اسم الوردة
كلمة الدكتورة هالة ابو حمدان ألقاها الدكتور علي أيوب
لئن كانت رواية “اسم الوردة” رواية شائكة تتطلب من قارئها أن يكون متسلّحاً بعلوم ومعارف عديدة قبل الولوج إلى عالمها، فإن بحث د. علي زيتون حول الرواية لا يقلّ “وعورة” عن الرواية ويتطلب من قارئه زاداً معرفياً كبيراً. والمهمتان، مهمة قراءة الرواية ومهمة دراسة البحث ليستا سهلتين. وقد مهّد د. علي لدراسته بطرفة يروي فيها كيف أن الحكاية قد تفقد متعتها وجاذبيتها حين تتحول إلى رياضة ذهنية وجهد فكري يبعد التسلية والمتعة عن القارئ. لعله بذلك أراد نقد هذه الرواية، التي أرادها كاتبها أمبرتو ايكو انتقالاً من التنظير السيميائي إلى الرواية، استناداً إلى أن “ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده” على حدّ قوله. ويسأل د. علي: “هل يحافظ الخطاب الأدبي على أدبية لافتة ممتعة إذا مثّل امتداداً للدرس النظري؟”(26). ويجيب بالنفي مستشهداً بتجربة الخليل بن أحمد الشعرية التي أهملها التاريخ لأنها اهتمّت بالجانب النظري على حساب الشعرية الأسلوبية السيميائية. في حين أن تجربة سارتر في “دروب الحرية” وتجربة كامو في “الغريب” صمدتا لأدبيتهما المؤسسة على الرؤية الوجودية لهذين الفيلسوفين إلى العالم، ولم تكونا امتداداً نظرياً لهذه الرؤية (27).
ونظراً لما يستبطن السرد في الرواية من دراسة نظرية، لم يكن من الممكن الغوص في ثناياها دون عرض نظري تمهيدي لمفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة، فعرَض الباحث للحداثة وما بنيت عليه من تسييد للعقل. والسيميائية التي تنتمي إلى “زخم العقل العلمي الذي يتوخّى اليقينية”(ص2) هي علم حداثي، وامبرتو ايكو هو من المشتغلين الأساسيين على هذا العلم، وقد عمل على “تأهيله للعمل في مناخات ما بعد الحداثة وأجوائها”(ص2). وبذلك برهن ايكو، كما يبين علي زيتون، عن “قدرة هذا العلم على اختراق الاتجاهات الثقافية المستجدّة والتأقلم معها”(ص2).
ويشير د. علي بعد ذلك إلى أن مصطلح ما بعد الحداثة يعني سقوط الحداثة والبنيوية، مع ما يستتبع ذلك من سقوط “إمامة العقل”. وهو حسب ما يشرح، “تقويض فلسفة الحضور وإحلال فلسفة الغياب محلها، غياب قصدية المؤلف عن نصّه، وغياب الذات عن الإنسان”(ص3). فالتفكيكية فلسفة هدفها “تقويض مركزية العقل” ورفض المشروع الحداثي الغربي(ص3). ويرى أنها، أي التفكيكية، ترسل بالإنسان “إلى فضاء من التشتت مرعب لا يستطيع الاستعانة فيه لا بالخرافة ولا بالعقل”(ص3). واستشهد بإيمانويل كانت وبنتشه وجاك دريدا. من هنا، فإن “القراءة ما بعد الحداثية، كما يقول الباحث، هي نقل لسلطة التفسير من النص وقصد المؤلف إلى القارئ والمتلقي”(ص3). ويستنتج أن “التفكيكية استراتيجية تأويلية أولاً وقبل كل شيء”(ص4).
بعد التمهيد النظري ينبري الباحث للتعريف بالمؤلف وبنتاجاته النظرية التي سبقت رواية “اسم الوردة” الصادرة سنة 1980، مشيراً إلى “تواصل الخطاب الإيكوي، بشقّيه التنظيري والسردي”، ويفسّر بإيجاز أهم القضايا التي أثارها ايكو في نتاجه النظري. ورواية “اسم الوردة” ما هي “إلا خطاب نظري تحت قناع السردية”(ص5). فمع التفكيكية، “تصبح النظرية والرواية قابلتين لتبادل الأدوار انطلاقاً من قاعدة التناص في المجالين النظري والإجرائي”(26). لذلك فإن هذه الرواية تحوي القليل من الأدبية وتتطلب قارئاً مثقفاً غير عادي (ص5).
ويعرض د. علي زيتون للتمهيد الذي وضعه ايكو لروايته وهو درس في السيميائية. وفيه ردّ على ما جاءت به حركة الحداثة دون ذكرها لأن أحداث الرواية تدور في القرن الرابع عشر ميلادي. ويقيم مواجهة بين السيميائية واللسانية. ويورد مؤلف الرواية ما جاء في الانجيل: “في البدء كان الكلمة” ليقوّض مقولة حداثية من “أننا باللغة نعي العالم ونتملّكه”(ص6). فحسب ايكو “نحن لا نرى حقيقة العالم باللغة، نرى حقيقته من خلال الصور والرموز (العلامات)”(ص6). فالعلامات السيميائية متعالية على العلامات اللسانية، و”الحقيقة ليست بنية جاهزة يمكن القبض عليها عن طريق اللغة” (ص6)، فلا وجود لحقيقة ثابتة عند التفكيكيين. وفي التنافس بين العلامة السيميائية والعلامة اللغوية “تتعالى العلامة السيميائية على أختها” (20). وفي هذا “تقليل من أهمية العقل في العمل التحقيقي” (20). وأبطال الرواية لا يثقون بالقياس المنطقي وبالطاقة التي تحكم ذلك القياس، أي العقل (20).
ويتطرق الباحث إلى المواجهة التي أقامها ايكو بين السيميائية والعقل، حيث يلاحظ تعالي السيميائية على العقل، وأولوية التجارب ذات الطابع الجزئي على المبادئ وذلك في مناخات تفكيكية ما بعد حداثية حيث هناك تهاوٍ لكل من النظام والبنية وانحدار اتجاه المتاهة (ص7).
ويحلّل د. علي كلام سارد الرواية الذي يفترض أنه قيل في زمن الرواية، أي في القرون الوسطى، إلا انه يستشرف منه رؤية ايكو نفسه إلى العالم، ووصفاً لحال الثقافة هذه الأيام، ووصلاً بمصطلحات الحداثة وما بعدها. فيرى أننا “أمام سيميائية تفكيكية أو تأويلية دريدية”. ويفنّد كلام إدسو، أحد شخصيات الرواية، بما فيه من قراءة ضبابية لدلالات متفككة، مذكّراً بمصطلح البعثرة التفكيكي. لكنه ينفي أن تكون السيميائية الايكوية سيميائية عدمية خالصة، بل هي سيميائية غير مخَلَّصة تماماً من انتمائها إلى الحداثة أي إلى العقل العلمي اليقيني (ص11).
“اسم الوردة” حسب الباحث هي رواية مختلفة عن غيرها، صعبة المراس، حيث تحتوي على ما يزيد على المئتي إشارة على علاقة واضحة وقوية بالسيميائية وهذا رقم غير عادي. فالرواية تزخر بالتشكيك والانطباع والعلامات الدّالة أو المضلّلة. ويخوض في النص ليبيّن الأمثلة ويفصّلها ليوضّح لنا ما تحمل من السيميائية ومن اقتراب من الحداثة ويقينيتها وعقلانيتها، أو ابتعاد عنها وجنوح نحو التفكيكية والتيه أو العدمية. وهكذا فإن “ما بعد حداثة ايكو، حسب ما يؤكد من جديد د. علي زيتون، هي تفكيكية غير مخَلَّصة تماماً من الحداثة” (ص13).
وخصوصية ايكو هذه التي “تقيم حواراً بين المرحلتين الثقافيتين الغربيتين”(13) تنطوي على “إمكانية تعاون في بعض الحدود”(13). وبالتالي يمكن “للعقل أن يكون مرجعاً لتحديد الخطأ من الصواب، من دون أن يصل الأمر إلى القول بحاكميته المطلقة من جهة، ولا القول بأن الحقيقة هي وجهة نظر مستقلة عن العقل، أو القول بأنها خاضعة، بشكل كامل، لمقولاته ومنطقه”(13). ويرى د. علي أنه، حسب ايكو، هناك إشارات إلى دور فاعل للعقل في التفكير والوصول إلى الحقيقة، وإن لم يكن حاسماً. إلا أن العقل “ليس آلة جاهزة للتفكير، فهي تحتاج إلى دربة”(19). وهنا يقارن نظرة ايكو إلى العقل بنظرة كانت في كتابه “نقد العقل الخالص” حيث “يجرّد العقل من إمكانية الوصول إلى حقيقة يقينية إذا لم تعضده شروط تؤمن مسالكه إليها” (19).
ويتطرق علي زيتون إلى الآليات التي اتبعها ايكو في عرضه لأحداث الرواية بدءاً من العلاقات التي تحويها الرواية والتي يمكن أن تكون ذات دلالة حاسمة، أو مضلّلة عديمة المعنى أو باهتة الدلالة ومتعددة الاحتمالات، غير حاسمة. ويفنّد الباحث بعض هذه العلامات، مستشهداً بمقاطع من نصوص الرواية. ثم يشرح لنا آلية الشكّ والتخمين في الرواية حيث يبلغ البعد التشكيكي حد الضياع، فلا يفضي سوى إلى إمكانيات افتراضية قد تصحّ وقد لا تصح.
ويوضح الباحث ما برز في الرواية من حاكمية أخرى في مواجهة حاكمية العقل، وهي حاكمية أخلاقية، حيث “أن الطبيعة الإنسانية وبحكم الصدفة التي توجه الإنسان نحو حب الخير أو حب الشر، هي الآلية الحاكمة دون العقل”، “هي حاكمية الشهوة” (21) التي قد تكون “محركة السلوك وتمثل آلية قراءة العلامات”(22). وهذه الشهوة متعددة الوجوه، فقد تكون شهوة الجنس، شهوة للعدالة أو شهوة السلطة. وهذا حسب د. علي هو “أقصى التيه الذي يمكن أن يتصوره الإنسان حيال العالم”. وماهية الأمور وحقيقتها، من وجهة نظر أبطال الرواية، ليست ماهية قائمة بذاتها، بل تأخذ حقيقتها من الزاوية التي ينظر منها إليها (22).
ويخبرنا د. علي أن سيميائية ايكو يغيب عنها المحور الناظم والبنية المتماسكة. ذلك أن مؤلف الرواية “يشير بذلك إلى أن حصيلة المعرفة البشرية هي معرفة بجزئيات مبعثرة لا ينظمها ناظم” (23). وليس للعالم نظام متماسك بل سلسلة من العلاقات بمقادير صغيرة بين قضايا العالم (24). فالإنسان محاصر بالعدمية، مغلوب على أمره، ضائع (24). والتفكيكية ترى في كل حضور غياباً، لأنه يقوم على سلسلة من الطبقات الرسوبية التي ليست بنية متماسكة ذات هوية خاصة. “هي طبقات قابلة للتفكيك ثم العزل طبقة طبقة، وصولاً إلى الغياب” (24).
ويتناول الباحث نظرة ايكو للتاريخ فيرى أنها نظرة خاصة. والنظرة إلى الماضي يجب أن تتمّ برأيه بشيء من السخرية ودون براءة في خروج على المنهج التفكيكي. والتاريخ لا يستعمل لقراءة تاريخية، بل “لقراءة تأويلية تربط الماضي بالحاضر” (25). ويتساءل علي زيتون عن جدوى هذا التأويل وعلام يقوم ليجيب بأن التأويل مفضٍ إلى معرفة بوضعية الإنسان الحالية، تمكنه من حياة أفضل.
وفي النهاية يخلص علي زيتون إلى أن رواية “اسم الوردة” لا تنتمي إلى ما بعد الحداثة، لأن سياقها متصل مع تشعّب دروبها، لكنها عامرة بمناخات ما بعد الحداثة(27). ونتساءل مع د. علي: “(اسم الوردة) لمن كتبت وهل بإمكان قارئ غير متضلّع بالحداثة وبما بعدها أن يخوض غمارها، وأن يخرج منها بصيد يتعدّى الفائدة إلى المتعة؟”