)؛ التي لا تحتاج إلى التعريف . وقد أدّت (حتى) الدور نفسه في الجانب الثاني من المقايسة ، فكلمة (ضعيف) تضع من يتصف بها في مقام يتعالى عليه مقام الناس العاديين ، وذلك بسبب الظلم الذي مارسه جرّاء قوّته . وعندما يُنتصف منه يخرج ، بالنسبة إلى علي(ع) من دائرة الضعف ليدخل دائرة العادية التي تعبّر عن صحة الحياة الاجتماعية ، كما أسلفنا .
ويبقى أن هذه الكناية القائمة على المقايسة والضديّة ، قد أدّت دورا كشفيّا غير عاديّ أرتنا مطلقيّة العدالة الاسلاميّة كما رآها الإمام(ع) . ومما يجدر ذكره أنّ مناخ هذه الكناية قائم على بعدٍ تفاؤليّ واضح . إنّ كلمة (عندي) التي تكرّرت في الحالين: حال (الذليل)، وحال (القويّ) ، إنّما تشكّل إشارة إلى الإمكانية لا إلى التحقّق ، التحقّق الفعلي شأن آخر يتطلّب ناصراً . فهل وُجِد الناصر ؟ قال الإمام متحدثاً عن أصحابه : «إنكم ، والله ، لكثير في الباحات ، قليل تحت الرايات»([13]) . وقسم الإمام (والله) ناجم عن تجربة دالّة تقدّم حقيقة قائمة على ثنائيّة ضديّة (كثير / قليل) . وهي لا تحمل معنى (التوبيخ) وحده ؛ لأن توبيخ هذه الجماعة حصيلة حاصل . التوبيخ ، هنا ، لغة مقترضة عبّرت عن خيبة أمل علي(ع) من جهة ، وعن الأزمة التي يواجهها في محاولته إجراء مقولته السابقة في تحويل الذليل إلى عزيز والقويّ إلى ضعيف على قاعدة العدالة الإٍسلامية . إن هذه الأزمة يمكن معالجتها إذا بقيت في حدود الأزمة . سرعان ما تحوّلت إلى مأزق: «إني ، والله ، لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم ، باجتماعهم على باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم»([14]) .
ولقد جاء القسم (والله) مرّة ثانية معضوداً بحرف التوكيد (أنّ) المرتبط بضمير المتكلم ليشير إلى اعتقاد ركين عند الإمام علي(ع) أنّ الأمور متجهة لغير صالح الدين . تضمر الثنائيّة الضديّة (اجتماعهم /تفرّقكم) ثنائيّة ضديّة ثانية داخلها (هم / أنتم) . وإضافة المصدرين إلى هذين الضميرين ينقل الضديّة بالعدوى إليهما . وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثنائيّة الثانية (باطلهم / حقكم) .
ولا تثير مثل هذه الضديّة سخرية مُرّة من موقفين متضادين مثّل كلّ منهما خروجاً بيّناً على المنطق ، وعلى مقتضيات الإسلام ، ولكنّها إشارة إلى إمكانيّة نجاح رجال معاوية في إقامة دولتهم . وهذا يعني أن الإمام(ع) في موقفه مع الدين انما يواجه أزمة غير قابلة للمعالجة .
كان يشاهد بأمّ عينه تهاوي مشروعه أمام مشروع معاوية ، وسقوط مشروع الدين في مواجهة مشروع الدنيا ، إنّها المأزقيّة بعينها ؟
4ــ التشبيه والبعد الكنائي: التشبيه غير مستقلّ عن الكناية ، وهو بها يشكّل قراءة نافذة إلى العمق الذي أمسكت به الرؤية . والهوية الفنية (المشبه به) التي تشكّل القراءة المبدئيّة لذلك العمق سرعان ما تُقتَرض للإيحاء بالمسكوت عنه. والمسكوت عنه لا يعني أن الأديب يتوخّى حجبه عن المتلقي، سُكِت عنه ؛ لأنه لا يمكن تقديمه ، والوصول إلى الغاية منه ؛ إلاّ بمثل هذا السكوت الناطق .
خاطب الإمام(ع) أهل العراق قائلاً: « يا أهل العراق، فانّما أنتم كالمرأة الحامل . حملت فلمّا أتمت أملصت ومات قيّمها وطال تأيمّها وورثها أبعدها» . مستحضراً هويّة المرأة الحامل التي تشكل إشارة إلى أنّ عمل هذه الجماعة ثمرٌ ما زال في طور التكوّن والنماء . فهل سيعطي هذا الثمر أُكُله ؟ يأتي قوله : «فلمّا أتمت أملصت» ليجيب عن هذا السؤال بأنّ ذلك الحمل (عمل العراقيين) كان مجرّد تعب غير مجد . سقوط الحمل أضاع الفائدة . لم يقيّض لهذا الكدح أن يعطي أُكُلَه . وتأتي الإشارة الثالثة «ومات قيمها وطال تأيمّها» لتفيد باستحالة الحمل مرّة ثانية([15]) ، استحالةِ الانتصار وتحقيق الهدف .
وهنا يكمن بيت القصيد من التشبيه فحال أهل العراق الذين بذلوا جهداً ثم أضاعوه هي التي تضمر المسكوت عنه الذي أراد الإمام إيصاله إلى المتلقّي. والمسكوت عنه يفترض إقتراضاً للغة ، وتوظيفاً أدق وأعمق لها ، من أجل الوصول إليه .
وإذا كان تشبيه الجماعة (أهل العراق) بالفرد (المرأة الحامل) إشارة إلى أن تلك الجماعة جماعة متجانسة، بشكل عام، لا تفاوت بين أفرادها في الموقف ، فإنّه يعني في ما يعنيه أننا أمام طبقة أعمق من المعنى تشير إلى أن هذه الجماعة قد تحمّلت مهمّة القتال إلى جانب علي(ع) وهناً على وهن . وقائد مثل علي(ع) يحمل على عاتقه همّ تنفيذ الدعوة الإسلامية بصورتها المثلى يحتاج إلى جماعة ، غير هذه الجماعة المتوافرة .
ويبقى أن الكناية التي حملت ذلك التشبيه بين عطفيها قدّمت الهوّة واسعة بين ثقافة الإمام وقياديّته من جهة ، وبين الامكانات البشرية المتوافرة من جهة أخرى . إنها إشارة إلى أزمة احتمالية قد تصير مأزقاً . دعا عليّاً(ع) تخاذلُ رجاله وتواكلهم ليستذكر صورة المجاهدين الأول الخلّص، فقال: «الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فاحكموه ، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفا وصفاً صفا» ، مقدّما بهذا الكلام ارتباط المجاهدين الأوائل بالجهاد ارتباطاً يصعب تحديده ؛ لأنه تحوّل بفعل التشبيه إلى دلالة احتماليّة يستحيل تلمّس جميع أبعادها. وما أراده الإمام من هذا الكلام ،هو أن يكون كلاماً قابلاً للاقتراض والتوظيف الأدق والأعمق ، من أجل التعبير عن المسكوت عنه الذي يقدّم من التشبيه عمقه الكنائي . فايمان أولئك المجاهدين الذي بدا عشقاً آسراً ، تحوّل إلى مرآة ترينا إيمان رجال علي(ع) إيماناً بلغ من الهشاشة درجة يصعب معها تلمّس أطرافها وأبعادها([16]) وهشاشة إيمان رجاله كلام صالح للاقتراض في مستوى آخر، إذ يكشف لجوء علي(ع) إلى المجاهدين الأوائل وإلى حنين النيب عن همّ كبير من همومه لطالما نذر نفسه له . وهو الجهاد من أجل احقاق الحق وإقامة دولة العدل الإلهي . يعني ذلك أن الجانب الذي قرأه الإمام من جوانب الوجود قد ارتبط بهمومه الكبرى ، الإسلام ، والعدل الإلهي ، والمسلم الحقيقي ، والجهاد الخالص لوجه الله .
5ــ الاستعارة والبعد الكنائي: ارتكزت فعالية التشبيه، كما رآينا، على البعد الكنائي العلامي الذي يفيد من الكلام نفسه ، عبر مستويات متعدّدة، إذ تتوالد الدلالات مستوى بعد آخر، على قاعدة (معنى المعنى) الذي تبيّنه الجرجاني في القرن الخامس الهجري ، الحادي عشر الميلادي . والاستعارة، هي الأخرى ، قد ارتكزت على البعد الكنائي العلامي الذي تحتمله كالتشبيه ، وان كان بطاقة أشدّ ؛ لأنّ الاستعارة توفّر من الاحتمالية ما لا يستطيع التشبيه أن يوفّره . فرؤية الأديب مع الاستعارة رؤية مهيمنة تهدف إلى إلحاق رؤية المتلقي بسببيّتها الخاصّة . من دون أن يعني ذلك سيطرة بقدر ما يعني شراكة مفروضة مع رؤية الأديب . يجد المتلقي نفسه وقد انتقل مع الاستعارة إلى عالم مختلف عن العالم المنطقي السببي له فيه ما للمؤلف ، وان كانت رؤيته فيه رؤية من الدرجة الثانية تشتغل داخل آليات اشتغال رؤية الأديب([17]) . ويصل بنا هذا إلى السؤال المطلوب . كيف تعامل علي(ع) مع الاستعارة ؟
كان دفع الفتنة همّاً محوريّاً عند الإمام(ع) ، خصوصاً في زمن خلافته . تحدّث عمّن أطاعوا الشيطان وسلكوا مسالكه قائلاً: «في فتن داستهم بأخفافها ، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها» . غيّبت الاستعارة، كما يلاحظ ، الهويّة الموضوعيّة المجرّدة لتلك الفتن ، واكسبتها هويّتين فنيّتين محسوستين هما : هويّة الجمل التي تبدّت من خلال الاخفاف ، وهويّة الثور التي ظهرت من خلال الأظلاف . وهاتان الهويتان تقدّمان الفتنة قوة بهيميّة هائلة متمكنة من السحق . ولا يعني ذلك أن الاستعارة هنا قد قامت بالوظيفة التعويضية وحدها، من خلال محاولتها تقديم الفتنة كما رآها الإمام(ع) . فوظيفة الكشف عن خصوصية رؤيته إلى الفتنة لم تقف عند حدود تقديم الفتنة بصورة بشعة . أفادت من تلك الصورة لتصل بنا إلى وظيفة ضمنية هي الوظيفة الاقناعية، إذ يصبح المتلقي ، داخل العالم الفني محكوماً بآليات اشتغال هذا العالم الذي يدخل الخوف من الفتنة قلبه فيبتعد عنها([18]) . ويبقى أنّ المسكوت عنه الذي اقترض اللغة السابقة هو أنّ علياً(ع) ، ومع وصوله إلى قناعه مفادها أنّ الذين غرقوا في أوحال الفتنة بات ميؤوساً من إمكانية إصلاحهم ، قد أراد ان يلقي الحجة على الضائعين في اللحظات الأخيرة التي سبقت الانهيار .
ويعني ذلك أنّ ثقافة الإمام (ع) قد باتت تعيش يأساً مرّاً مما يجري ، حتى لكأنها ثقافة قد وُجدت في غير زمانها ، وفي غير مكانها ، أو لعلّها تمثل خلاص البشرية التي يستنير بها المخلّص في آخر الزمان .
ولقد تعامل علي(ع) مع الدنيا بمثل ما تعامل مع الفتنة . وإذا قُدِّمت الفتنة بشاعةً تدفع للتخلّص منها ، فان جهداً أكثر يجب أن يُبذل لتخليص الناس من شرور الدنيا ، لما تمتلكه من مغريات . قال الإمام(ع) : «إنّ الدنيا قد تصرّمت … لم يبق فيها إلاّ سملة كسملة الأداوة ، أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصديان لم ينقع» . وإذا كانت السملة بقيّة الماء في إناء وهي هويّة فنيّة أعطِيتها الدنيا لتَعرُّف مدى ضآلتها، فانّ الإمام(ع) قد عضدها بأداتين تسهمان في إظهار شحّ تلك الضآلة . الأولى هي الأداوة (إناء ماء التطهّر) التي تمثّل السملة فيها، ما علق في قعرها من رطوبة ، علامةً على ما لا يمكن الإفادة منه، والثانية هي المقلة، تلك الحصاة التي تُقاس بها الجرعة المحدّدة للفرد حين تقلّ المياه. وإذا كانت الجرعة، في ظروف شحّ الماء، هي الدنيا ، فانّ قوله : « لو تمزّزها الصديان لم ينقع» علامة شديدة الإيحاء بخروج الدنيا من دائرة المفيد([19]) .
وإذا كانت الاستعارة العلويّة الخاصة بالدنيا قد وُظّفت لتهوين أمر الدنيا ، فان هذا التهوين سيتحوّل إلى كلام مقترض ، يومئ بغير التفاتة إلى تسفيه الفتنة ، من خلال تسفيه الأساس الذي استندت إليه . ونصل مع تسفيه الفتنة إلى مستوى جديد من مستويات الاقتراض . نعني بذلك اقتراضَ المقترَض . فالفتنة إشارة قويّة إلى أزمة تطال الأمة التي يتصارع فوق حلبتها عدوّان لدودان : الدنيا وأداتها الفتنة في مواجهة الثقافة الإسلاميّة التي ترى الدين أساساً لصلاح الدنيا . فلا عدالة في الدنيا من غير إيمان بالآخرة . الآخرة هي الضابط المكين للعدالة على الأرض ؛ وإذا كانت الآخرة مهزومة في ثقافة الدنيويين الذين يمثلون الكثرة الكاثرة ، فانّ الثقافة العلويّة تواجه وضعاً صعباً لا يسمح لها بالتحقّق .
6ــ الوصف والبعد الكنائي: لا تأخذ الكناية مداها في ما سبق من تقنيات فحسب ، ولكننا نجدها تتعامل مع تقنيات أخرى أيضاً ، كالوصف مثلاً . والوصف تقنيّة وُجدت للكشف عمّا استطاعت الرؤية أن تنفذ إليه من العالم المرجعي . فهي، بناء على ذلك ، طاقة تعويضيّة ، مثلها مثل غيرها. وظيفتها القبض على خصوصيّة رؤيويّة عجزت اللغة العادية عن التقاطها .
وصف الإمام(ع) أصحاب الرسول(ص) قائلاً: «ولقد كنّا مع رسول الله(ص) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ، وأعمامنا . ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليما»([20]) .
يرتكز الوصف في هذا الكلام على مؤشّرين واضحين : الأوّل هو الفعل الناسخ (كنّا) الذي يقدّم وضعية المسلمين الملتفّين حول الرسول(ص) ، والثاني حضور فعلي المضارع (نقتل) و(يزيدنا) اللذين يصفان حدثين . ووصف حدث قتل المسلمين الأوائل آباءهم وأبناءهم وأخوانهم وأعمامهم ليس وصفاً حياديّاً بريئاً يقدّم للقارئ معلومات محدّدة عن حدث محدّد . وهو لا يقصد الإثارة في مشهد قتلِ من كان يجب الوقوف إلى جانبهم ، وهم أقرب الناس رحماً إلى قاتلهم . اقترضت الكناية الكلام الذي قدّم هذا الحدث لتوحي إلينا بثقافة جديدة تقع خارج الثقافة الجاهليّة القائمة على القبليّة وقربى الدم التي يتحدّد ، على أساسها ، السلوك والموقف . وتثير هذه الثقافة الجديدة في وجهنا ، سؤالاً مبدئيّاً : هل كان الحدثُ الذي أشير إليه حدثاً مؤلماً لمعتنقيها ؟ يأتي الجزء الثاني «ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليما» ليحاور ما يمكن أن يكون قد داخل تفكيرنا من أسئلة صامتة غير معلنة . إذا كانت كلمة (تسليم) مغمّسة بشيء من الحزن ، لا الشعور بالخطأ، وبشيء من الأسف على عدم انحياز من قُتِلوا إلى الإسلام ، لأنّ انحيازهم هذا لاغٍ لأيّ حرج من قتل الأقربين ، فانّ كلمة (إيمان) إشارة قويّة إلى ثقة هؤلاء القاتلين بصحّة موقفهم . يعني أنّ الوصف، بمجمله، لم يكن وصفاً حيادياً ، كان وظيفيّاً يقرأ خصوصيّة الموقف الجديد من الحياة المبني على خصوصيّة ثقافيّة مؤسّسة على الموقف الجديد .
وقبالة هذا الوصف الذي أبرز متطلبات الثقافة الاسلاميّة الجديدة وما تفرضه على معتنقيها من مواقف حاسمة ، نجد وصفاً لجيش معاوية ، يحمل غير إيماءة إلى جيش علي(ع) . «ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورُعُثها ، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام ، ثمّ انصرفوا وافرين ، ما نال رجلاً منهم كلمٌ ، ولا أُريق لهم دم»([21]) . لم يصف الإمام(ع) ما قام به جيش معاوية وصف صحافيّ ينقل أحداثاً ، بشكل حياديّ، إلى مؤسسته الإعلاميّة . وهو لم يتوخّ أن يقدّم بشاعة ما قام به جيش معاوية فحسب ، أراد ان يقدّم تخاذل جيشه أيضاً . وموازنة بسيطة بين رجال الرسول(ص) الأوائل وبين رجال علي(ع) ، ترينا كم تبدّلت حال الإسلام والمسلمين، بما يشير إلى أزمة تواجهها الثقافة الإسلاميّة الحقّة في أثناء محاولتها التحقّق على أرض الواقع ، حتّى لكأن الإمام(ع) يرى بعين ثقافته تلك كيف تتهاوى القيم الإسلاميّة أمام ناظريه من دون أن يستطيع رأب الصدع . وذلك بسبب غياب الناصر الحقيقي . إنّ دخول رجال معاوية على المرأة المسلمة وعلى المرأة الذميّة التي أخذ الإسلام على عاتقه مهمة الدفاع عنها ، ثم قيامهم بانتزاع زينة هؤلاء النسوة إنما يمثّل إشارة إلى أننا أمام جماعة إسلاميّة في الظاهر ، معادية له في الحقيقة . كيف لا ، وأن لا تمتنع هاتان المرأتان إلا بالاسترجاع والاسترحام ، بما يعني أننا أمام إشارة تعيدنا إلى النخوة الجاهليّة بكلّ استنسابيّتها البعيدة عن السنن الإسلاميّة وقواعدها الرشيدة ؟
ويضعنا كلّ ذلك في مواجهة الأذيّة التي أوجعت مشاعر الإمام(ع) وأدمت قلبه ، بسبب غياب المدافع الحقيقي . وهذا ما يؤذن بالانهيار الكبير وفق الرؤية العلويّة .
7 ــ السرد والبعد الكنائي: وكما كان الوصف تقنيّة كشفيّة على قاعدة الكنائيّة ، فان السرد هو الآخر تقنية كشفية أخرى . ذلك أنّ الأفعال الماضية التي تشكّل قوام السرد، لا تتالى لتقدّم إلينا معرفة حياديّة ، ولكنّها تمثّل مادّة للاقتراض الكنائي في قراءة ما نفذت إليه الرؤية من أعماق العالم والوجود .
سرَد الإمام(ع) الأحداث التي رافقت مبايعة الناس إياه بالخلافة فقال: «وبسطتم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثم تداككتم عليّ تداك الابل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء»([22]) . ومشهد كهذا إنّما يقوم على مجموعة من الأحداث السريعة التي لا تتطلّب وقتاً طويلاً لتتحيّز في الزمان من مثل (بسطتم يدي) و(كففتها) … الخ . وفاعل هذه الأحداث طرفان: الناس وعليّ(ع) . الناس ، ظاهراً ، يبادرون : الفعل (بستطم) المتعدي إلى يد علي(ع) ، والفعل (مددتم) المتعدي إلى المفعول به نفسه ، والفعل (تداككتم) فعل الناس بقطع النظر عن موقف علي(ع) منه .
وقبالة هذه المبادرة تقع الأفعال المسندة إلى الإمام(ع) في موقع ردّة الفعل: الفعل (كففتها) المتعدي إلى اليد التي بُسطت والمرتبط بإلفاء ، حرف العطف الذي يقدّم فعل (الكفّ) تالياً زمنياً من جهة ، ومتعلّقاً بسابقه(بسطتم) من جهة أخرى ، والفعل (قبضتها) الذي يقع موقع الفعل (كففتها) من جهة ويتجاوزه من حيث التخلص من المبايعة من جهة ثانية . ففعل (القبض) هو ردّة فعل أقوى من فعل (الكفّ) . ولا يعني كلّ ذلك أنّ المبادرة متعالية ، هنا، على ردّة الفعل .
هدفت المبادرة إلى مبايعة عليّ(ع) بالخلافة ، وردّة الفعل رفض لتلك المبايعة . ومن يرفض جائزة بحجم الخلافة يعني أنه يبني موقف الرفض على تفكير عميق وموقف ثقافي إنساني شديد الخصوصيّة والخصوبة . ومن يسعى إلى تقديم مثل تلك الجائزة يعني أنه يبني موقفه على خوف كبير وهلع . ويؤدّي ذلك إلى القول بأنّ المبادرة هي ردّة فعل حقيقيّة على ذلك الهلع ، وانّ ما بدا ردّة فعل من خلال الرفض هو في الحقيقة مبادرة مؤسّسة على تفكير وموقف . وما كان لهذه الأحداث التي سُرِدت لتؤدي إلى ما أدّت إليه بشكل حاسم لولا التشبيه من جهة «تداككتم عليّ تداكّ الإبل الهيم» ولولا الكنايتان المستقلتان اللتان قامتا على فعلين في آخر الكلام : (إنقطعت النعل) و(سقط الرداء) . فالتشبيه قدّم الجماعة جماعة بهيمية، فاقدة الرشد، لا تحسب أيّ حساب لغير الشرب حتى ولو كان في ذلك خطر على الحياة . وهذا التشبيه لم يقدّم الجماعة فاقدة الرشد فحسب ، ولكنّه قدّمها متحرّكة بغريزيّة قاتلة . يؤكّد هذا الكنايتان الأخيرتان : (انقطعت النعل) و(اسقط الرداء) . وان تنقطع نعل المرء ويسقط رداؤه من دون أن يتنبّه إلى ذلك ، يعني أنه في حال من الرعب لا توصف . وإذا ما سبقت هاتين الكنايتين (حتى) التي أفادت استمرار التداكَ ،في إشارة إلى انعدام إمكانيّة التراجع . يعني أنّنا لن نخلص من الكناية المترتبة على أفعال الماضي القائمة على أحداث سريعة ، كما قلنا ، إلى وجود أزمة مرعبة تحيق بالأمّة فحسب، ولكن إلى الإحساس العميق لدى الأمّة بأنّ خلاصها لن يكون إلاّ على يد عليّ(ع) أيضاً، حتى لكأنّ عليّاً هو الماء الذي احتاجه العطاشى الممنوعون منه لمدّة طويلة (الابل الهيم) .
المهمّ أنّ السرد قد طرح قضيّة الخلافة الاسلاميّة بما هي موقع سياسي لتدبير شؤون الأمّة . وقد قدّمها من خلال رؤية علي(ع) وثقافته وبنية شخصيته النموذجيّة في تمثيل المسلم النموذجي تمثيلاً دقيقاً وعميقاً . يعني ذلك أن السرد لا يهدف إلى تقديم معرفة بأحداث وقعت ، هذه الأحداث معروفة . شكّل السرد بنية كنائيّة مركّبة . تقترض الأحداث لتصل من خلالها إلى إثارة أدقّ القضايا وأكبرها . نعني وظيفة المبايعة وشروطها .
ومهما يكن من أمر ، فقد بايع المسلمون عليّاً(ع) مع رغبته في أن يكون وزيراً لا أميراً يسدّد ولا يدير . فما الذي جرى بعد ذلك ؟
«فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة [أصحاب الجمل]، ومرقت أخرى [فسق الخوارج]، وقسط آخرون [جور أصحاب معاوية] … حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها [زينتها]»([23]) . لا ترتبط (لمّا) بالفعل (نهضت) الذي جاء بعدها فحسب ، ولكنها ترتبط بما سبق النهوض بالخلافة أيضاً . ارتبط بالبسطِ والكفّ ، والمدّ والقبض، والتداك الذي استطال حتى انقطعت النعل وسقط الرداء . تضع (لمّا) كلّ هذا في مواجهة ثلاثة أحداث متوازية فيما بينها تهدف إلى إسقاط خلافة علي(ع) .ولقد تمثّلت هذه الأحداث بالأفعال الثلاثة : (نكث)، و(مرق)، و (قسط) . ولا يكشف التزامن بين هذه الأفعال وفعل نهوض عليّ (ع) بالخلافة الأسبابَ التي دفعت عليّاً(ع) لكي يكِفّ يده ثم يقبضها رافضاً المبايعة فقط ، تجاوزت قصديّةُ الإمام(ع) ذلك من خلال اقتراضها تلك الأحداث للتعبير عمّا وصلت إليه الأمّة من أزمة مؤذية ، قوامها إجهاض المسيرة الإسلاميّة وتحويل الزعامة الدينية إلى ملك عضود ، حتى لكأنّي بهذا القائد التاريخيّ النادر يصرخ بلسان ثقافته وقناعاته وتقواه وشخصيّته الاستثنائيّة صرخته الأخيرة في وادي الأمّة السحيق .
ويطرح هذا أسئلة مرّة وصعبة . إذا لم تكن الأمّة مؤهّلة لحمل الرسالة الإسلاميّة فلماذا حُمِّلتها ؟ وهل يحتاج كلام العزيز : «كنتم خير أمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» تأويلاً يأخذ الذهن بعيداً عما يتبادر إليه من فهم ؟ ثم ماذا يعني أن توعد البشريّة بمخلّص في آخر الزمان ؟ هل أدرك الرسول الأكرم أنّ الخلافة لن تستقرّ للثقافة التي يحملها عليّ(ع) ، فتحدث عن ظهور ذلك المخلّص(عج) ، بوصفه نتيجة حتميّة لتعثّر النهضة الإسلاميّة ؟
كلمة أخيرة :
يبقى أننا لم نف الكناية العلويّة حقَّها ، كما أنّنا لم نفِ الكناية ، من الناحية النظريّة حقّها هي الأخرى . فخروج كل من الاستفهام ، والأمر ، والنهي ، والنداء، والتمنّي ، والترجي وغيرها من التقنيات عمّا وُضِعت له في أصل اللغة من وظيفة يدخل في باب الكناية . ويدفعنا هذا لنطرح على أنفسنا سؤالاً مبديئّاً كبيراً : هل تستأثر الكناية بالأدبية ؟ وهل الأدبية هي الكناية ؟ تحتاج الإجابة إلى رويّة ومراجعة تعطي التقنيّات التي رأينا أنها محتواة بالكناية حقّها في الدفاع عن استقلاليتها . ولا يستطيع أحد أن يدّعي القدرة على الإجابة السريعة العجلى . يحتاج الأمر إلى حواريّات مكثّفة وموسّعة تحت قبّة البنية الثلاثيّة للخطاب الأدبي:الرؤية النافذة المتملّكة لثقافة العصر، العمق الذي نفذت إليه الرؤية من العالم المرجعي ، اللغة التي تمثلت ذلك العمق . كل ذلك داخل دائرة نظريّة الكشف التي جاءت بديلة لنظريتي الانعكاس والانكسار ، وفي ضوء المنهج الثقافي .
ويضعنا هذا الأمر في مواجهة سؤال مبدئيّ ثانٍ . هل كانت كنايةُ “النهج” التقنيةَ التي استطاعت أن تواكب الرؤية العلويّة في أثناء نفاذها إلى أعماق مختلفة ومتعدّدة من العالم ؟
يستطيع الباحث أن يقول بيسر وسهولة : إن الكناية العلويّة بوصفها تقنيّة كشفيّة جاءت منتمية إلى الرؤية العلويّة: ثقافةً ، وقناعاتٍ ، وهموماً ، واهتمامات . فقد أومأت ، بوضوح ، إلى مثقّف غير عادي، نستطيع أن نصفه بأنه بلا مثيل . فهو لم يمتلك ثقافة عصره المؤسسة على الإيمان العميق بالإسلام فقط . اعطى تلك الثقافة نسغ القائد التاريخي الاستثنائي الذي خذلته المرحلة التاريخيّة التي تفيّأ تحت ظلالها أيضاً .
وتثير مقولة «أن الأمّة لا تجتمع إلاّ على حق» ، جملة من الأسئلة . أولها : متى اجتمعت هذه الأمّة ؟ وثانيها ما معنى أن تُخذل الثقافةُ العلويّة وعينا الأمّة تنظران إليها ؟ إننا، والحمد لله ، من المنتظرين . ننتظر انتصاراً على جميع أعداء الأمّة بلبوسهم المختلفة الغربيّة ، والاسرائيلية، والبدويّة يجترحه القائد المنتظر . هذا القائد الذي يمهِّد لظهوره المنتظِرون : دولاً ، ومنظّمات الهيّة المنحى ، وأفراداً .
20
([1]) علي زيتون ، أدبية الخطابة الإسلامية ، ص 74 ــ 76 .
([15]) علي زيتون ، أدبية الخطابة ، ص 89 ــ 90 .
([16]) علي زيتون ، أدبية الخطابة ، ص 99 .
([18]) علي زيتون ، أدبية الخطابة ، 147 .
([19]) علي زيتون ، أدبية الخطابة ، ص 147 .
([21]) نهج البلاغة ، ص 69 ــ 70 .