تقديم
بقلم علي مهدي زيتون
الملّاح والسيرة الفاعلة في زمن مرّ
عمر شبلي ، في حياته اليوميّة ، مثقل بأعباء الثقافة . يحزنه واقعها في مجتمعنا ، فلا يترك سانحة من دون أن يجنّد كلّ إمكاناته في سياقها . ساع ، دائما ، إلى التخطيط لنشاط ثقافيّ هنا أو هناك ، من دون أن يغمض عينه لحظة عن شجون مجلّة ” المنافذ الثقافيّة ” وشؤونها ، محاولا فوق ذلك كلّه أن يعطي قلمه الشعريّ الفذّ حقّه . وهو إلى ذلك معبّأ بهمّ فلسطين التي تمثّل فاعلا قويّا في تحديد مواقفه وآرائه. وعمر في هذا الانهماك الشائك باحث، دقيقة بدقيقة،عن إمارة لا تشبه أيّة إمارة أخرى . الزعامة آخر همّها . الإمارة التي يسعى إليها هذا الملّاح المسافر داخل عمره هي تحقيق وجود وطنٍ كأوطان الناس . فهل يعني ذلك أنّه خرج من السجن إلى وطنٍ لم يجده وطنا . ما الوطن بعد عشرين سنة من السجن؟ وأيّهما الفاعل القويّ في الحياة الكابوسيّة التي يعيشها الشاعر : السجن أم الوطن ؟ أما زال السجن فاعلا حاضرا في حياة الشاعر بعد انقضاء هذا الأمد الطويل على خروجه منه ؟ هل هو الوطن غير المتحقّق إلى حدّ الغياب ؟ نشد عمرُ الوطن في سجنه ، ونشد المرأة ، ثمّ خرج فلم يجد أيّا منهما . فهل استعاض عن هذا الافتقاد برفاقٍ حدبوا على تجربته مقدّرين كفاحيّته العالية ؟ ماذا وجد عمر؟ هل سيُصدَم فينكفيء؟ ما وجده الشاعر ليس بسيطا ، ولا عاديّا بالنسبة إلى إنسانٍ من طبعه أن يكون سلوكه عين قناعاته . كيف لسبعينيّ أن يذهب يوميّا من الصويرة إلى بيروت ثمّ يعود منها خدمة للثقافة ولعيني الثقافة وحدها ؟هل يعوّض بذلك ما لم يجده، ما افتقده ؟
خرج ولم يجد فلسطين على سكّة التحرير الرسميّة ، ولا الوحدة قد اتخذت وضعيّتها على درب التحقّق ، هذا إذا نسي الاشتراكيّة وما تعد به المعوزين .
فهل كان من العبثيّة بمكان أن يضحّي بربع قرن من عمره، من ريعان عمره، لتأكله بقرات عجاف خارج السجن ،لاتقدّم لحما ولا تدرّ لبنا ؟ إنّ الينابيع التي يغرف الشاعر من مائها بعيدة الغور لا يدركها وهن ولا كلل .
سيمائيّة الماء والوعورة عند عمر الملّاح
” وعورة الماء ” عنوان المجموعة الشعريّة العمريّة العتيد كلمتان: مضاف ومضاف إليه . وإذا أفادت الإضافة التخصيص ، جعْلَ المضاف خاصّا بالمضاف إليه ، فإنّها ، فضلا عن ذلك ، علامة من علامات التعريف ، تعريفِ المضاف بالمضاف إليه ، في مواجهة التنكير . تتيح الإضافة تبادل الإضاءة والإستضاءة بين طرفيها . وكلمة (وعورة) المؤمّنة ، بالتنكير ، حركيّة دلالتها ، وانفتاحها في غير اتّجاه ، أضافها الشاعر إلى كلمة (الماء) ليخرج تلك الدلالة من حياديّتها ، ويوظّف حركيّتها التوظيف العتيد . فهذه الكلمة الآتية إلى الديوان من الدروب الخاصّة بالجبال ، تلك الدروب التي تشقّ على غير أولي العزم، لم تستعن ، هنا ، بالماء لتعرف فقط ، استعان بها الماء أيضا لكي يقدّم خصوصيّة الدرب الذي سلكه عمر شبلي . أعطت هذه الإضافة الماء صفة الطوفانيّة . تعالى الماء على قمم الجبال ، وطغى عليها ، من دون نوحٍ ، أو نبيٍّ ، أو قائد. سالك تلك الوعورة هو الشاعر الذي صار الطوفان طريقه إلى الوطن المفقود الضائع . وإذا افترضت الوعورة البريّة احتمالات ضئيلة للنجاة ، فإنّ الوعورة المائيّة تجعل من احتمالات الوصول إلى برٍّ فرصة شبه معدومة. فما هي الحال إذا افتقد ذلك الماء أيّ سواحل مفترضة . حمّلت الإضافة الماءَ رمزيّةً تختصر جميع حوائل الدنيا ، فما الذي يرومه عمر؟ وإلى أين يتّجه ؟ صار من نوافل القول أنّ الشاعر قد أمضى أكثر من عشرين عاما في السجن ثمّ خرج. عزّى نفسه ومنّاها يوم وقع أسيرا بأنّ الثمن الذي يدفعه من تضييع سنيّ عمره سيثمر وطنا يتناسب مع طموح الأمّة الكبير . فهل وجد ، يوم خروجه، الوطن كما كان يتصوّر؟ لعلّ السؤال الأجدى : هل وجد وطنا ؟ لا يشير العنوان إلى ذلك . يومىء ألى أنّه لم يجد وطنا . فمن أين سيأتي الشاعر بوطن مماثل لأوطان الناس؟
تحتاج الإجابة إلى مجموعة من العناوين الفرعيّة ، يتعلّق بعضها بالصقر، صقر العروبة ، ويتعلّق بعضها الآخر بالثنائيّات الضدّيّة التي واجهها ذلك الصقر ، وقد تعالى فيها السلبيّ على الإيجابيّ . ويجب ألّا ننسى أنّ أخوة يوسف قد أدّوا دورا بيّنا في تسعير تلك الثنائيّات .
الصقر على شطّ الفرات
لعلّ أوّل إطلالة للصقر في مجموعة “وعورة الماء” كانت تحت عنوان “أولاد عمّ” . وإذا مثّل هذا العنوان إيماءة واضحة إلى الانتماء القبلي وما ينطوي عليه هذا الانتماء من تخلّف يحمل الإرهاب سيفا مشربا بالدمّ ، فإنّ متن القصيدة مشبع بصراعيّة مخاتلة يديرها التخلّفُ في مواجهة نقيضه ، القبيلةُ في تآمرها على الصقر (العروبة) .
وكانوا على ضفّة النهر في أدبٍ يقتلون أخي وكان يقول ليَ القاتلون : تعالَ ، عليك الأمانْ وكانت تلوح على جسدي قرطبةْ وكانت تلوح دمشقُ ( ص 2 ) . حضر الفعل الماضي (كان) ممسكا بزمام الأسطر الشعريّة الأربعة . وحضوره هذا ، وإن كان إشارة إلى ما استقرّت عليه الحال، فإنّه مستدعٍ ضدّه لا محالة . واستدعاء الضدّ جملةً إشارة إلى حلم مخبوء يُضنّ به . فالكناية التي تجمع السطرين : الأوّل والثاني تومئ إلى هول حضور القبليّة في الثقافة حضورا مراوغا يتوخّى الإجهاز على نقيضها . بدا ذلك من خلال محاولة (كان) السطرين الآخرين التصدّي ل(كان) السابقة . وذلك عبر تأمين تجلّي كلٍّ من قرطبة ودمشق على جسد الشاعر (الصقر).فهل أطاحت (كان) الأولى بالحلم ، حلمِ العبور إلى قرطبة (دمشق) ؟ كان عبور الفرات (درب الوطن) عسيرا . فالكناية (يقتلون أخي) إشارة إلى الإجهاز على كلّ من يحمل حلم عمر( العبور) أو يهجس به ، وإلى سلطة (قبيلة) ترصد ذلك الحلم وتناوئه . أمّا الكناية الثانية (تعال ، عليك الأمانْ) فمحمّلة بحبيلة تحاول جرّ الشاعر إلى التخلّي عن حلمه بعد أن شاهد ما حدث لرفيقه حامل الحلم نفسه . ذلك الحلم المتجلبب برمزيّة قرطبة (نجاح العبور) ورمزيّة دمشق (علامة العروبة العنيدة الواضحة) . وإذا كان الصقر رمزا للعبور إلى زمن تحقّق الحلم (قرطبة) ، بما يعني أنّ الصقر صار علامة على الولادة الجديدة المتجدّدة بما يعطيه بعدا وجوديّا بامتياز (
، فإنّ الولادة L home n est rien d autre que ce qui l se fait
المنتظرة بالنسبة إلى عمر هي العبور إلى إمارة عروبيّة . فهل ستتحقّق هذه الولادة العمريّة ؟
وليس الفرات عريضا على جسد الصقرِ غرناطةٌ قاب عومٍ وأدنى وقرطبةٌ قاب نخلٍ تركتُ لديه أخي دون باكيةٍ ووداعْ ويا صقرُ ثوبك من سعف النخلِ حتّى تصلْ وفي أرض قرطبةٍ إزرعِ النخلَ تصبحْ دمشقَ … فتلك قريشُ على جدثٍ في دمشق تبيع ثيابكْ للقاتلين ( ص 33 ) .
أومأ هذا النصّ إلى أنّ الولادة قد اتّخذت بعدا تفاؤليّا فيه . فالأسطر الشعريّة الثلاثة الأولى وبرموزها المتفائلة : ( الصقر وغرناطة وقرطبة ) ، وبعمقها الكنائيّ : ” ليس الفرات عريضا ” ، و” غرناطة قاب عوم وأدنى “،” وقرطبة قاب نخل ” لم ترتفع بالحلم إلى دائرة القداسة فحسب من خلال مناظرة قوله : ” قاب نخل وأدنى” للآية القرآنيّة ” قاب قوس وأدنى ” التي تتكفّل باستحضار سدرة المنتهى ، ولكنّها شفعت تلك القداسة المتفائلة بأسطرٍ شعريّة أومأت الكناية فيها إلى إمكانيّة تحقّق الحلم : ” ويا صقر ثوبك من سعف النخل (حتّى تصل) ” ، ” وفي أرض قرطبة إزرع النخل تصبحْ دمشق”. فهل حملت هذه الإيحائيّة شيئا من اليقينيّة ؟ وهل ستكون الولادة الصقريّة العمريّة ولادة حقيقيّة أم أنّها ولادة مشكليّة. فقرطبة وإن مثّلت مستوى من مستويات الولادة، خصوصا أنّ الفرات ( السجن ) ليس عريضا على جسد الصقر(عمر)، وهو قابل لكي يُقطع ، إلّا أنّها ليست الولادة الواقعيّة الحقيقيّة . مثّلت بعدا تعويضيّا مرضيّا . والتعويض المرضيّ في المحصّلة خواء لا طائل تحته. بالنخلة تصبح قرطبة دمشق . وإذا مثّلت دمشق الولادة المثلى ، فإنّها ولادة متعذّرة الآن . ” فتلك قريش على جدث في دمشق تبيع ثيابك/ للقاتلين ” . فهل صار عبور عمر (الفراتَ/السجنَ) إلى الولادة عبورا حلميّا مرضيّا؟ قرطبة ليست دمشق وإن زرعنا فيها النخيل . فهل يعني ذلك أنّ سعي عمرٍ إلى ولادةٍ ، وصولٍ إلى وطنٍ هو سعي متعثّر؟ حاول الشاعر أن يستنبت زهورا وسط صحراء عدم الجدوى ، فهل سينجح في منح هذه الأزهار حياة طبيعيّة ؟ ألهذا كلّما الجوع تمادى في الرفاتْ يعشق الموتى الحياةْ ؟ ؟ ؟ كنت أمشي في رفاتي وأنا في حفرة أضيق منّي مسرعا في شارع العمر الطويلْ أذرع العمر ذهابا وإيابا باحثا عنكِ ، وعن عمري القديمْ (ص 11 ) . يمثّل هذا النصّ نزاعا مرّا داخل ثنائيّة :(الرفات/العشق)،عشق الحياة. فالجسد (الرفات) إعلان انتهاء الصلاحيّة، وعشق الموتى الحياةَ إعلان مضادّ . فهل يقوم هذا التنازع على تكافؤ بين الطرفين ؟ لم يعد العبور إلى خارج السجن عبورا إلى المستقبل ، صار عبورا انكفائيّا . فالكناية ” باحثا عنكِ،وعن عمرٍ قديم ” وإن أومأت إلى عبور تعويضيّ مرضيّ أصاب من مكث ما يقارب الربع قرن في حفرة أضيق من جسده ، كما أسلفنا ، إلّا أنّ كلمة (باحثا) لم تكن كلمة مجانيّة ، أومأت بوضوحٍ إلى وجود نسغ تفاؤليّ تعمر به عروق الشاعر . فهل سيكون صحيحا أنّ ” الفجر على مرمى وطنٍ ” (ص22). أجاب الشاعر قائلا : كلّ ما قلتُ ، وما ثمّرته منْ شجر العمر بكفّي ليس يبقى وستذروه الرياحْ مثل قشٍّ يابسٍ كنتُ أدري أنّني أسرق برقا من غمامٍ يذرف العمر ويمضي وأنا أجمع ماءً في إناء لا قعر له وفمي يجهد في الصلصال أن أفتق رتقا ( ص 3 ) . الفعل (يجهد) إشارة إلى المحاولة . والمحاولة ليست نجاحا يقينيّا ، ولافشلا يقينيّا . وترجيح السلبيّ في هذه المحاولة العبثيّة التي تبدّت في إشارتين كنائيّتين : الأولى ” ما قلت… ما ثمّرته … ليس يبقى” ، والثانية ” أجمع ماء/ في إناء لاقعر له ” إنّما يؤدّي إلى أنّ عدم الجدوى هي سيّدة الموقف ، وأنّ العبثيّة قد وصلت مدى نتحيّر معه كيف سيستطيع الشاعر تجاوزه؟ صرختي لن تنتهي ينتهي البحر على الشاطىء ، لكنْ ، صرختي ، مهما تلاشت ، ليس ترسو ، طالما يوجد في أهرائنا جزمة شرطيٍّ توازي رأس ثائرْ ، طالما يسكن ناسٌ في المقابرْ طالما تُعرض باسم الله للبيع الحرائرْ طالما تؤمن يوما أنّ من كان على دينٍ سوى دينك كافرْ …… فإنّي أبصر النبتة في قعر السماءْ أنظر الآن إليها ، ثمّ هات الموت كي أقتله إنّ أمّي أخبرتني أنّني كنت سليل الآلهة ( ص 6 ) . لقد خلع عمرُ حضورَ السجن في حياته ، وألغى إقامته المتمادية فيها . غاب السجن على وقع ما هو أمرّ منه . فالإهراءات ، خزائن الرزق ، مؤونة الأيّام الخاصّة بالجماعة ، خلعت عنها هويّتها الموضوعيّة الخيّرة ” طالما يوجد في
أهرائنا جزمة شرطيّ “، أصبحت خزائن اضطهاد ، يستخدم ما تختزنه وسيلة للسيطرة . والجزمة ، على كلّ حال ، تحمل برمزيّتها بعدين دلاليّين متكاملين سلبيّا : السحق ، سحق المستضعف ، والتعال عليه ، خصوصا أنّ جزمة الشرطيّ ، أداة السلطة المتسلّطة ، “توازي رأس ثائر” في معظم الأقطار العربيّة . ولعلّ ثنائيّة (الجزمة/الرأس) حيث تتعالى فيها الجزمة على الرأس بشكل أكيد ،هي وراء أن تصبح مصر ، هبةُ النيل ، عاجزةً عن إيجاد المأوى للفقراء. أودعتهم إقامة جبريّة في المقابر”طالما يسكن ناس في المقابر”، في إشارة إلى معاناة المجتمع المصري الذي تحوّل عن دوره في قيادة الصراع العربي ضدّ إسرائيل . ولم يكن لتعالي الجزمة انعكاس في مصر وحدها ، مع أهميّة مصر ، وأهميّة دورها ، وما يعنيه هذا الدور ، فالعراق وسوريّا بلدا التصدّي لاسرائيل صارا مقرّا لإمارة داعشيّة تُعرض فيها “باسم الله للبيع الحرائر” . ومناخ إحباطيّ وصل هذه الدرجة ، هو مناخ كفيل بأن يدخل الاحباط القاتل المرّ إلى نفس عمر . فهل وقع هذا الإنسان فريسة الاحباط ؟ العكس ما حصل . أنعش هذا المناخ الحياة في جسد عمر الذي بات رفاتا . غاب السجن (القبر) بفعل ما هو أمضّ منه ، واقع حال الأمّة والمجتمع . وهذا ما جعله قادرا على القول : “صرختي لن تنتهي…/ مهما تلاشت ليس ترسو”. والصرخة تعبير قويّ وواضح عن حضور الحياة بقوّة قبالة الموت والاحتضار، ومحاولة للدفاع عن نفسها . تعني تطلّعا إلى النصر ، تحمل في تضاعيفها نسغا من تفاؤل . فكيف اجتمعت السوداويّة الماحقة بالإيمان بالحياة في لحظة واحة ، وفي مجموعة شعريّة واحدة ؟ ثنائيّة ( السجن / الوطن ) ثنائيّة ( السجن / الوطن ) واحدة من الثنائيّات الضديّة التي نغّصت على الشاعر هجرته فكادت تحوّلها إلى رحيل فيه من التيه ما فيه ، وذلك بسبب تعالي السجن فيها على الوطن. أضف إلى ذلك أنّ كلا طرفي هذه الثنائيّة مقيم في ذات الشاعر إقامة أدّت إلى أن تختلط المرارة بالعذوبة وتطغى عليها. الوطن هو المقيم الأصلي ، والسجن هو المقيم الطارئ المحتلّ . والتنافس بين الطرفين ، في نفسه ، قاس ومرّ ،خصوصا أنّ الشاعر حين خرج من السجن لم يجد وطنا ، وجد السجن هو الباقي المهيمن في نفسه. وجد أشلاء وطن ، فهل كان الوطن الذي نشد عمر الخروج إليه ضغثا ؟
وأعرف أنّ الحنين إذا ما استبدَّ استحال وطنْ وما أوجع الليل حين يغطّي ظلامُ السجون الوطنْ ويسألني صاحبي : أين ” وادي الحريرِ ” ؟ فقلت : استدرْ صوب قلبي تجدْ وطني ( ص 60 _ 61 ) . أقام النصّ تماهيا بين الحنين وبين الوطن ” الحنين …..استحال وطنْ “. والحنين ، في الأصل ،لا يكون بمعزل عن الوطن ،وبمعزل عن الابتعاد عنه. ولا يكون الحنين إلّا إلى وطن . فالمسافة التي تفصل الغريب عن وطنه هي منتجة الحنين والمتحكّمة بمقداره وفاعليّته . ولا حنين من دون تلك المسافة ، خصوصا أنّ هذه المسافة لا تُقاس بمقاييس المسافات العاديّة المألوفة . تُقاس بإمكانيّة الشروع في اجتيازها ، بحريّة البعيد في إلغائها . وحين يستحيل الحنين وطنا بفعل استبداد ذلك الحنين . يعني أنّ هذا الاستبداد قد بات حاكميّة تشير بأكثر من طرف خفيّ إلى السجن ، إلى يأسٍ قائم على أنّ مدّة انتظار الفكاك من ذلك السجن ، والعودة إلى الوطن غير قابلة للسبر المنظور . كيف لا ، وقد غطّى ظلام السجون الوطن في تجربة عمر ؟ لقد أبدل السجن خارطة الوطن ، قلّصها الحنين لتأخذ مساحة ” وادي الحرير ” . فما وادي الحرير ؟ وأين يوجد ؟ ” فقلت : استدر صوب قلبي / تجد وطني” . وما كان للوطن أن يكون ( وادي الحرير ) ، امتدادَ سهل صويرةِ عمر ، لولا استبداد الحنين . فالانغماس في وادي الحرير انغماس في الوطن . وإذا كان هذا الانغماس غير منظورٍ ، فليكن الانغماس عكسيّا ، انغماس ( وادي الحرير) (الوطن) في القلب . غابت الوحدة ، وغابت فلسطين ، لتحلّ محلّها طفولة عمر التي أخذت هيئة الوطن ،وتمثّلت في وادي الحرير ، مرتعِ تلك الطفولة، وفضائها الجميل الذي يصلها بدمشق . فدمشق في وجدان عمر هي العروبة الخالصة التي تختصر الوطن وتمثّل الوصال الأمثل .
ويبلغ كابوس السجن الرابض على صدر عمر حجما أسطوريّا : وأعرف أنّ المسافة ما بيننا لا تُقاسُ بغير الرجاءْ وما كان لي صاحبٌ غيرَ قلبي قال لي صاحبي : لا تمتْ قلتُ : إنّ الجنازة يا سيّدي هي أوسعُ من وطني ( ص 65 ) . حين يغيب المقياس الزمني الواقعي ( عدد السنوات ) ، ليحلّ محلّه المقياس النفسي ( الرجاء )، يعني أنّنا أمام إشارة إلى يأس كبير يشارف مناخات الإحباط القاتل . يومئ إلى انهيار الوطن في الوجدان . لم يبق سوى الرجاء . فهل صار الرجاء وسيلة المدنف إلى اقتناص لحظات من الحياة ؟ يسأل الشاعر متى أصل ؟ ويجيب :
على الطريق قضيت العمر يا وطني وأنت تنأى وذئب السوء يقترب ( ص 64 ) فهل أصبحت القضيّة مشكلة ذاتيّة خاصّة بالشاعر ؟ يستولد هذا السؤال سؤالا آخر . أين يوجد هذا الوطن حتّى يقضي أحدُهم العمرَ على طريقه ولا يصل ؟ وأيّ وطن هو ؟ ما حقيقته ، خصوصا أنّه ينأى بشكل مضطرد مع كلّ تقدّم للشاعر على طريقه ؟ ما قصّة ذئب السوء الذي يقترب من الشاعر بقدر ما ينأى الوطن عنه ؟ ما التيه ؟ يقول الشاعر :
فقد جعلتني الزنازين أعمى وما عاد في العين إلّا الدموع ( ص 70 ) .
فأين الرجاء ؟ ولماذا يقضي الشاعر عمره كلّه على طريق الرجوع إلى الوطن ؟ يقدّم الشاعر فرضيّة مفادها ” لو كنت أعمى ” ثمّ يجيب عنها قائلا :
قيل : الصوت يذهب بعيدا ولا يتلاشى
قلتُ : يا ليتني صرتُ صوتا لأمشي و أمشي إلى وطني ( ص 65 ) . هل تعني هذه الأمنية ، لمجرّد أنّها أمنية ،يأسا وإحباطا ؟ هل تعني انقطاع الأمل بالعودة إلى الوطن ، فلم يبق سوى الصوت ، أو تقمّصه وسيلة للوصول إليه ؟ ويحمل هذا اليأس في طيّاته سؤالا جوهريّا : هل ما زال هناك وطن يقع خارج السجن ؟ إنّ عشرين عاما ليست أمرا يسيرا في حياة سجين . وحين أصير بعيدا عن السجنِ عند المساء أعود إليه لقد ظلّ منّي هناك الكثير ( ص 66 ) . فهل يشير هذا إلى أنّ الوطن الذي عاد إليه عمر لم يكن وطنا ، والسجن هو الحقيقة الباقية ، هو الوطن النهائيّ الأخير ؟ لا نقول : إنّ السجن قد رسم مستقبل الشاعر، ولكنّنا نسأل : هل بات السجن محرّك سلوكه الأساسيّ الفاعل ، خارج السجن ؟ هل تحوّل إلى عقدة نفسيّة ؟ إنّ شخصيّة عمر قد وسعت السجن ، وهي قادرة على أن تسع سجنا أضيق من كلّ السجون التي عبرها في حياته السابقة . ” وأخلع حزني ، وتلك الليالي التي/خلعتني من الكون”(ص67). كلّ ما في الأمر أنّ ثنائيّة (السجن/ الوطن) كانت أمّا لثنائيّات أخرى نبتت على هامشها . ثنائيّة ( الظلام / النور ) حضرت هذه الثنائيّة بقوّة في هذه المجموعة حتّى لتختصر قضيّةَ الشاعر المحوريّة من خلال مواجهة النور للظلمة مواجهة قاسية . كلّ ما قلتُ ، وما سوف أقولُ قاله الناس ، وعانوا مثلما عانيتُ والوضع سيبقى هكذا طالما في الأرض نور وظلامْ ( ص 7 ) . تشكّل الأسطر الشعريّة الثلاثة الأولى كناية لا تستطيع الإفصاح عن قصديّة الشاعر الأخيرة إلّا من خلال السطر الشعريّ الرابع الذي يمثّل هو الآخر كناية تومئ إلى دعوة لإنهاء الظلام على الأرض.وهذه الدعوة ،مع ما تحمله من تفاؤل، فإنّها مشربة باليأس ،خصوصا أنّها تومئ إلى أمرين :الأوّل عبثيّة القول والمعاناة مع حضور الظلام ، والثاني أنّ مجرّد حضور الظلام هو تعالٍ له على النور . وإذا كانت الخصومة بين حضوري كلّ من الظلام والنّور مؤدّية إلى عبثيّة القول والمعاناة بما يعني حاكميّة الظلام وفاعليّته ، وبالتالي تفوّقه لمجرّد وجوده ،فإنّ كلمة (طالما) تضمر انتظارا لشيء ما . لعلّه الفرج .ولئن أعيت القصيدة جوابا واضحا ، بما يومئ إلى انسرابٍ طال وجود الإنسان على الأرض، استحضر الشاعر تجربة يوسف ، بكلّ رمزيّتها، للإجابة عن السؤال الذي أبقته القصيدة السابقة معلّقا . وكنت رأيتهم سجّدا كالكواكب لي فهل يكذب الضوء يا أبتي ؟ وكم هو صعبٌ إذا انطفأ الضوءُ وأستلّه إخوتي من دمائي غير أنّي سأدخل في محنتي ، وأفسّر ما سوف يأتي ، لأنّ المسافات في الليل تحتاج ضوءا وأحتاج نورَ عماك ( ص 63 ) . حضرت ( كاف ) التشبيه في السطر الشعريّ الأوّل ، لا لتقيم اتّصال قربى ما بين أخوة يوسف ( أصحاب عمر) ، على حدّ تعبيره ، والكواكب ، ولكن لتومئ إلى أنّهم لم يكونوا كواكب ، أو كانوا كواكب مزيّفة . ويأتي سؤال السطر الثاني : ( فهل يكذب الضوء يا أبتي ؟ ) ليؤكّد الطبيعة النورانيّة لكوكبيّة إخوته (أصحاب عمر) وإن لم تكن النورانيّة الحقيقيّة المطلوبة. كانوا ضوءا منطفئا ، أو زائفا ،لا قيمة له ولا وظيفة ، والمسافات في الليل تحتاج، كما أفصح الشاعر ، ضوءا ، ضوءا حقيقيّا . فمن أين نأتي به ؟” وأحتاج نور عماك ” يا أبتي . وإذا كان عمى يعقوب محمّلا بهموم الأبوّة وحزن الأنبياء والأصفياء ، فإنّ نور ذلك (العمى البصريّ) ، الرؤية القلبيّة اختصار للصبر الذي يتضوّع أملا . وإشارة كهذه الإشارة تضعنا في مواجهة معادلة مشكليّة : (وعورة الماء ، الطريق/ والقدرة على الصبر) ، كيف لا ، وهي تمثّل إجابة عن السؤال الآنف ؟ إذ لا بدّ من أن يدخل الإنسان في محنته ، ذلك الدخول الذي يمكّنه من أن يفسّر ما سوف يأتي . إنّها بذرة المقاومة تقبع في أعماق الشاعر . ثنائيّة ( وعورة الماء / المجذاف ) كانت رحلة الشاعر من السجن إلى الوطن رحلة عسيرة ، إذا لم نقل إنّها كانت متاهة ( مفازة ) . وإذا أسمى العرب المتاهة مفازة للتفاؤل ، فإنّ هذه التسمية تعبير عن ثقافة . فهل انسربت هذه الثقافة التفاؤليّة عبر عروق عمر؟
وهل تحدّرت إليه من جدوده الأمجاد . خاطب نفسه قائلا : أوما اقتنعتَ بأنّ هذا الموج يعلو كلّما اقترب الوطنْ ؟ وعليك وحدك أن تجذّف بالوطن والبحر أوسع ما يكون ، والأرض أبعد ما يكون ، وظللت تؤمن أنّ مجذافا عنيدا سوف يبقى في يديك ، هو الرياح أقوى المجاذيف الوطن ( ص 1 ) . إنّ علاقة تناسبيّة قائمة دا خل ثنائيّة ( اقتراب الوطن/ إزدياد الخطر ” الموج يعلو” ) . وهذا ما أعطى الوطن هويّة المجذاف ” أن تجذّف بالوطن ” . تحوّل إلى طاقة نفسيّة داخليّة تحاول الاستقواء على الاستعصاء . إقتراب الوطن مدعاة لعلوّ الموج بما يرمز إليه ذلك العلوّ من صعوبة وخطر . فما سبب هذه الحركيّة السلبيّة ؟هل هي وحدة الشاعر على ذلك الدرب؟لا شكّ في أنّ عمر قد أدرك ، ذات لحظة ،أنّه قد تُرِك وحيدا في مواجهة سجنه” وعليك (وحدك) أن تجذّف بالوطن” . والوحدة تحمل في تضاعيفها عتبا مرّا . فالتخلّي عن الشاعر في أثناء سيره إلى الوطن قد أقام جدلا إيجابيّ العمقِ بين تلك الوحدة والإيمان بالعبور “وظللت تؤمن أنّ مجذافا عنيدا/سوف يبقى في يديك”. وهذا النوع من الإيمان ليس إيمانا رقيقا مستضعفا . إنّه إيمان عنيد ، خصوصا أنّ الإيمان قد اتّخذ هيئة المجذاف ( صورة الوطن). كيف لا ، و(أقوى المجاذيف الوطن ) . إنّه العناد في زمن مكسور . ويظلّ السؤال الحائر المرّ العنيد : متى نصل ؟ ويلوح شيء من بعيد لكن لماذا لا يُقال هو الوطن ؟ (ص 2 ) . إنّ تنكير كلمة (شيء) هو تنكير وظيفيّ يقوم على احتماليّة موجعة . فالشيء الذي لاح قد يكون الوطن ، وقد يكون غير الوطن . وما يجعل هذه الكلمة طافحة بالدلالة على المرارة أنّ تلك الاحتماليّة لا تجد ما يساعدها على أن تصبح يقينيّة خاصّة بالوطن . والسؤال الأخير المستدرك بكلمة (لكن) في قوله : “لكن لماذا لا يُقال هو الوطن ؟” إنّما يتحكّم بدلالته النهائيّة الفعل المضارع المبني للمجهول (يُقال) الذي يتّجه به نحو مجاهل جوابيّة تعبّر عن هوسٍ عمريّ بالوطن . هب أنّ ذلك الشيء لم يكن الوطن ، لماذا لا يُخفّف عن الشاعر حتّى عن طريق الإيهام ؟ فهل يعبّر هذا الاستفهام عن حال مرضيّة يعاني منها الشاعر المسكون بالوطن ، حتّى وهو في غيابة زنزانته ، حتّى وهو في تيهه ؟ وهذه المرضيّة ألا تشير إلى هول ما يعانيه الشاعر في أثناء تلمّسه طريق الوطن من جهة، وإلى قوّة تفاؤله من جهة أخرى ؛لأنّ التفاؤل قدره ؟ ومهما يكن من أمر، فإنّ السؤال الأوّل “متى نصل؟” وإن حمل من اليأس والإحباط والخوف ما يحمل ، فإنّ السؤال الأخير يتطلّب علاجا نفسيّا ، إيهاما يخفّف من هذا اليأس وذلك الإرتياب عن جسدٍ ما عاد يتّسع لحلول الوطن فيه:”وطني الذي يحتلّني/ما عاد يتّسع الجسد”(ص2). ولا تبقى الريبة من العبور إلى الوطن عند هذه الحدود .قال الشاعر: وحدي وتسألني الرياحُ على مدى عمري : لماذا أنت راحل ؟ وأجيبها : قد كان لي بحرٌ ولكن لم يعد متلاصقا هو والسواحلْ (ص 2 ) . تبدأ هذه الأسطر الشعريّة بحال الشاعر ( وحدي ) محمّلةً بأحمال العتب التي تطال أولئك الذين تخلّوا عنه وتركوه وحيدا . يعني أنّ هذه الحال تستحضر غائبين يتعدّى إليهم عتب الشاعر من دون أن يحدّدهم ، مع معرفته الأكيدة بهم . وفي عدم التحديد إشارة إلى مرارة ما بعدها مرارة . وهل يكون العتب موجّها إلّا إلى الأقربين، أو إلى أولئك الذين كان يحسبهم أقربين ؟ فمن هم هؤلاء الأقربون ؟ ولماذا لم يجدهم إلى جانبه في اللحظة المناسبة ؟ لعلّ السؤال الذي أطلقه الشاعر على لسان الرياح الرامزة إلى عنف الطبيعة يضمر بعض الإجابة ، خصوصا أنّ هذا السؤال قد امتدّ على مساحة العمر كلّها .” لماذا أنت راحل؟” . ومهما يكن من أمر ، فإنّ اسم الفاعل (راحل) المسند إلى الشاعر يستحضر، بشكلٍ أكيد، إلى الذهن اسم الفاعل المضادّ (مهاجر). هذا الاستحضار الذي يسم الرحيل بالسلبيّة في مواجهة الإيجابيّة التي تحملها (الهجرة) . (الرحيل) استسلام وانكفاء عن المواجهة بعكس (الهجرة) التي تحمل همّ الرجوع والانتصار . الشاعر راحل يعني أنّه مسوق بالقدر . وهذا أقصى ما يمكن أن يحلّ في نفس الإنسان من هزيمة . فهل بلغ التيه بعمر أقصى حدوده ؟ أن يكون للبحر سواحل يعني، في الرمزيّة العمريّة، حضور الهدف الممكن التحقّق .وهو عندما أسند فعل (كان) التامّ إلى كلمة (بحر) وعدّاه إلى ضميرالشاعر (لي) بعد أن أكّده ب(قد) التحقيقيّة ، إنّما أراد أن يومئ إلى الجماعة التي كان قدّ وجّه إليها عتبه المرّ (وحدي) ؛لأنّه كان يرى فيها الطريق إلى الوطن . أمّا وقد تفاعلت (كان) هذه مع المضارع المنفي (يعد) الذي نفى التصاق ذلك البحر بالسواحل ، فإنّ هذا البحر (الجماعة الخاذلة) قد فقد وظيفته ولم يعد مجديا . فهل يعزّز كلُّ ذلك مقولةَ أنّ الشاعر قد بات يائسا من إمكانيّة الوصول إلى وطن ؟ وأنا بعُرض البحر أبحث عن وطنٍ وطني الذي يحتلّني يقسو ، وأعشقه ، أحمله على الأمواج يبقى ما بقيت وإن أمت فهو الكفن ( ص 84_ 85 ) . تعني الإشارة السالفة ” قد كان لي بحرٌ ” نفيا لامتلاك الشاعر بحرا ، خصوصا أنّ البحر لا يكون بحرا وظيفيّا ( وطنا ) ، ( جماعة ) إذا لم يكن ” متلاصقا هو والسواحل ” . فهل يؤكّد ذلك أنّ الشاعر قد دخل التيه ؟ والتيه عن الوطن إشارة إلى أنّ هذا الوطن قد صار وطنا إحتماليّا ، مادّة للبحث ، حقيقته غير واضحة ولا بيّنة : ” وأنا بعرض البحر أبحث عن وطنٍ ” . وتذهب هذه الاحتماليّة بالوطن إلى أقصى حدودها . صار بالنسبة إلى عمر مسألة وجوديّة ذاتيّة ” يبقى ما بقيت ” ، حتّى لكأنّه وطن خاصّ بالشاعر دون غيره . كيف لا ، وهذا الوطن ، كما يقول عمر :”وإن أمت فهو الكفن “. لقد فقد الوطن حقيقته الموضوعيّة ليصير متاعا يزول بزوال صاحبه. يغدو كفنا، خرقة وظيفتها المثلى ستر عورة الميت . ويسأل الباحثُ نفسَه : أين حدود اليأس ، وأين حدود الأمل في الوصول العمريّ إلى وطنٍ ، وطنٍ ما ، شكلٍ من أشكال الوطن ؟ صار الوصول مشكليّة ، خصوصا أنّ الوطن لم يعد وطنا موضوعيّا ، صار ، كما رأينا ، وطنا ذاتيّا بامتياز ، لصيق حياة عمر وحدها. فهل كان ذلك بسبب يأسٍ ما نال شخص شاعرنا ؟ لنسمع سؤاله اليائس :
كم سيوفٍ كُسِرت من أجل أنْ ينتصر الحقُّ ، ولكنْ ظلّ سيفُ البغي والعدوان أقوى فلماذا طالما الأمر كذا نشهر الأعناقَ في وجه سيوف الظالمين ؟ ألأنّا لم نزلْ نؤمن أنّ السّيفَ لا يُكسَرُ إلّا بالدماءْ ؟ ( ص 12 ) . لا تشير (كم) الخبريّة إلى الكميّة الكبيرة من السيوف التي كُسِرت من أجل أن ينتصر الحقّ فقط ، ولكنّها تحمل في تضاعيفها إشارة إلى عبثيّة هذه التضحيات أيضا ، خصوصا أنّ ( ولكن) الاستدراكيّة التي شُفِعت بالكناية : “ظلّ سيف البغي والعدوان أقوى” قد أكّدت تلك العبثيّة وأومأت إلى عدم جدوى المزيد من انكسارالسيوف لتحقيق هدف يبدو أنّه مستحيل . ولذلك سأل الشاعر السؤال اليائس : ” فلماذا طالما الأمر كذا / نشهر الأعناق في وجه سيوف الظالمين ؟” . ويأتي المسوّغ مسوّغا مفعما بالإحباط ” ألأنّا لم نزل نؤمن أنّ السيف لا يُكسَر/ إلّا بالدماء؟ ” . كيف لا ، وقد بدا الإيمان إيمانا سوداويّا لا طائل تحته ، حتّى أنّه يثير ، ضمنا ، سؤالا تشكيكيّا : هل يُكسَر السيف، حقّا، بالدماء ، إذا آمنّا أنّه لا يُكسر إلّا بالدماء ؟ إنّ محكّ وظيفيّة هذا الإيمان يأتي من خلال صورة الأمّة . يسأل الشاعر : لكن لماذا نطلب الموتى وتجّار الحشيشْ لكي نغير على اليهودْ وشوارع التاريخ خالية سوى من ثكنة ملأى بأوسمةٍ وشعب في القبودْ ؟ (ص 25 ) . الإستفهام المشفوع بالاستدراك علامة ذات شجون . فإذا كان الاستفهام محمّلا بالعقم ” نطلب الموتى وتجّار الحشيش ” ، فإنّ الاستدراك إشارة إلى عبثيّة الطلب وعدم جدواه . فحين لا يبقى للأمّة إلّا أن تجلس إلى مأدبة اللئام ، يعني أنّها أمّة مفلسة وصلت إلى الدرك الأسفل من الإنحدار والآنحطاط . ولعلّ إشارة الشاعر إلى الصهاينة من خلال اسم (اليهود) ، فلأنّ الأمّة قد تحوّلت إلى طوائف ، وهي في أسوأ أيّامها وأحوالها . والذي قاد الأمّة إلى مثل هذا الواقع السيّئ مرتبط بتاريخها القائم على ثنائيّة : ( القمع/ الخنوع) ،( الثكنة / الشعب المقيّد) . فماذا بقي للشاعر ممّا يمكّنه من تجاوز دائرة الاحباط القاتل؟ لم يبق له سوى كبريائه الجريح : سوف أحيا وأقاومْ بعد موتين على موسم وردٍ ينتظرْ وعلى موعد جرحٍ ينتصرْ وإذا كان لا بدّ من الموت على صدر الحياةْ فلنمتْ مثل الشجر ( ص 8 ) . استطاعت هذه الأسطر الشعريّة أن تستثمر طاقة كلمة ( الشجر) الدلاليّة الرمزيّة استثمارا قويّا . هل حضر الشجر ،هنا ، بوصفه رمزا للحياة ، للجمال الطبيعي ، للقدرة على الانبعاث ، للقدرة على الموت وقوفا ؟ لا تستطيع الرمزيّة الأخيرة ( الموت وقوفا) أن تستأثر بشجرة عمر . كبرياء عمر (الموت واقفا) محمّل بكثير من القدرة على العطاء ، على ممارسة الحياة ، على إمكانيّة الانبعاث في الجيل التالي ، وإن كانت إمكانيّة إحتماليّة ؛ لأنّ موت الشجرة ، كيف ما كان لا يعني ، بشكل أكيد ، إمكانية الانبعاث . إنّنا أمام صمود حائر معذّب . إنّه الثمن الباهظ الذي قد يذهب هدرا . حضر الوطن ، أيّام كان عمر في السجن ،على هيئة سرابٍ/ماء، سرابٍ/ماء،
سراب …. ، وخرج فلم يجد وطنا ، وجد سرابَ وطنٍ ، فإذا السجن رفيقه في حلّه وترحاله . رافقه في حياة ما بعد السجن . وحين أصير بعيدا عن السجنِ عند المساء أعود إليه لقد ظلّ منّي هناك الكثير ( ص 66 ) . ولحاق السجن بعمر إلى بيته استحضر معه يوسف الصدّيق وأباه يعقوب النبيّ وإخوته والذئب . أخوة يوسف ( أصحاب عمر ) بدت علاقة عمر مع مَن وصفهم بأصحابه علاقة مشكليّة : أنا يا دمشق مهاجرٌ أنا لست أخلع صاحبي أبدا ، ويكمل صاحبي في الرمل هجرته ويخدعه السراب هو حين أعلن موت راحلتي توضّأ بالتراب ( ص 23 ) . يثير السطران الشعريّان الأول والثاني مجموعة من الأسئلة المشكليّة: لماذا يهاجر ؟ وإلى أين ؟ ولمَ يخاطب دمشق بالذات ليعلن هجرته ؟ ومَن هو ذلك الصاحب ؟ تحضر رمزيّة ( دمشق ) العروبيّة لتكون مرجعيّة الشاعر، وموضع ثقته ،وحافظة سرّه ، أو قل نجمته الفريدة . وهو حين استخدم اسم الفاعل ( مهاجر ) ، لا (راحل) إنّما استخدمه ليخرج نفسه ، ذات لحظة ، أوّلا من عقدة الرحيل التي تسرّبت ذات لحظة إليها ، وليقيم ثانيا مواجهة بين سلوكه الإيجابيّ الجديد وسلوك صاحبه السلبيّ . فهو مهاجر؛ لأنّه لم يتقبّل الهزيمة . مازال قلبه عامرا ، مع كلّ الانهيار العربيّ المريع ، بأمل الانتصار . وهو لذلك “لا يخلع صاحبه ” ما دام صاحبه مهاجرا ، وليس راحلا ، حتّى ولوكانت هجرة هذا الصاحب ” في الرمل” ، لعلّه يعثر،في الصحراء، في ساحة الجدب على قطرة ماء . وتتّسع الشقّة بين هجرته وهجرة صاحبه الذي “خدعه السراب ” ؛ لأنّ هذا الصاحب لم يكن فريسة تلك الخدعة وحدها ، فالكناية التي ينضح بها قول الشاعر”أَعْلنَ (الصاحب طبعا ) موتَ راحلتي ” إنّما تشير إلى تقدير خاطئ ساق ذلك الصاحب إلى ذلك الإعلان ، الذي يعني في ما يعنيه انكسارَ هجرة الشاعر بالسجن الذي كان لا يزال جزءا من هجرة عمر. ولقد قاد هذا الخطأُ الصاحبَ إلى اليأس من وجود ماءٍ، ف”توضّأ بالتراب” فكان هو مَن انكسرت هجرته،إذ كيف كان له أن يقدّر أنّ الوضوء يكون بالتراب؟ فالسجن بالنسبة إلى عمر لا يعني موت راحلته ، وانتهاء هجرته ، فهل تتكفّل تجربة السجن، بعد أنّ توغّل فيها الشاعر طويلا ، بالإجابة عن كلّ الأسئلة التي أثارتها هذه الأسطر الشعريّة ؟ إنّ الإجابات الاحتماليّة تبلغ من التشتّت حدّا غير قابل للحصر . أُسِر عمر دفاعا عن حلم ، بقطع النظر عن طبيعة ذلك الحلم وحقيقته ، وأمضى عشرين عاما ، زمنا ليس يسيرا ، وخرج فوجد الحلم ضغثا لا يلوي على شيء من الحقيقة . فإلام أفضت كلّ تلك الأسئلة المُرّة؟ كان ما أصعبَ أن يتّصف الكوكبُ بالظلمةِ ، أو يظهرَ من صلب نبيٍّ كاذبون . ويصير الذئبُ في محكمةٍ أبرأَ من إبن نبيٍّ آهِ من أخوة يوسف ( ص 26 ) . النورانيّةُ سمةُ الكوكبِ المحوريّةِ ، فإذا ” اتّصف بالظلمة ” خرج من هويّته الإيجابيّة إلى هويّة نقيضة . فما الذي قرأه الشاعر بظلمة الكوكب ؟ استدرجنا الشاعر من خلال صيغة التعجّب (ما أصعب) ليعبّرعمّا أمضّه من ألمٍ بوساطة مناخات التجربة اليوسفيّة مع أخوته . هذه المناخات القادرة وحدها على تقديم التجربة العمريّة . ما سرّ تلك المعادلة التي أقامها الشاعر بين اتصاف الكوكب بالظلمة وبين ظهور كاذبين من صلب نبيٍّ ؟ النبيّ هو يعقوب ، والكاذبون أخوة يوسف الذين جاءوا أباهم بدمٍ كذبٍ على قميص أخيهم ذاك . فما الأوجاع العمريّة التي حُمِّلتها الرمزيّةُ اليعقوبيّة ؟ أفاد عمر من هويّة يعقوب النبويّة ليخلعها : طهرا، وصدقا ، ورساليّة، واستعدادا مقدّسا للتضحيّة على ما قدّرعمر(الإنسان)أنّه المرجعيّة الجمعيّة القائدة إلى الخلاص . فهل تكوّرت تلك المرجعيّة وفاق الأنموذج اليعقوبيّ ؟ ما زال عمر مؤمنا بيعقوبيّة تلك المرجعيّة ( أبوّتها ) . فأين المشكلة ؟ وإذا مثّل يعقوب ما مثّله عند شاعرنا في هذا النصّ ، فمن يمثّل أخوة يوسف أبناء يعقوب ( المرجعيّة )؟ أفاد الشاعر ممّا يتّصف به أخوة يوسف من حسدٍ ومكرٍ وكذبٍ وإجرامٍ ليخلعه على أصحابه هو . وإذا كانت خيانتهم يوسفَ محاولة لتدمير رسالة ، فإنّ خيانة أصحاب عمر إيّاه محاولة لتدمير رسالة من ناحية وتدمير مصير أمّة من ناحية أخرى . وصيحة عمر ” آهِ من أخوة يوسف ” إشارة قويّة واضحة إلى ما بات يعانيه عمر من ضياع أصحابه عن جادّة الرسالة ( الجماعة الطريق). وإذا كان يعقوب كناية عن المرجعيّة ،وأخوة يوسف عن أصحابٍ كاذبين ، فإنّ حبر عمر عميق .هو لم يقل ذلك تماما . أومأ إليه بغير إشارة تضيء احتماليّتُها أكثر من اتّجاه ، وتنير أكثر من زاوية . فهل بدأ عمر معاناة أخرى جديدة فاجأته بعد خروجه من السجن ؟ تنتظر الإجابةُ عن هذا السؤال أعماقا أخرى في متن ” وعورة الماء ” يجب سبرها لتتكشّف الإجابة العتيدة عن ذلك السؤال . ويصير دمُ الفقراء جميلا لحدّ الغواية حين يقاوم ما يمكرونْ لا بدّ من دمنا حين يسرق قمصانَنا الأخوة الكاذبون ( ص 40 ) . تومئ هذه القمصان المسروقة بغير التماعة إلى القميص اليوسفيّ ، خصوصا أنّ سارقيها هم الأخوة الكاذبون ( أخوة يوسف ) . ويحمل هذا إشارةً إلى قداسة تلك القمصان ، هذه القداسة التي تؤشّر إلى المكر الزليخي من جهة ، وإلى أنّها الدليل إلى الحقيقة من جهة ثانية . وعودة الشاعر في انتمائه إلى الفقراء الذين يشترك معهم بحضور الضمير الجمعي ( نا ) الذي يجمعه إليهم” دمنا … قمصاننا ” دون الأصحاب (إيّاهم) “الأخوة الكاذبين” ، إنّما هو إعلان عن تحوّل من صراعٍ قائم بين الفقراء أنفسهم لصالح مستغّليهم ، إلى صراع هؤلاء الفقراء في مواجهة مدّعي تمثيلهم . ويعني ذلك في ما يعنيه أنّ سرْق القمصان ادّعاء لنبوّة زائفة . ولعلّ تمحور عمليّة السرْق من قِبل الأخوة الكاذبين على القمصان وحدَها ؛ فلأنّها علامة على انتماء لابسيها إلى طبقة الفقراء ، إلى دائرة القداسة . وسرْقها ما كان إلّا لادّعاء ذلك الانتماء ادعاء زائفا . لم يشأ الشاعر إذا أن يسبغ صفة الأخوة على جماعة ليست لها تلك الصفة . ومقاومة مكر الأخوة الكاذبين (تآمرهم) يُصيّر” دم الفقراء جميلا / لحدّ الغواية ” ؛ لأنّ تقديم ذلك الدم في عمليّة مواجهة الكاذبين فداءٌ مقدّس تماما كما لو كان في مواجهة الطبقة الرأسماليّة التي انضمّ إلى نصرتها ، هذه المرّة ، مَن كان أخا فصار ذئبا ( ص 48 ). تحوّلَ الأخوةُ الكاذبون إلى بعدٍ مرضيٍّ مستشرٍ : وليست زليخا سوى ما تبعثر من أخوتي هو الغدر يا أبتي ( ص 39 ) . تجاوز يوسف ( عمر ) الانتماءَ الأسريّ ( الجمعيّ ) إلى انتماء مفتوح ،وصار أخوته مثارا لكلّ فسادٍ أو شرّ . صار غدرهم علامة كلّ غدرٍ في الدنيا . فما تفسير ذلك ؟ يفاجئنا نصّ عمريّ يعيد كلّ حساباتنا: ولستُ ألومك يا صاحبي يوم زغتَ ؛ لأنّني فقدت على الدرب حتّى قميصي ومثلَك بعتُ اصطباري بكسرة خبزٍ تكاد مرارتها أن تعيد الطريق لأوّلهِ ولكنّني سأظلّ أسير وأعرف أنّ الطريق تؤدّي إلى الجبّ والقاتلين وأخوة يوسف والطلقاء ( ص 34 ) . يشكّل السطران الأوّل والثاني كناية تومئ إلى أنّ الصعوبة في الصبر والصمود قد بلغت درجة تفوق طاقة الإنسان القويّ المعهودة على التحمّل . ماذا يعني أن يسوّغ الشاعر زوغان صاحبه (رفيق دربه) ؟ هل يعني أنّ عمر قد ضعُف ؟ الكناية التسويغيّة التي جرّتها (لأنّي) التعليليّة إيماءة واضحة إلى مستوى من مستويات الضعف . باع عمر اصطباره بكسرة خبز ، شيئ لا يُعتدّ به .أضف إلى ذلك أنّ تلك البيعة كانت كفيلة بأن “تعيد الطريق لأوّله “،توصل إلى الخسران المؤكّد . فما مقدار ما حملته هذه الكناية المُرّة من علامات انهيار الشاعر (الإنسان) ؟ حضرت ( ولكنّي ) الاستدراكيّة لتعلن تعاليه على ضعفه ذات لحظة ، لتعيد موقفه وسلوكه إلى نصابهما الأوفى :”ولكنّي سأظلّ أسير “. وما كان هذا السير ليأخذ قيمته الحقيقيّة في شخصيّة عمر لولا أنّه يعرف سلفا “أنّ الطريق/ تؤدّي إلى الجبّ والقاتلين وأخوة يوسف/والطلقاء”. إنّ استحضار رموزٍ من مثل أخوة يوسف والطلقاء يعني أنّ الحسد والارتداد واقفان بالمرصاد للشاعر المقاوم وأنّ مصيره إلى الجبّ الذي تتكفّل رمزيّته بجعل هذه الأسطر الشعريّة الثلاثة كناية تشير إلى عنادٍ أسطوريّ تتّسم به شخصيّة عمر ،واقعا وشعرا.وأكاد أقول:إنّه لا يعلو تصميمَه على سلوك الدروب الخطرة، حين يقتضي الوطن ذلك ، أيُّ تصميم . وفي ذلك كناية ضمنيّة تقدّم لنا إيمان عمر بوطنه الإفتراضيّ إيمانا لا يمكن أن يثنيه عنه أيّ معوّق أو خسارة مهما بلغا من الخطورة والضيم .. وهو وإن يئس من العبور إلى ذلك الوطن ، وإن عرف مسبّقا أنّه ذاهب إلى نوع من أنواع الهلاك ، فإنّه لا يخلع نفسه حين يخلع الآخرون أنفسهم “يزوغون” . الوصول إلى الوطن المنشود ليس هدفا بسيطا عاديّا يمكن التخلّي عنه أمام صعوبة تعترض ، الوصول موقف وجوديّ ذاتيّ يخصّ عمر. ولعلّ هذا الموقف النهائيّ بالنسبة إليه قد تكفّل بتفجير أملٍ من نوعٍ ما في نفسه . لا تبتئس يا أيّها المتروكُ في الجبّ البعيدْ سيّارة تأتي، وتبتدئ النبوّة من جديدْ ( ص 46 ) . إنّ مناداة نفسه ” يا أيّها المتروك ” كناية عميقة الغور تطلّ بغير التفاتة نحو أكثر من اتّجاه، محمّلة بالعتب المشوب بكثير من اليأس ممّن تركوه ، وبالعتب المرّ الموجّه إليهم . ولا يخفّف من مرارة ذلك العتب نهيه الذات عن الإبتئاس ” لا تبتئس” . أمّا وصف الجبّ بالبعيد فإشارة شديدة الوضوح إلى السجن الذي مكث الشاعر فيه عشرين عاما . وتسمية ذلك السجن بالجبّ ليس إشارة إلى يوسفيّته فحسب ، ولكنّها إيماءة إلى أنّ خلاصه لن يكون إلّا بامتداد يد الغيب ، المشيئة الإلهيّة . ” سيّارة تأتي ،/ وتبتدئ النبوّة من جديد ” . توجد إشارتان في هذا الكلام : واحدة إرتداديّة تومئ إلى أنّ الشاعر يوم تعرّض للأسر كان يعتقد أنّه يمارس فعلَ نبوّة ، فعلا رساليّا تجاه وطنه وتجاه قومه ، وثانية مستقبليّة تمكّنه من ممارسة فعلٍ نبويّ،وإن كانت النبوّة الثانية مؤسّسة على الأولى ومختلفة عنها . الثانية حركة تصحيحيّة للأولى تصوّب الهدف والطريق . إنّ الأمل الذي تسرّب إلى نفسه وهو في غيابة الجبّ (السجن) البعيد كان نوعا من شعور الذات بأنّ نبوّتها (رساليّتها) ستكتمل . وتبلغ نبوّة عمر ( رساليّته ) أقصاها حين يخاطب أباه بما يرمز إليه على لسان يوسف قائلا : أعرني عماك لكي أبصر الدربَ يا أبتي فإنّ الذين أتوا بقميصي همُ العميُ والجبّ أخبرني كم هم مظلمون والعمى في القلوبِ ولو وسعت حدقات العيون وجاءوا ، وفي دمهم حملوا الذئب يا أبتي طوال الطريق ؛ لأنّهم فشلوا في امتلاك اليقين (ص 58 _ 59 ) . خلعت الأشياء ، مع الشاعر ، هويّاتها الموضوعيّة لتتّخذ هويّاتٍ فنّيّةً تتكفّل بالكشف عمّا نفذت إليه رؤيته . ما يشغل باله تعرّف الدربِ الموصل إلى الوطن . فإلى أيّ عمق من ذلك الدرب قد نفذ ؟ تبدّل الناس واختلطت الأمور عليهم ، حتّى لكأنّ نيتشيه قد شرح لهم عدميّته وأراهم كيف يمكن أن يكون الخير شرّا والشرّ خيرا ، وأن يتعالى الشرّ على الخير داخل هذه الثنائيّة ، فالتبس الضدّ بالضدّ ، فآمنوا بدرسه التفكيكيّ .إنّ تعدية الفعل ( أعرني ) المسند إلى إبيه يعقوب بما يرمز إليه ، إلى عمى ذلك الأب ، لا تعطي العمى هويّة الآلة المفيدة فحسب ، ولكنّها تستحضر التجربة اليعقوبيّة مع غياب يوسف ( سجن عمر ) أيضا ، فيسبغ ذلك على الشاعر السجين هويّة نبويّة . والقميص في قول الشاعر:”فإنّ الذين أتوا بقميصي هم العمي” لم يعد القميص اليوسفيّ القرآني . صار مثارا لدلالات تقع داخل التجربة العمريّة . فقد أومأت رمزيّة ذلك القميص بغير إشارة إلى أنّ الذين كانوا يسمّون أصحاب عمر ، وإن لم يلقوا به ، بشكل مباشر ، في غيابة السجن العشريني ، إلّا أنّهم قد سُرّوا لسجنه ، وتخلّصوا من حضوره . إنّ أسرارا كثيرة في تجربة الشاعر قد أُشير إلى وجودها من دون أن يُفصَح ، بشكل دقيق ، عن حقيقتها . كيف لا ، والجبّ ، هو الآخر ، لم يعد جبّا موضوعيّا ، إلتبس بالسجن هويّة وما هيّة ثمّ تحوّل إلى علامة دالّة من خلال إسناد الفعل ( أخبر ) إلى ذلك الجبّ وتعديته إلى (ياء) الشاعر ؟ وتتكشّف الدلالة من خلال الكناية ، مادّة الخبر ،” كم هم مظلمون “. أخرجتهم هذه الكناية القائمة على استعارة الظلمة من البئر وإسباغها على الأصحاب ،أصحاب الشاعر من خلال إسناد اسم الفاعل (مظلمون) إليهم . حوّلتهم من بشريّتهم ليصيروا فضاء للتيه . كيف لا ، والظلمة مرتع الذئبيّة (الشرّ) ؟ ولعلّ ما اتّصف به هؤلاء الأصحاب ناجم عن أنّهم ” فشلوا في امتلاك اليقين”. هل يشير ذلك إلى أنّهم حاولوا امتلاك اليقين فلم يوفّقوا إلى ذلك ، وإنّ عمر وحده من نجح في تلك التجربة ؟ وهل قاد الفشلُ الأخوةَ لكي يصبحوا ذئابا في مواجهة عمر؟ هل يسوّغ شاعرنا ضلالة من آذوه؛ ليخفّف من مفاعيل الاتّهام الذي وجّهه إليهم ؟ إنّها الغربة المرّة التي استولت على زمن عمر وحياته . ويرتقي الشاعر بحزنه وسجنه من بؤرة الذاتيّ الوجوديّ ليطلّ بهما على ما هو قوميّ إنسانيّ : أنا كاشفٌ من باع حزني للعدوِّ وباع عمري للسجونِ وراح يومض دونما مطرٍ ولا عصفٍ خصيبْ ( ص 76 ) . تضعنا هذه الأسطر الشعريّة الثلاثة في مواجهة بين طرفين : الأوّل التاجرالذي أخرجته الكناية ( أنا كاشفٌ ) ممّا أراد له التاجر أن يكون، لتقدّمه قادرا على المواجهة . ووضع التاجر هذا يرينا إيّاه فاقدا كلَّ قيم الخير والأخلاق. كيف لا، وقد تعدّى الفعل (باع) إلى كلمتي : (حزن) و(عُمْر) المضافتين إلى ياء الشاعر ، وهذه التعدية كفيلة بتقديم كلٍّ من (الحزن) و(العمر) سلعتين تومئان إلى تلفٍ خلقيّ قائم على تشييء ما هو إنسانيّ يتّصف به هذا الحاكم التاجر ؟ وإذا اقتضى البيع مشتريا ، فمن هو هذا المشتري ؟ إنّه العدوّ بالنسبة إلى الحزن ، الحزن الذي يقدّم الضحيّة قامةً وطنيّة عالية والبائع عميلا ، بكلّ ما تحمله العمالة من قذارةٍ . أضف إلى ذلك أنّ المشتري بالنسبة إلى العُمر هو السجن ، السجن الذي يُراد منه تعطيل العمر وتحويله إلى تلفٍ بلا جدوى . وإذا أطلّ الذاتيّ بقوّة من خلال ثنائيّة ( الحزن والسجن) بما ينطوي عليه من بعدٍ إنسانيّ وجوديّ ، فإنّ الوطنيّ القوميّ قد بدا مستفزّا من الشاري (العدوّ) ، بما يجعل من التضحية الذاتيّة حزنا وسجنا حمّالة همٍّ يقع خارج الذات ليشير إلى فلسطين بغير إيماضة والتماعة . وإذا أعطى إسناد الفعل (يومض) ذلك البائعَ هويّة البرق المبشّر بالمطر، فإنّ الكناية “دونما مطرٍ ولا عصفٍ خصيب” قد انتقلت بذلك البرق ليكون برقا خلّبا كاذبا يشير إلى مأساة مرّة ابتليت بها الأمّة ،الإدّعاء الفارغ الذي رفعته الأنظمة التي وصفت نفسها بأنّها أنظمة وطنيّة معادية لإسرائيل . وذلك من خلال رفع الشعارات البرّاقة في مظهرها ،المفرغة في حقيقتها، فكانت مصيدة أوقعت مَن كان كعُمَر، المسافة بين قناعاته وسلوكه معدومة ، بحزنٍ وأسرٍ مجّانيّين . وممّا يجدر ذكره في هذا المقام أنّ قميص يوسف في هذه المجموعة قد اختصر تجربة الأمّة ومعالم تدهور ثقافتها . لا بدّ من سجني ليكتمل الضياءْ أشعلت ليل السجن بالرؤيا ويسألني (العزير) لكي أفسّر ما يُقال وراء بابٍ يا سيّدي شقّت قميصي أمّتي العزلاءُ من قُبلٍ ،ومن دُبرٍ على أنقاض أبواب العواصم كلّها . واسأل (زليخا) ربّما تجد الجوابْ ( ص 26 _ 27 ) . هيّأت لنا الرموز اليوسفيّة هنا:(السجن،والعزير،والباب،والقميص، وزليخا) مسبارا رؤيويّا يتوغّل بنا إلى عمق دفين من أعماق واقع الأمّة . لقد خرجت (زليخا) من ثوب امرأة غاوية لتأخذ حجم الأمّة ، لتتلبّس هيئتها ودورها ” يا سيّدي شقّت قميصي أمّتي ” . يعني أنّ الأمّة قد استلفت من (زليخا) غوايتها ،ومن العزيرِ الزوجِ المصدوم رمزيّة المواطن الصادق المخذول ، ومن يوسف الذي قدّت أمّته العزلاء”قميصه من قُبُل ومن دُبُر”وأدخلته السجن،استفاد الشاعر منه عصارة عذاباته العابقة برمزيّة ساحرة . أمّا (السجن) فيمثّل الإضاءة الأقوى لمن آمن بعروبته ودوره ، خصوصا بعد أن أُخرج القميص الذي شُقّ من قُبل ودُبر،من كونه علامة صدق أو كذب لكي يصبح علامة ولادة جديدة ،ولادة مخلّصي الأمّة من تردّيها . نعني بهم أولئك الذين يكتمل الضياء معهم فيشعلون ليل سجنهم بالرؤيا . فهل يعني ذلك أنّ الأمّة قد وصلت إلى أرذل عمرها ، فباتت محتاجة إلى فينيق على الطراز العمريّ يولد من هذا الحريق ؟
الإنتفاضة الفينيق
يصبح الذاتيّ الوجوديّ في مثل هذا المناخ السوداويّ علامة قوّة ، وإعلان انتصار قادم :
يا سيّدي فليقتلونا ، إنّما أعمارنا ستجيء في جيلٍ يقوم من الدمارِ لكي يحاسب كلَّ أفّاكٍ مريبْ من كثرة القتل استعدنا وعينا وبه عرفنا كيف نرجع للحياةْ ……………. دمُك الفلسطينيّ آخر راية ظلّت لنا ما دمتَ تُقتل ثمّ ترجع في الصغارِ فلن نموت ؛ لأنّ جيلا واحدا ما عاد يكفي ………….. وما زلنا بأفكار العروبة مؤمنين ( ص 76 ) . لقد تضوّعت رائحة الفينيق من هذه الأسطر الشعريّة ، قدّمت لنا (البيان السياسيّ ) الباقي لنا ، والذي يجب أن نعمل بموجبه وفي ضوئه . الشهادة التي تستنسخها الأجيال ، جيلا عن جيل ، وحدها ما بقي للعروبة من طريق للقيامة ،لتحرير فلسطين . وتشرئبّ الإنتفاضة من محاق الأمّة ضوءا بازغا بالأوجاع والصعوبات وآلام المخاض. يا سيّدي التاريخ إنّا جائعون لصنع قائدْ ولصنع سيفٍ أو نبيٍّ أو مجاهدْ يأتي ، ولو يأتي على جملٍ ، ولكنْ وهو يلبس عزّةً أو غزّةً يستقبل الأطفال ناقته ، لتبرك عند بابٍ ليس يفتحه سوى من كانَ باسم الجرح عائدْ ( ص 41 ) . أسند الشاعر اسم الفاعل الجمع (جائعون) إلى الجماعة (نا) التي ينتمي إليها مؤكّدة بالحرف المشبّه بالفعل إنّ ،لتتشكّل من هذا الإسناد كناية علاميّة ، خصوصا أنّ هذه الجماعة تقدّم نفسها للتاريخ الذي خاطبته بوصفه سيّدها ، ضابطَ إيقاعها ،ومحكَّ نجاحها أو فشلها . فمن هي هذه الجماعة ؟ وإلام جاعت ؟ إنّ تعدية الجوع “لصنع قائد/ ولصنع سيف أونبيّ أو مجاهد” قدّم الأمّة فاقدة القدرة على اجتراح هذه المسمّيات الأربعة بما ترمز إليه . يعني أنّها قد قاربت أن تكون أمّا عقيما . فهل بقيت ،مع كلّ ذلك ، إمكانيّة لولادة جديدة ؟ إنّ الكناية ” يأتي ، ولو يأتي على جملٍ ” لا تشير إلى قبول الحدّ الأدنى البدائيّ من تلك الولادة (المجيء على جمل) ، بما يشير إلى رغبة جامحة لاستقبالها فحسب ، ولكنّها إيماضة إلى الهجرة النبويّة أيضا ، خصوصا بعد أن تجلّى ذلك الجمل ناقة تبرك حيث تؤمر ، وما مثّلته الهجرة وبرك الناقة من تأسيس لدولة،ومن تحوّل إيجابيّ في مسار الدعوة الإسلاميّة أيضا ، وفي ذلك ما فيه من تفاؤل ضمنيّ . وإذا كان الجمل إشارة إلى القبول بالحدّ الأدنى ، بقدر ما هو إشارة إلى التأسيس على معاني الهجرة النبويّة ، كما أشرنا ، فإنّ الاستدراك “ولكن ، وهو يلبس عزّة أو غزّة ” إنّما يصوّب البوصلة التي تزري بالحاكم العربيّ الذي دخل دائرة الذلّة والهوان أمام العدوّ الصهيوني من جهة، فصار بلا (عزّة)، وأبدل ، بالهدف الحقيقي ، هدفا طائشا ، فصار بلا (غزّة ) وما ترمز إليه من جهة أخرى . لم تعد إسرائيل هي العدوّ ، صار الواقفون مع فلسطين هم الأعداء . كيف لا ، والكناية ” يستقبل الأطفال ناقته ” لا تنحو باللائمة على الحاكم العربيّ وحده ، ولكنّها تتعدّاه إلى جيل كامل فشل في تحرير فلسطين ، حين ضيّع البوصلة والطريق ، فاستبدلت به جيلا جديدا ، جيل الأطفال ، جيل الجرح . كلمة أخيرة ويبقى أنّ “وعورة الماء ” عنوان كفل المجموعة ، وعبّر بشعريّة عالية عمّا حملته من هموم وقضايا . ويأتي على رأس تلك الهموم والقضايا قدرة الشاعر على اجتراح التفاؤل في الزمن العصيب . تلك القدرة التي قاربت الأسطورة بغير نسب . والعودة إلى المجموعة لا تكشف عن قساوة المرارة التي تجرّعها عمر الإنسان وعمر الشاعر في أثناء اجتيازه ذلك العمر المترع بالتحديات الجبّارة فحسب ، ولكنّها تكشف عن إيمان عمر العميق بثنائيّة (الوطن/الحياة) ،وقدرته العجيبة على المحافظة على نسغ سرّيّ سارٍ في عروقه ، اسمه التفاؤل بالمستقبل أيضا . والمجموعة، إلى ذلك ، تمثّل تحوّلا واضحا في لغة عمر الشعريّة ، وفي صوته . فالكناية بما تمثّله من التصاقٍ حميميّ بالشعريّة بعيدا من أيّ امتشاق لسيف الكلمات التي تتوخّى لفت انتباه القارئ إلى عظمة اللغة أكثر ممّا تتوخّى شدّه وإدخاله إلى المناخات السريّة التي تكتنزها تلك العظمة ، شكّلت عماد الشعريّة التي ارتكزت إليها هذه المجموعة العمريّة . لم يعد عمر ليريد من الشعر سوى عدل طقسه وحكمة محراثه وأثلامه ، على حدّ تعبير سميح القاسم . صارت لغته الشعريّة نفسا يتنفّسه بكلّ بساطة وعفويّة ويسر . كيف لا ، وقد تجاوز صوتُ عمر في هذه المجموعة صوتَه الذي كان له في مجموعاته السابقة . بات عصارة تجربة عُمْرٍ مرّة . فيه حكمة الشيخ بقدر ما فيه من أحلام الطفولة المعذّبة وعنفوان الشباب الحالم بوطنٍ حرٍّ سعيد. إنّه عُمَر الصادق صدق البراعم والينابيع ، لا يغريه شيء على الخروج من دنيا البراعم، ولا يلهيه لاهٍ عن التفرّغ لدفق الينابيع . إنّه عمر الذي يمثّل سلوكه عينَ قناعاته ، ولذلك استطاع أن يصيح ملء فيه : أنا كاشفٌ من باع حزني للعدوّ وباع عمري للسجون وراح يومض دونما مطرٍ ولا عصفٍ خصيب حوش الرافقة في 2/6/2016 علي مهدي زيتون