بسمه تعالى
وردة “زيتون” تجلٍّ ونور
يقول إمبرتو إيكو : «الدخول إلى عالم أي رواية، هو أشبه بجولة للتنزّه في الجبل. يقتضي ذلك اختيار نَفَس معيّن في أثناء المشي، والتقدّم بخطوات موتورة، وإلا توقّف المرء فوراً عن مواصلة التجوال». ما قدّمه الناقد الدكتور “علي زيتون” في بحثه النقدي هذا، والذي سمعناه للتو، هو في الحقيقة جولة من التنزّه أخذنا معه إليها، في محاورة معقّدة ومتشابكة مع أطياف عالم رواية “اسم الوردة” الفضفاض والواسع والمترامي الأطراف.
يدخلنا الناقد إلى العوالم “الماورائية” (للحذف) التي صُنعت منها الرواية، ويقيم علاقات متواترة في نقاش مستفيض بعض الشيء حول أواصرها الفلسفيّة والفكريّة، ويتجوّل بنا في بداية بحثه بين أرجاء حديقتي الحداثة وما بعدها، مع ما ترتبطان به مع السيمائيّة من حذاقة لا تقلّ تشويقا عنهما، محاولا إقامة أواصر بُنى نقديّة إنسانيّة لرواية إمبرتو إيكو. فأتت هذه المحاولة نصاً فذاً في تبيان الوجوه المغلقة حول العديد من مفاهيم هذه المصطلحات الغربيّة الثلاث. إذ لا مفرّ أمامنا من الإعتراف أنّه للأسف الشديد هناك مثقفون وأكاديمون قد لا يفقهون تماماً حقيقة دلالات هذه المصطلحات، وخصوصا مصطلح “ما بعد الحداثة”. أذكر على سبيل المثال، ومنذ عام،( قرأت مقالاً لمثقف لبناني، يعتدّ بكتابته، برسم للجمهورية الإسلامية في إيران خريطة الأركيولوجيا الحواضرية ومفهوم «الآخَر الفلسفي» منظّراً لها ما أمامها من تحدّيات ) ما بين الهلالين اعادة صوغ فيدعوها إلى تحويل ممارساتها الفلسفيّة إلى منهج علمي يعتمد أدوات “ما بعد الحداثة” لتفكيك الهويات وإعادة صياغتها!!.
أماط الدكتور زيتون اللثام عن ما يكتنف رواية “اسم الوردة” من غموض كبير أمام القراء الذين وجدوا فيها إثارة عالية من جهة، نظراً لما تحويه من أحداث بوليسية شيّقة، وما فيها من من علامات ورموز معقّدة لا تفضي إلى رؤية واضحة حول ما يريد الكاتب قوله من جهة أخرى. وهو – أي الدكتور زيتون- في هذه الإماطة شيّد عالماً مكتملاً حول الرواية مساعداً القارئ، أي قارئ، من الولوج إليها ليحصّل متعة القراءة من ناحية، ومتعة اكتشاف أفاق معرفيّة وتاريخيّة من ناحية أخرى.
ولا يمكننا في هذه العجالة بحث كلّ المفردات الروائية التي أجاد الدكتور زيتون في تبيان معالمها المعرفيّة والفلسفيّة إلى حدٍ مهم، إلّا إنّنا نتوقّف عند أهمها وهي علاقة القارئ بالنص.
لماذا علاقة القارئ بالنص تحديداً؟. هذا الأمر التفت إليه الدكتور زيتون في بحثه وأشار إليه في أكثر من زاوية، وطرح سؤالاً جوهرياً حيال العلاقة بين ثقافة القارئ وما تقدّمه الرواية عموماً، وهذا النوع من الروايات بالأخص. وذلك لأنّ هذه العلاقة كانت قد أضحت محط اهتمام الدراسات البنيويّة منذ نشأتها، لكن “ما بعد البنيويّة” رفعت من شأنها وحفرت فيها عميقاً، تستحضر القارئ في أثناء الكتابة، وهي منحى صعب، ويبدو أنّه فعلاً ضرب جديد من ضروب الكتابة لا يتعامل مع القراء بوصفهم نقّاداً بل مستفيدين يعاد تشكيلهم.
ومع هذه الإبيستيمولوجيا في الرؤية لوعي القارئ وإدراكه النصَّ، ينساق سؤال محوري طرحه الدكتور “زيتون”: «إسم الوردة» لمن كُتِبت؟ وهل يكون بإمكان قارئ غير متضلّع بالحداثة وبما بعدها أن يخوض غمارها، وأن يخرج منها بصيدٍ يتعدّى الفائدة إلى المتعة؟.
مع أنّ الدكتور زيتون لا ينهي بحثه بكلمة الفصل حيال انتماء الرواية إلى “الحداثة”، أو “ما بعد الحداثة”، غير أنّه( يجيّر شرحه للإستراتيجيّة التفكيكيّة بنظريّة التلقّي المتطرّفة بغير آصرة) إعادة صوغ. ويقول إنّ القراءة، ما بعد الحداثيّة، هي نقلٌ لسلطة التفسير من النصّ وقصد المؤلف إلى القارئ المتلقي. فالنّص، بالنسبة إلى هذا التوجّه، غير قادر على أن يقول شيئاً. والمؤلّف لا يملك فيه أيّة قصديّة محدّدة”. من هنا يوقع الراوي، والذي يقف خلف الكاتب، القارئ في حيرة شديدة، ضبابيّة؛ مبهمة، تتهاوى معها كلّ معطياته الثقافيّة والإيديولوجيّة الثابتة والمؤكدة لتحال إلى رموز يجري التشكيك فيها بمهارة متقنة حين لا تحمل الدلالة أيّة قيمة للمعنى، وتتجاوز هذا الفراغ الضمني لتصل به بشكل متدرج إلى السقوط في فخ شديد الالتباس يصوّر الحقائق أنّها مجرد وجهة نظر.
لماذا أوصلنا إيكو في “اسم الوردة” إلى هذه الهاوية؟، لماذا يريد إشعارنا إنّنا عديمو الثقافة والمعرفة، وينقصنا الكثير لنرتفع إلى نصه وتأويله؟. ثمّ، وهو الما بعد حداثي حين يميت ذاته كونه مؤلفاً، ألا يميت معه القارئ كونه عاجزاً عن التأويل والاستقراء الذي يفترض استمرارهما طوال عملية القراءة؟!.
غيّب الدكتور زيتون التقاط هذه المفردة من البحث – وهي موت المؤلف[1]– لارتباطها الشديد – على ما اعتقد- بتعدّد القراءات عند القراء وآلية القراءة. ألا ترى معي أستاذي الفاضل أنّ ثمة مفارقة مدهشة في المنظومة الفلسفيّة التفكيكيّة التي تنظّر لقراءات القارئ المتعدّدة وبين موت المؤلف؟!.ألا يرتبط ضياع المسار الأساسي السردي في الرواية ومتاهة القارئ في أن يمسك بطرف الخيط مع موت مؤلف النص نفسه؟!. إلّا إذا كنت تبغي من قولك عدم “قصديّة المولف” هو “موت المؤلف”؟!..
يقول “رولان بارت”، وهو أيضاً أحد منظري ما بعد الحداثة ، في مرحلة متأخّرة من حياته الثقافيّة، وصاحب نظرية “موت المؤلف” :” في الكتابة المتعدّدة، أنت لا تفسّر أيّ شيء، أنت تفكّك كلّ شيء : لا توجد ألغاز تبحث لها عن حلّ، تتابع هيكل البناء، تسحب عناصره كما تسحب خيوط الثوب، في كلّ موضع، وعلى كلّ مستوى، إنّما لا شيء يوجد تحت السطح. تتسكع في فضاء الكتابة، لا تنفذ فيه، الكتابة ترشح المعنى باستمرار. كلّ ذلك في عملية إقصاء للمعنى. هكذا يصبح الأدب – ومن الأفضل أن نقول بعد الآن الكتابة – برفضها إضفاء طابع اللغز على النص واعطاءه أي معنى نهائي – تصبح حرّة. يصبح النص والعالم طليقين من قيود ما يمكن أن يوصف بالطابع اللاهوتي. إنّ تلك ثورة حقيقيّة في نهاية الأمر، إذ إنّ رفض إعطاء النص معنى نهائياً، هو في الواقع رفض للخالق (الله) وآياته، ورفض للعقل والعلم والقانون”.[2]
وفي كلام “بارت” هذا تقليل من الأدبيّة، وهو المسار نفسه الذي يعمل عليه “إيكو” في روايته هذه، كما عبّر الدكتور زيتون. وهي تواجه القارئ بحدّة وتتطلب منه ألّا يكون تقليدياً أو “كسولاً”، بل يريده مثقفاً مشاركاً كي يتمكن تالياً من التأثير فيه، في عملية إعادة تشكيل للمعنى وللحياة وسردياتها الكبرى لا وجود لسرديات كبرى وفق التفكيكيّة(قضايا كبرى
). هذا أولاً، وليدخله ثانياً، في مفهومية التلقّي حين يثير لديه حسّ الريبة من كلّ شيء، ويغيب معه اليقين، وهنا يلفت الدكتور زيتون إلى ضرورة ألا “يغيب عن بالنا ما جاءت به ما بعد الحداثة من تقويض لسلطة العقل والمنطق”.
وعندما أقام جاك دريدا، أحد المنظرين الذين وصلوا بما بعد الحداثة الى منهاها، نظرية انزياح مركزية العقل وبنى لها مراكز متعدّدة، كان يدرك تماماً ما يمكن أن تؤول إليه عملية آلية القراءة وكيفية توجيه القارئ التفكيكي، نحو “غياب المعنى وتحوّله إلى صيرورة لا تستقرّ عند مآل. وهذه الصيرورة تعني بعثرة معنى دالّ العلامة إلى ما لا يحصى ولا يعدّ”. كما يقول الدكتور زيتون.
وفي غياب المعنى وبعثرته، تتضاءل القيمة الإنسانيّة للغة، كونها الوعاء الحامل للأفكار، بقصديّة تفكيك الارتباط بين المرء وبين لغته الخاصة، والتي تؤدّي فيما بعد إلى التساهل في طمر معالمها الحاملة للهوية والانتماء الوطني. وهذا ضرب عميق لثقافة القارئ المحلّي، والمسكوت عنه في روايات ما بعد الحداثة. وهو كما يسميه الدكتور زيتون “الآخر”. ولكن أي أخر، تقصده هذه الرواية؟!. هو الأخر المقصي والمغيّب دوماً في الروايات الأوروبية التي دأبت على هذا الاجراء منذ بداياتها مع القرن الثامن عشر وحتى قبل ذلك. الآخر هو المستعمَر (بفتح الميم) الخاضع لسلطة الاحتلال، الآخر هو الأسود “العبد” الذي جرّ من بلاده لخدمة العنصر الأبيض، الآخر هو الشرقي، وبالاخص العربي والمسلم، للإنتقام من صوته المقاوم الذي حمل في يوم من الأيام الإشراق العلمي وفاض به على أوروبا نفسها.
من هنا ترتبط مقولة “موت المؤلف”، مع علاقة القارئ بالنص، في منحى تأويلي تفكيكي يعود به جاك دريدا، والمجموعة التي معه، إلى خلفية خفيّة أشار إليه رولان بارت، في الاقتباس الذي أوردته منذ قليل، حين يقول “..، إذ إنّ رفض إعطاء النص معنى نهائياً، هو في الواقع رفض للخالق (الله) وآياته، ورفض للعقل والعلم والقانون”. فإذا اجتهدنا في الإفصاح عن ضروب الأصالة اليهوديّة أو بالأحرى العبرانيّة ومقارباتها العربيّة لدي جاك دريدا، نجد أنّه الفيلسوف الجامع لنقائض الأمجاد الحضاريّة التي سبق وعبّر عنها بقوله إنّه: “فيلسوف فرنسي جزائري يهودي يرجع اسمه “دريدا – دريدا” إلى العربيّة الجاهليّة[3]. فكيف نفهمه نحن من موقعنا الحضاري كوننا ننتسب إلى الفرع الإبراهيمي، اسماعيل الابن البكر، إبراهيم العبراني الخليل، وزوجه المصرية هاجر، وريثه وفاقاً للقرآن الكريم؟. كيف نفهم منحاه البياني الصريح الذي يعتمد على تداعيات الصور الخياليةّ وتشابهات المقاطع اللفظيّة، ويتوسّل بما لا يفيد معنى الإيحاء بمعنى لا سبيل إلى تحديده؛ فدريدا لا يبغي من كلّ ذلك غير حفر بئر الغيب الأصلي من تحت محجر الوجود النطقي الغربي، وتالياً تعليق صخرة الكينونة في فضاء “يهوه” أو بالأحرى في هوة غيابه المبدئي؟!.[4] فدريدا، هنا، ينذر بأفول الحضارة الغربية مبشّراً برؤيا كونيّة هائلة، هي بمثابة تجلّي الآخر – الغائب العظيم- الذي هو “يهوه” نفسه الغائب والمكنون.
إنّ حضور الخصوصيّة العبرانيّة لدى جاك دريدا وامتدادها، منذ كتاباته التأسيسيّة الأولى، هي الخلفيّة التصوّريّة لفلسفته التفكيكيّة لرؤى الحداثة الغربية، التي أراد تقويضها من الداخل. وهي التأويليّة التفكيكية نفسها المنبثقة من فلسفة ما بعد الحداثة، أو “ما بعد البنيويّة”، التي يقوى عودها في الغرب سريعاً، وتحصد لها أنصاراً من الفلاسفة والمفكرين وكبار الكتّاب. فهل كان “إمبرتو إيكو” وفياً لهذه التصوّرات أو لنقل هل هو ينطلق منها أساساً؟!. إن كان يعدّ أحد العاملين الأساسين في حقل دراسات ما بعد الحداثة، والمروّجين لها، فهو شاء أم أبى أن يكون هناك تعاليق عبرانيّة لفكره التفكيكي، إلّا أنّه يكرّس تقويض فلسفة الحضور وإحلال فلسفة الغياب محلّها، في غياب قصديّة المؤلف عن نصّه، وغياب الذات عن الإنسان، في دائرة من المتاهة التي لا حدود نهائيّة لها. وتالياً يؤسس لقراءة تأويليّة تفكيكيّة تدفع بالقارئ إلى التيه بكلّ ما للكلمة من معنى وجودي.
يعجبني نقد ملفت ولاذع لفلسفة ما بعد الحداثة وتأويلها التفكيكي، أدلى به شاعر فرنسي مرموق يدعى شارل بودلير إذ يقول :” يا لها من بدع عجيبة تسرّبت إلى نقدنا الأدبيّ!.. سحابة مظلمة ساقتها إلينا ريح شؤم، من جنيف أو بوسطن، أو من الجحيم، حجبت عنا شمس الجمال المضيئة.. يا لها من فلسفة عبثيّة.. ! أيّ عدوى غريبة تصيب المروّجين لهذه الترهات؟!.. فيسّوغون بكلام مثل هذيان المجانين؟ “.
أمتعنا الناقد الكبير الدكتور “علي زيتون” ببحثه الشيّق، والذي في الحقيقة يدفع السامعين والقراء إلى البحث عميقاً في العديد من المقولات الفكرية والفلسفيّة التي تحدّث عنها، كما يدفعنا إلى قراءة الرواية بتمعن، ويعلّمنا بحرفيّة كيف نصنع بأنفسنا أسلوب قراءاتنا لأي رواية أو عمل أدبيّ، ويدفعنا إلى تحصين عقولنا من الوقوع في فخ المتاهات كما لا تقل عنها شأناً تحصيل متعة القراءة التي لا تخلو من فائدة معرفيّة تكشف لنا عن ذاك الآخر.
وفي الختام، يروق لي أن أطرح على أستاذي الفاضل إشكالية العلائق التي تنفكّ بها الحداثة عن “ما بعد الحداثة”، فإذا كانت الثانية استلابيّة مهدّمة للسرديات الكبرى، فالأولى وهي تقيم مركزيّة العقل طردت فكرة “الله” من مملكتها .. فلماذا كان وصف الحداثة بالنحلة وتحولّات عسلها بالإبداع؟!..
[1][1] : رولان بارت صاحب نظرية “موت المؤلف في كتابه ” الصورة – الموسيقي – النص”، الصادر 1977.
[2] : المصدر نفسه رولان بارت، ص 75.
[3] : جاك دريدا والتفكيك، تحرير أحمد عبد الحليم عطية، الفكر المعاصر سلسلة أوراق فلسفية، دار الفارابي، ص 312.
[4] : المصدر نفسه، ص 314.