ورقة قدمها الدكتور طارق عبود في مؤتمر ثقافة المقاومة، أيار 2016 بعنوان ” نظرية الأدب المقاوم”
في تقديم الأدب المقاوم وتعريفه:
نعتقد أنّ المقاومة ولدت مع الإنسان، وهي ملازمة له منذ نشأة الخليقة، فالإنسان مقاوم بطبعه وفطرته لكل ما يحسبه عنصرًا يعمل ضده، إن كان هذا العنصر ينتمي إلى محيطه، وبيئته، أو كان من المجموعات الإنسانية أو الطبيعية الأخرى.
وبما أنّ اللغة كانت وما تزال تشكّل إحدى أدوات التواصل والمواجهة؛ فإنّ الانسان استخدمها كعنصر مؤثّر في الدفاع عن النفس، ونجد في التاريخ شواهد عديدة لتأثيرها اللغة وقد تحولت فيما بعد إلى أدب وشعر وخطابة وغيرها. لذا نستطيع القول إنّ أدب المقاومة هو التعبير من خلال اللغة التي استحالت نصًّا ومنصةً للدفاع عن الإنسان في معركته مع الآخر المعتدي، مع تعدّد هذا الآخر وتنوعه، إن كان سلطانًا جائرًا أو حاكمًا ظالمًا أو إقطاعيًا مستغلًا… لذلك لا يخرج الموضوع عن هذا المسار التاريخي التكويني.
لم يتوصّل الباحثون بعد إلى تعريفات أومحددات لغوية واصطلاحية مؤطرة تعرّف أدب المقاومة، لذا قد نستطيع القول، إنه كل كلمة ونص وقصيدة ورواية ومقالة وأغنية وموقف ثقافي وفكري وأدبي في مواجهة المحتلوالظالم وأعوانه. قد لا يتجلّى هذا المحتل في العدو الخارجي فقط، عبر الاحتلالات العسكرية والتهجير وهدم المنازل وقتل الإنسان من خلال الرصاصة والقذيفة، بل قد يتشكّل عبر مواجهة الظلم اللاحق بالفرد والجماعة، من قبل سلطة أو حاكم أو فئة تسحق مجتمعًا ما، أي هو كل كلمة تقال في وجه سلطان جائر.
يتوزع مفهوم هذا الأدب على غير اتجاه، قد يكون الأدب الذي يقارب المشكلات الإنسانية، ومظلومية الشعوب في مقابل الطغاة والظالمين. فهو مصدرللمعرفة، ولا يبقى إلا استخدامه وتحويله إلى طاقة قادرة على التحريك.
ومن الممكن أن يكون هو المعبّر عن الذات الجمعية، الواعية بهويتها، المتطلعة إلى حريتها في مواجهة الآخر العدواني. . . أي أن المقاومة هي تمكين الذات وتقويتها، والبحث عن العناصر التي تشد من عضدها، ثم البحث عن مكامن ضعفها لتلافيها، وبالتالي الاستعداد لمواجهة الآخر المعتدي. فأدب المقاومة يبدأ قبل ممارسة العنف أو الصراع مع الآخر العدواني، هو يبدأ بالذات. لذا كان هذا الأدب معنيًا بقضايا: الهوية والحرية والأرض والانتماء. . . وبقضايا الحياة الكريمة للإنسان، وفي جانب منه الاهتمام بالتجربة الحربية.
ونستطيع القول إن الأدب المقاوم هو قرين الوعي، الوعي الذي يلازم الكاتب والمبدع لأهمية تأريخ المراحل، والدفاع عن الأوطان والأرض والإنسان من خلال النص المنفتح على المستويات المختلفة، والذي يواكب العمل العسكري إن وجد، ويواجه الحرب الثقافية التي تهدف الى محو الذاكرة، ويعمل على تشكيل مفاهيم مختلفة تواجه ما يحمله المحتل من أفكار مسمومة تخدّر الجماعة، وتوقع بها للدفاع عن خطابه ومنطقه. لذلك يشغل الوعي أهمية وازنة على طريق تشكّل هذا الأدب وتكوينه، ومن ثم العمل على تحويلِه واستخدامِه كطاقة قادرة على التحريك في سياق المواجهة المفتوحة مع المحتل.
يقول الروائي والكاتب المصري سيد نجم: إنّ أدب المقاومة تحديداً يتمثل في تجربة الحرب وتجربة الثورة، مع إذكاء مفاهيم وقيم الانتماء والهوية والحرية، وكل تجارب الدفاع عن الحياة الفضلى التي تعلي من شأن الإنسان. إلا أن هذا التاريخ لم يسجل بعد بشكل كامل، فقد حرص الحكّام قديماً وحديثًا على تسجيل تاريخهم الشخصي، فأرّخ لهم المؤرخون، وبدماء العامة من الناس، خطّوا سطور تلك الصراعات والبطولات بأسماء الملوك والحكام .
لذا تعدّ سمة المقاومة المرتكزة على الوعي الجمعي، من أبرز السمات التي يمكن رصدها في تاريخ الجماعات والدول والأمم، لبيان وكشف جوهر العقل والوجدان الفردي والعام خلال فترة زمنية محددة، طوال تاريخ الإنسان على الأرض” ويوضح نجم، أن الأدب والفنونَ جميعَها تعدُّ وسيلة ناجعة وقادرة على توطيد الذات الجمعية في مواجهة العدوان، كما تؤدي دورها في كشف الآخر المعتدي، وإبراز ما يرسله من أفكار ويمارسه من أفعال، حتى يتسنى مواجهته.
ويشير، أنه نظراً إلى قصور كل التقنيات عن الوصول إلى أغوار النفس البشرية التي هي جوهر اهتمام الأدب والفنون، يصبح أدب المقاومة في موقع متقدّم بين المنجزات الإنسانية في كشفه عن حقيقة جوهر «الوجود» بالمعنى الفلسفي، كما يعدّ أدب المقاومة وثيقة بمعنى ما، يمكن الرجوع إليها، وهو الباقي دوماً عندما يذهب الجميع. وهذا ما تكرّس من خلال التجربة، مع كل الذين امتطوا ظهر المقاومة وشعاراتها، واكتسبوا الشهرة، ومن ثم عزفوا لأسباب متنوعة. لذا نطرح سؤالًا قد يكون مفيدًا في هذا السياق هو: هل أنّ أدب المقاومة مستمر، وتتوارثه الأجيال كقيمة وطنية وكثروة لا يفرّط فيها، كأدبٍ إنسانيٍ موضوعه وهدفه الإنسان أم انّ التجارب أفرزت حالاتٍ تراجَعَ فيها بعضُ من كان متقدمًا في خطابه وانتاجه الأدبي الصفوف الأمامية في مقاومة الاحتلال؟
2- لم تزل الدراسات التي تحدّثت عن أدب المقاومة، تقارب مرحلة الثورة الفلسطينية، رابطة هذا النوع من الكتابة بأدباء وشعراء ارتبط اسمهم بهذه القضية، كمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد ومريد البرغوثي وغيرهم، واتكأت معظم الدراسات على كتاب غسان كنفاني “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1946-1968..” وتوزعت الآراء وتنوعت، بحيث اختلفت في تحديد ماهية هذا الأدب، هل هو ادب الحرب الذي يتوجه في خطابه الى العدو الخارجي، ام هو ادب الثورة الذي يتوجه الى الداخل، كما قالت الدكتورة نجاح العطار والروائي حنا مينا..وهل أنّ الكاتب هو الذي تصنعه الجماهير، وهو الذي تبصّر بالأفكار الماركسية، كما قال الكاتب حسين مروة. أم أنّ أدب المقاومة يحدده وجهه الانساني العام، ولا يندرج في تصويره للصراع البشري تحت اية أطر قومية او اجتماعية، كما يورد الدكتور غالي شكري في كتابه عن أدب المقاومة.
ومن خلال العقود القليلة التي مرت، نستطيع ان نقسّم أدب المقاومة الى مراحل متعددة، تشبه في مسارها التاريخي سباق البدل الذي يسلّم خلاله الكتّابُ الرايةَ لمن يتصدى لهذا الموضوع في مراحل لاحقة، مع مراكمة النتاج في المراحل المختلفة، ليتشكّل على المدى المتسع ما يسمى أدب المقاومة..
توزّع هذا الأدب في مرحلة المقاومة في فلسطين إلى مراحل:
المرحلة الاولى: وتشمل: أدب المقاومة قبل نكبة العام 1948
* ادب ما بعد النكبة، وصولاً الى النكسة، في العام 1967
* ثم أدب المقاومة بعد النكسة.
* المرحلة الثانية: مرحلة الانتفاضة الأولى1987- 1994
* ثم مرحلة الانتفاضة الثانية 2002.
ولم يتم التطرق في الدراسات السابقة بشكل واضح الى مرحلة المقاومة اللبنانية ونتاجها، التي اتكأت في سنواتها الأولى الى المخزون الموروث من حقبة المقاومة الفلسطينية الغنية، ولا سيما كتابات درويش وسميح القاسم، وابراهيم وفدوى طوقان وغيرهم..
وانتقل النتاج الأدبي المقاوم الى مرحلة جديدة مع خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وانطلاق مرحلة المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي، وبزوغ أسماء جديدة ولامعة في هذا المضمار. ترافق ذلك مع انتقال الغلبة في نوع النص من الشعر، الى السرد، الذي أسس له الكاتب غسان كنفاني، مع توجه واضح نحو النوع الأخير، تماشيًا مع التبدّل الحاصل في المزاج الكتابي في العقود الأخيرة نحو السرد والرواية، مع ما تتيحه من حرية ملحوظة، تسمح للكاتب ان يطل على المسرح برؤية شاملة لسرد الأحداث الواقعية او التخييلية لموضوعة المقاومة..
وأثبت عدد من الكتّاب حضورهم الوازن في فن القصة والرواية، ولا سيما في لبنان، وفي مقدمتهم الدكتور القاص عبد المجيد زراقط، والدكتور علي حجازي، والدكتورة الروائية فاتن المر، والدكتور ابراهيم فضل الله، وغيرهم من القصاصين والروائيين الذين أسهموا وما زالوا في تأريخ أعمال المقاومة، وبطولاتها.. وهي أعمال كشفت عن البعد المقاوم في الأدب، وكنت عوامل فاعلة من أجل تقوية الذات الجمعية، وبالتالي رصد الأحداث وإبراز تأثيرها في الناس، فشكلتْ دعوة إلى الانتباه، والانتماء، والحرية، والخلاص.
تميّزت هذه الأعمال بالقفز فوق تقديس الشخصية المقاومة في النص وإحاطتها بهالة أسطورية، كما قال أدونيس عن النصوص التي كتبت في مراحل سابقة، بأنها كانت مشبعة بروح المبالغة، وانتقلت بها نحو الواقعية، وهذا ما فعلته الروائية فاتن المر تحديدًا، بحيث نزعت الكاتبة عن الشخصية صفة الأسطرة والغلو، وتحولت معها الى إنسان عادي يحبُّ ويكره ويخطئ ويصيب، وينجح ويخفق، ويخاف، ويحزن ويفرح.
الحرب الناعمة ودور الأدب المقاوم في المواجهة:
اتخذ مصطلح الحرب الناعمة سبيله إلى المعجم السمعي والأدبي والسياسي في تسعينيات القرن الماضي عبر مطلِق هذه التسمية جوزيف ناي. ولعل ما بيّن أهمية الأدب المقاوم هو هذا الهجوم الشرس على فكرة المقاومة، وما كُشف عن حملات بمئات الملايين من الدولارات لتشويه سمعة المقاومة وتاريخها ومجاهديها ومناضليها. واستهداف المنصات الثقافية والفكرية للطرف الآخر.
تكشّفت في السنوات الأخيرة وظيفة جديدة ورئيسة للأدب المقاوم في ظلال الحرب الناعمة التي يخوضها الغرب في وجه خصومه، بهدف توهين الفعل المقاوم والعمل على تيئيس مجتمعاتنا، ودفع شبابنا وفتياتنا نحو دهاليز الاستهلاك والميوعة.
لذا تتقدم الدعوة إلى الدفاع عمّا تحقق، من خلال المحافظة على الانجازات وعدم تشويهها من قبل الأعداء والعملاء والمغرضين، وهذا ما يضع المبدعين أمام مسؤولياتهم التاريخية في حفظ التراث المقاوم لمجتمع ووطن هزم الآلة العسكرية الصهيونية، وكسر المحتل وأذله وأخرجه من أرضنا مهزومًا ذليلاً لا يلوي على شيء، وهو ما لم تستطع دولٌ كثيرة فعلَه. ويبقى هذا الإنجاز، الضوء الوحيد في النفق المظلم الطويل الذي يقبع فيه وطننا والمنطقة. ومن ثم الارتفاع بالنص المقاوم إلى مستوى التضحيات التي قدمها شعبنا في سبيل حريته وكرامته وعزته.