بحث: “الصراعُ العربيُّ_ الإسرائيليُّ” في روايةِ “العطيلي”.
مداخلة حول رواية “العطيلي” قدمتها الدكتورة لميس حيدر في مؤتمر أدب المقاومة ومواجهة الحرب الناعمة – كلية الآداب، زحلة.
فقد رضوانُ ساقيه في أثناءِ عملِه في شركةٍ يهودية، لذلك تحولَ اسمُه إلى العطيلي. وكان يشرفُ على عملِه مهندسٌ يهوديٌ يدعى حاييم، ينصحُه أن يبيتَ شحاذا من اليهود بعد قطعِ ساقيه، فيقتنعُ العطيليُ، ويروحُ يشحذُ المالَ، ويجمعُه مع حاييمْ صديقِه.
وتشتدُّ الحربُ بين اليهودِ والعربِ وتتفاقمُ الأحداثُ، فيقررُ هجرةَ فلسطينْ، والتوجُهَ إلى لبنان.غير أنّ رغبة العودةِ إلى فلسطينَ البلدِ الأمِ لا تلبثُ أن تستفيقَ مجددا، متأملا أن يستعيدَ أموالَه التي تركها مع حاييم. وعندما يرجعُ العطيليُّ إلى فلسطينَ يشعرُ “بأنّ الموتَ ليس صعبا في هكذا لحظات…”. لعلَّ شعورَ العطيليِّ هذا يحملُ في طياتِه دعوةً مدويةً إلى ضرورةِ البقاءِ في الأرضِ الفلسطينيةِ، وعدمِ مغادرتِها.
يبدو أنّه يجدُ أنّ الموتَ داخلَ فلسطينَ يتساوى مع الحياةِ، بل يرتقي عليها. ويتوجهُ العطيليُّ إلى بيتِه القديم، ويجدُ أنّ امرأةً قد احتلَته، فيتحوّلْ “إلى خرقةٍ رثة”. يقسو الزمنُ على المقعدِ الفلسطيني، فتبدو همومُه متعادلةً مع همومِ أخوتِه الآخرين العرب على بقعةِ الأرضِ نفسِها.
قد تكونُ مأساةُ المقعدِ أكثرَ حدةً، أو أقلَّ ضراوةً، غير أنّه في النهايةِ يشكّلُ نموذجَ الفلسطينيِّ المقهور، الذي ليس له أيُّ شروطٍ يمليها على الطرف ِالآخر، ويمثّلُ بذلك تلك الشخصيةَ المحطمة، والمهدورةَ الحقوق.
ونجد مثلَ هذه العودةِ في رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”. وذلك عندما يعودُ سعيدٌ إلى فلسطينْ، ويدخلُ بيتَه، فيجدُ أنّ امرأةً سكنَته.
إن ما ورد في روايتي “العطيلي” و”عائد إلى حيفا”، في أثناء الحديثِ عن عودتِهما إلى بيتيهما في فلسطين، يبدي عذاباتِ الفلسطيني، ومعاناتِه، وقبحَ اليهود، وظلمَهم. هذا ما يجعلُنا نجزمُ بأنّ النصين الروائيين يتحدّثان بموضوعيةٍ عن علاقةِ الفلسطيني بأرضه.
ويتوجَهُ العطيلي نحو بيتِ حاييم، ويعلمُ أنَّ صديقَه هذا صرفَ أموالَه على بناءِ ملحقٍ لمنزلِه، مدّعياً أنَّه سيسدّدُ له مالَه مقسطا. فيقول العطيلي متألما: “يعني… سنظلّ نشحذ مدى العمر”. يبدو لي أنّ عجزَ العطيلي هنا يتماثلُ مع عجزِ كلِّ فلسطينيٍّ، يقفُ مكتوفَ القوى، أمام اليهوديِّ الطاغي المتجبر.
لعل خضوعَ العطيلي يتشابَهُ مع إذعانِ كلِّ فلسطينيٍ حُطِّمَت إمكانياتُه، وطُوِّقَت من قبلِ اليهودي. قد يجسّدُ طمعَ حاييم بشكلٍ أو بآخر طمعَ الصهاينةْ. ف”إسرائيلُ” ترى أنّ فلسطين، وغيرَها من الدولِ العربيةِ هي ملكٌ خاصٌ لها. يقولُ إسرائيل شاحاك: “والتعريفُ الجغرافيُّ الدقيقُ لمصطلحِ “أرض إسرائيل” هو موضوعُ جدالٍ شديدٍ في التلمود وفي الأدبِ التلمودي… تشملُ أرضُ إسرائيل (بالإضافة إلى فلسطين نفسِها)، ليس فقط كاملَ سيناء والأردن وسوريا ولبنان، ولكن أجزاءَ كبيرةً أيضا من تركيا”.
وفي إحدى المراتِ التي يتوجهُ فيها العطيلي إلى بيتِ حاييم لتحصيلِ المبلغِ الشهري، يحاولُ مرغَ ساقي شولا، مستغلاً غيابَ زوجِها حاييم، فتطردُه. ثم تقرّرُ مع زوجِها حرمانَه من مالِه. أيمثلُ العطيليُ وجهَ المخادعِ، أمِ المخدوع؟ وهل ما فعلَه يبررُ منعَ المالِ عنه؟ وما دلالةُ هذهِ الحادثة؟ أعتقدُ أنّ سياسةَ حاييم شبيهةٌ بسياسةِ “إسرائيل” المخادعة. لقد كان المالُ بالنسبة للعطيلي مشكّلاً لقوةٍ تعضدُه، وفقدانُه أبادَ كلَّ قدرةٍ لديه. يتاجرُ حاييمُ بمالِ العطيلي، وهمومِه، كما تتاجرُ “إسرائيلُ” بفلسطينَ، وحقوقِ شعبِها.
يجسّدُ حاييم وجهَ”إسرائيل”، تلك التي تستنزفُ الآخرين، ولا يرفُ لها جفنٌ، فتتركُ فلسطينَ و أولادَها محقونين بخطاياها. لقد كان مالُ العطيلي في المستطاع، وعندما صرفَه حاييمْ صار حلماً، هذه هي حالُ الشعبِ الفلسطيني حيالَ ملكِه المستنزفِ من العدو. كأنّ مالَ العطيلي هنا يتسعُ، وينتشرُ ليبيتَ بمساحةِ فلسطين المنتزعةِ الحقوق.
يقولُ صابرُ طعيمة في هذا الصدد: هدفُ “إسرائيل” العدواني “أن تقتلَ روحَ الحياةِ والأملِ في قلبِ الشعبِ العربي كي لا يفكرَ في خيراتِ أرضِه أو في غدِه بالحقِ والعدل”. يمنحُ حاييم نفسَه راحةً يستحقُها معارضُه، و أحسبُ أنّ حجتَه التي تمسّكَ فيها ليمنعَ المالَ عن صاحبِه كانت واهيةً. فهو لن يستطيعَ أن يشرِّعَ فكرةَ اعتداءِ إنسانٍ حبيسٍ مقعدٍ على امرأةٍ حرةِ التحرك.
أحسبُ أنّ تصرفَ حاييم نابعٌ من أفكارٍ ضمنيةٍ مرسخةٍ في فكرِ اليهودي. يقول جودت السعد: “ظلَّ اليهودُ في تفاعلٍ ديالكتيكي مع التعاليمِ التوراتيةِ خلال حقبٍ تاريخيةٍ طويلةٍ، فالتوراةُ حدَّدَت أخلاقَهم وسلوكياتِهم تُجاهَ الآخرين حيث اتسمَت بالحقدِ والتعالي والعنصريةِ، والاستهتارِ بأفكارِ الآخرين وممتلكاتِهم”. يستشيطُ العطيلي غضباَ لأن حاييم لا يردُ له مالَه، ويرميهِ هو وزوجتَه بالرصاص. وهذا يؤدي إلى دخولِه السجن.
لعلّ تصرفَه يحملُ دعوةً لكلِّ العربِ، كي لا يسكُتوا عن حقِّهم، إذ عليهم أن يقاتلوا مهما تضاءلَت وسائلُ دفاعِهم. وهنا نسألُ: ماذا أرادَ النصُ أن يقولَ عندما اختارَ إنساناً لا يتكافأُ مع عدوِّه سواءَ من الناحيةِ العلميةِ، أو الجسديةِ، أو المادية؟ أحسبُ أنّ في النصِ سخريةٌ مخبوءةٌ ضد العدوِّ المتغطرّسِ، الذي يدَّعي عدمَ أفولِه، وأنّهُ قوةٌ لا تقهرُ. إنَّ نهايةَ حاييم كانت على يدي إنسانٍ مقعدٍ، وفقيرٍ، ولا ينتمي إلى فكرٍ عقائدي يتحركُ من خلالِه. أحسبُ أنّ العطيلي يمثلُ وجهَ الصامدِ، والمستبسلِ من أجلِ استعادةِ حقِه، تماماً ككلِّ فلسطينيٍ لن يرضى بحلٍ أخرَ يخالفُ فكرةَ استرجاعِ ملكِه. يدعو النصُ القارىءَ من خلالِ هذا الصراعِ القائمِ بين الطرفين إلى كرهِ “إسرائيل”، وإعلانِ العدوانِ عليها لتحقيقِ حياةٍ مستقلةٍ شريفةٍ تعيدُ لفلسطين العربيةِ صورتَها الجادةَ المسلوبة.
وهنا تراودُنا مجدداً أسئلةٌ، وهي: إلى أيِّ حدٍ وعَت الروايةُ واقعَ فلسطين المتردي في القرنِ العشرين؟ وكيف تجلى فهمُ القضيةِ الفلسطينية، وكيفيةُ تحريرِ الأرض؟ وهل تفاوتَ وعيُ التحرّرِ في هذه الروايةِ عن غيرِها من الرواياتِ المتزامنةِ معها؟ يشكو سامحُ في روايةِ “العطيلي” من عدمِ امتلاكِ السلاحِ المؤدي إلى تحريرِ الأرض.ونقرأُ مثلَ هذه الشكوى في روايةِ سحر خليفة “أصل وفصل”. وتتكررُ هذه الشكوى في روايةِ إبراهيم نصرالله “زمن الخيول البيضاء”. يوضّحُ ما وردَ أنّ الشروطَ “الإسرائيلية” لن تلقى صدىً ايجابيا لدى الفلسطيني. ولن تضعَ الانتهاكاتُ “الإسرائيلية” الفلسطينيين في الخطوطِ الخلفية، أو تثبطَ من عزيمتِهم، بل ستتوالدُ الأفكارُ الموجَّهةُ للهجومِ على العدو، حتى يتمَ القضاءُ على “إسرائيل”، وتعودُ القدسُ إلى أصحابِها.
إنّ تكرارَ موضوعِ التسلّحِ الفلسطيني في الرواياتِ الثلاث يبدي خطورةَ بقاءِ اليهود أحياء على أرضِ فلسطين، في حين أن الفلسطينيين يدافعون عن نفسِهم، وهم عراةٌ، من دونِ غطاءٍ يحميهم.