“أدبية الرواية في ضوء المنهج الثقافي السيمائي” للدكتور الناقد علي زيتون
أود أولا التعبير عن امتناني للمشاركة في هذه الندوة الأدبية لمناقشة كتاب استاذي الناقد الكبير الدكتور علي زيتون. وأن يتم اختياري لهو شرف كبير لي ويضعني دوما أمام مسؤولية الكلمة والنقد.
يقرّ الباحث الدكتور علي زيتون أنّ كتابه “أدبية الرواية في ضوء المنهج الثقافي السيمائيّ” هو مقاربة إجرائية لمحاولة التخلص من أعباء السرديّة التي ناءت بها الدراسات الروائية السابقة. ووصف المحاولة أنّها تجريبيّة يعني أنّ المنهج الثقافي ونظرية الكشف يشكّلان ميداناً مفتوحاً لا يمكن لتجربة واحدة، أو محاولة واحدة، أن تقول فيه الكلمة الأخيرة.
لقد أصبح الحديث عن السيمياء العامة عسيرا، لأنها تجاوزت كل الإطارات والمعايير العلمية التي تُرسَم للعلوم عادة. ولذلك فإن السيمياء العامة ليست معطى جاهزا وواضحا يمكن أن ننطلق منه للحديث عن سيمياء الأدب أو عن النقد السيميائي أو عن إي فرع سيميائي آخر؛ بل هي على العكس من ذلك تحتاج أولا إلى معالجة خاصة تبحث في أسسها العامة واتجاهاتها المختلفة، حتّى يتيسر ضبط وحدتها داخل تعددها ورسم معالمها داخل امتداداتها؛ وهذه مهمة ضرورية تفرض نفسها على الباحثين قبل أي حديث عن الفروع أو المباحث الأدبية داخل السيمياء.
والمنهج السيميائي قائم على الإحاطة بالمادة التجريبية ( النص الأدبي ) من نواحي عدة كاللغة والصوت واللون والشكل وكل ما كان علامة لمعنى، وحتى نصل إلى استخلاص جيد لمحتوى النص الأدبي يجب أن يكون المنهج السيميائي على مستوى من التجرد بحيث لا تمنعه اللغة من الوصول إلى معنى النص العميق الذي يحتاج تفسيره إلى تفسير كل جزئياته السيميائية وربطها ببعضها ثم الوصول إلى شكل نهائي يصف النص الأدبي, وهذه النتيجة لا تحققها المناهج التأملية أو حتى الانطباعية.
إنّ المنهج السيميائي يحلّل النص الأدبي من خلال خصائصه ويربطه بالأنظمة السيميائية خارج النص كالمحيط الذي نشأ من خلاله. من هنا يبدأ بحث الدكتور زيتون في كتابه الأخير، ولكن في مفارقة مدهشة في التحليل الأعمق بين السردية والسيمائية، متخذا منهحا خاصا به في منحى نقدي مغاير لكل ما هو موجود حين يعقد المناظرة العلمية بين ظل حركة الحداثة الثفافية التي شهدها الغرب، حين قدّم فهما متعددا للأدبية أنتج مناهج نقدية أدبية متعددة، وبين الإفادة من الحداثة القرآنية القائمة على العقل العلمي والمرتبطة بالقيم الدينية الخلقية التي لم تعرفها الحداثة الغربية، وذلك لإيجاد فهم جديد خاص للأدبية ينتج مناهج علمية جديدة.
وهو لا يقيم هذه المناظرة العلمية بين حداثة الغرب والحداثة القرآنية إلا لأنه يؤمن بعمق بمحورية القدرة الإسلامية على انتاج نقد أدبي مائز يتناسب وموضوعاتنا في العالم العربي والإسلامي بعيدا عن الآزمة الراهنة في النقد العربي الذي تقوم أسسه على تشكيلات الرؤى الفلسفية والثقافية والفكرية الغربية.
ويحيك الدكتور علي زيتون هذه الرؤية النقدية في تجاوز لنظريتي الانعكاس والانكسار، حين يقول بافتتان الأديب بنفسه. وهو افتتان مرتبط بقدرة الأديب على الكشف داخل العالم المرجعي، وعلى الفرادة التي يتلذذ بطعمها. وفي رؤيته لنظرية الكشف يقول الدكتور زيتون :”وإذا خصّ الله نفسه بالوحدانية والقدرة على الخلق، ترك للإنسان القدرة على الكشف والتمكّن من تذوّق طعم الفرادة التي تسمح له بالافتتان”. وهو افتتان برأيه مشروع كونه ينطلق من الافتتان بقدرة الخالق تجعله يفهم وحدانية الله في ما أبدعه من خلق عظيم، ويدرك المسافة الشاسعة جدا، والتي تفصل وحدانية الله عن فرادة الإنسان الكشفية.
ويشترط الباحث لتكوين هذه الكشفية عند الأديب توافر الثقافة العالية المحيطة بعصره ومجتمعه وأن يثير في وجه تلك الثقافة أسئلة محرجة، ومثل هذه الأسئلة هي ما يجب أن يتنفس بها نتاج ذلك الأديب الكبير، فيُكشف لنا في قراءة أعمالهم عن قلق معرفي إنساني تاريخي كفيل بانتاج أدب خالد.
يحتفي الدكتور زيتون بأدبية الرواية في سياقها السيمائي، فهو يرى أن تحليل العلامة السيمائية نسيج لغوي غرضه التعرف إلى الرؤية، وإلى عمق الثقافة التي تأسست عليها، وإلى مدى قدرتها على النفاذ في عمق المادة المرجعية. ويعني ذلك أن تلك الرؤية – وفاق رأيه- التي تحكم النظام السيمائي القائم في تلك الرؤية ستكون قابلة للتفتح لحظة تفتيح العلامة السيمائية. فتفتيح العلامة تفتيح لمكوناتها الوظيفية بوصفها بنية متشكلة من رؤية، ومادة مدركة ولغة. ويؤكد هنا أنه من المهم البدء في تفتيح الجزئي لنصل إلى التفتيح الكلي الذي يضع أصبعنا على أدبية الرواية.
الكتاب الذي بين أيدينا يشكّل علامة فارقة في الدراسات النقدية الأدبية العربية، وهذا رأي ليس فيه مجاملة لاستاذي الفاضل والكبير، إنما هو بحق ناقد نافذ ومؤثر يبحث بعمق وجدية عالية فيه رهان على التغيير والاتيان بكل جديد.
الدكتور علي زيتون لنا الفخر أن نكون من الخريجين على يديه، ونأسف شديد الآسف أنه إلى اليوم لم ينل حقه من التقدير العلمي الذي يستحقه في المحافل الأدبية الرسمية سواء اللبنانية منها أو العربية. من هنا أعاهده على أن أبذل مجهودا خاصا لاستقراء منهجه النقدي الأدبي والثقافي بشمولية أعلن فيها بحق عن استخطاطية حديثة وغير مألوفة من شأنها أن تثير عالم النقد الأدبي بأسئلة محرجة تجترح رؤى مغايرة متجاوزة الاتكاء على النظريات الغربية وتحفر اسمه بجدارة عند الجيل الجديد.