قراءة في رواية ”حدّثيني عن الخيام“ لفاتن المرّ
الدكتور علي زيتون
حين يرتبط سلّم القيم عند شخص من الأشخاص بعقيدة معيّنة ذات طابع دينيّ ، أو اجتماعيّ ، أو سياسيّ ، ويكون لهذه العقيدة حضور قويّ عند هذا الشخص ، فإنّ هذه العقيدة ستصبغ ، عادة ، جميع مكوّنات رؤيته إلى العالم بصبغتها ، وتنسّق ، ومن دون وعي منه ، بقيّة مواقفه من سائر مكوّنات العالم الواقعة خارج اهتمامات تلك العقيدة ، أو تلك التي ترى العقيدة أنّها غير معنيّة ، بشكل أساسيّ ، بها .
وإذا كان معتنق هذه العقيدة كاتبا من الصفّ الثاني أو الثالث، فإنّ تعامل العقيدة مع الكتابة عنده سيكون تعامل السلطة مع الأداة ، وستوظّف الكتابة لحسابها ، وستحوّلها إلى مجرّد شعارات مستقلّة عن أيّة رعشة جماليّة . أمّا إذا كان الأديب من الصفّ الأوّل ، فإنّ العقيدة ستتغيّض في خطابه الأدبيّ ، وستكون نسغا مغذّيا، لقاحا يتوزّع ، بشكل خفيّ ،في جميع تفاصيل الخطاب ومكوّناته ، من دون أن يعلن عن حضوره فيه . يعطيه جماله وخصوصيّته و وفرادته من دون منّة .
إنّ عمق استيعاب الأديب العقيدةَ التي يؤمن بها ، وشدّةَ قناعته بها ، والوقوفَ ، مع كلّ ذلك، موقفا نقديّا منها ، يحول دون غلبة الشعاريّة على الأدبيّة ؛ لأنّ هذا الأديب ، بارتباطه مثل هذا الارتباط بعقيدته ، يقدّمه مثقّفا غير عاديّ ، له رأيه الخاصّ في جميع القضايا الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة الحاضرة بقوّة فوق الساحة الوطنيّة ، والذي لا يمكن أن يكون رأيا مستنسخا عن رأي المؤسّسة الحزبيّة التي تتبنّى تلك العقيدة . وهذا ما يجعل من رؤيته إلى العالم رؤية فريدة متحرّرة من الرؤية العامّة التي تفرضها العقيدة على معتنقيها بقدر اتصالها بها. والرؤية الخاصّة مدخل الأدبيّة القويّ والعنيد . فلا أدبيّة بلا فرادة وخصوصيّة. ومن الجدير بالذكر هنا، أنّ خصوصيّة الرؤية، في تعاملها مع الكتابة الروائيّة، لا تبتعد كثيرا عن تعاملها مع الكتابة الشعريّة. فإذا قيل: إنّ الرواية نظام سيمائيّ ، فإنّنا نستطيع القول : إنّ الشعر هو الآخر، نظام سيمائيّ أيضا . والاختلاف بين نوعي الكتابة هذين، هو اختلاف ناتج عن الاختلاف المتعلّق بالمادّة المعاينة . فجوانب العالم المرجعيّ الذي يهتمّ بها الشعر غير تلك التي تهتمّ بها الرواية؛ ولذلك فإنّ للخطاب الروائيّ أسلوبا تعبيريّا ليس للخطاب الشعريّ، والعكس صحيح. وخصوصيّة الأسلوب لا تلغي التلاقي بينهما. فكلاهما تعلو فيه سلطة الثقافة على ما عداها داخل الرؤية إلى العالم، وكلاهما يعاين العالم المرجعيّ، موضع اهتمامه، بعين خاصّة ترى منه ما لا يراه جميع خلق الله الآخرين . يُنقل إلينا باللغة، فتكون تلك اللغة جميلة حكما؛ لأنّ ما كشفته من أعماق العالم المرجعيّ جديد بالنسبة إلى كلّ ما كُشِف منه سابقا ، وخاصّ بالنسبة إلى كلّ ما كُشِف منه بشكل متزامن. فالجدّة المكتشفة هي التي تحدث الرعشة في نفس المتلقّي ، هذه الرعشة التي تمثّل الجماليّة الأدبيّة وتنتج عنها . صحيح أنّ لكلّ من الشعر والسرد خصوصيّته المختلفة ، إلاّ أنّ استراق المتلقّي إلى عالم الخطاب هو الغاية عند النوعين. ولا يكون الاستراق إلاّ بتلك الرعشة الجماليّة التي تأسره، فتخرجه من العالم السببيّ المنطقيّ الذي يتفيّأ تحت ظلاله،لتدخله سببيّة مختلفة خاصّة تنتمي إلى رؤية فريدة إلى العالم . ولا يكون الأسر إلاّ باللغة ، لغةِ الخطاب التي هي نظام سيمائيّ عامّ قائم على علامات سيمائيّة جزئيّة متنوّعة منتمية إليه .
وهذه العلامات الجزئيّة ليست شيئا سوى كلّ نبسة تنبسها الرواية: جملةً كانت أم مشهدا، إطلالةً ، طالت أم قصُرت، للزمان أو للمكان أو للشخصيّة . وذلك بقطع النظرعن الوظائف التي رأتها السرديّة لهذه التقنيّات . ويصير السؤال الجوهريّ هنا : لماذا تشكّلت هذه الجملة مثل هذا التشكّل؟ ولماذا حضر المشهد مثل هذا الحضور؟ (لماذا) الاستفهاميّة هذه هي الباحثة داخل اللغة عن عمق العلاقة بين ثقافة الأديب والعالم المرجعيّ ، وهي الباحثة عن الجماليّة المتمثّلة بالعلامات السيمائيّة الدالّة . والسؤال عمّا كشفته الرؤية من العالم هو إشارة إلى عمق، إلى أفق خصيب، إلى همّ . ولا يكون ما كشفته تلك الرؤية إلاّ ما مكّنتها منه الثقافة، سلطة الرؤية الحاكمة .
والدخول إلى عالم رواية فاتن المرّ الموسومة بعنوان ”حدّثيني عن الخيام“ الصادرة في بيروت عن دار الآداب ، بطبعتها الأولى العام 2015 ، هو دعوة إلى اجتياز المسافة القائمة بين العالم المرجعيّ الذي شكّل منطلق الرواية بسطحه الذي يتساوى جميع الناس بالنظر إليه، وبين ما قدّمت رؤية فاتن المرّ منه .وذلك من خلال اللغة التي صار معها العالم المرحعيّ عالما متخيّلا. إنّ تعرّف تلك المسافة هو تعرّف الأدبيّة التي حفلت بها هذه الرواية . ولا تقع هذه المسافة خارج العالم المرجعيّ ، فهي عمق من أعماقه غير المتناهية . وهي ليست مستقلّة عن رؤية الأديبة ، فهي تمثيل دقيق للطاقة الكشفيّة الخاصة بتلك الرؤية ، لقدرتها على التوغّل داخل العالم المرجعيّ بما يغيّب سطحه الظاهر للعيان . إنّ العمق الذي تصل إليه الرؤية هو الفرادة التي هي عين الأدبيّة . وما دمنا نتحدّث عن محوريّة الرؤية فيما يتعلّق بالأدبيّة ، فعلينا أن نشير إلى أنّ رؤية فاتن المرّ (ثقافتها) متمحورة حول عقيدة محدّدة تنتمي فاتن بقناعاتها إليها . ولا تخفي فاتن انتماءها هذا ، ولكنّها تجهر به ببساطة وعفويّة تشبهان بساطتها وعفويّتها في تناول جميع أمور حياتها .فهي لذلك لا تسعى، من خلال كتابة الرواية ، إلى هدف دعويّ . سلوكها المرتكز إلى أخلاقيّات حزبها وحده الدعاية التي تساند منطقها السياسيّ . وروايتها ليست شعارات سياسيّة تؤمن بها ، روايتها قراءة مرحلة زمانيّة بإنسانها ومكانها وأحداثها والثقافة السائدة فيها . تمتدّ من مجزرة الخيام الأولى التي ارتكبها العدوّ إلى لحظة كسر الأقفال العاتية التي كانت تغلق الأبواب على مجاهدي المقاومة في معتقل الخيام . وتشكّل قراءة كهذه ، من أديبة كفاتن المرّ ، إمساكا بعمق خاصّ من أعماق التجربة اللبنانيّة مع الاحتلال الإسرائيلي في مرحلة محدّدة ، وفي مكان محدّد. وما تمسك به الأدبيّة قد لا يستطيع العقل العقديّ أن يمسك به . فالأدب منهج معرفيّ يشاطر الدين والعلم في الوظيفة الكشفيّة المعرفيّة ، ويطال ما لا يطالانه .
ويعني كلّ ذلك أنّ التوغّل في رواية ”حدّثيني عن الخيام“ لا يمكن أن يكون ناجحا مفيدا إلاّ إذا اتّبعنا المنهج الثقافي الكشفي الذي يقوم على محاورة اللغة الأدبيّة من خلال وضعها قبالة ثقافة الأديبة وقناعاتها ، قصد الوصول إلى خصوصيّة ما كشفته هذه اللغة ، ومعرفة الأدبيّة التي عمرت بها . ويقتضي هذا أن نعالج أربعة عناوين : العنوان، المشهد الخارجي والداخلي، المجاز .
1_ سيمائيّة العنوان : ويأتي عنوان الرواية ”حدّثيني عن الخيام“ ليكون أوّل ما يستوقف القارئ في هذه الرواية، ويدفعه ليسأل : لماذا كانت مدينة الخيام موضوع الحديث ؟ ألأنّها محاذية للحدود الجنوبيّة ، بما يعني أنّها موقع بداية العدوان حين يبدأ، ونهايته حين ينتهي ؟ ألأنّها قاومت ؟
مدينة الخيام ذات خصوصيّة مستقلّة عن هاتين الفرضيّتين . معظم المدن والبلدات الجنوبيّة محاذية للحدود أو قريبة منها، ومعظمها أوذيت كالخيام وقاومت كالخيام . تحمل الخيام، دون سائر البلدات الجنوبيّة ، رمزيّة ضدّيّة تميّزها، فهي عنوان الانكسار بمعتقلها ، وهي عنوان الانتصار بتحطيم أقفال ذلك المعتقل . تختصر معاناة الجنوبيّين وآلامهم ، كما تختصر آمالهم وأفراحهم . والحديث عن الخيام يكثّف الحديث عن تجربة المقاومة من ألفها إلى ما انتهت إليه مع هذه المدينة . وإذا كان موضوع الحديث مشعّا بالدلالات بهذا القدر ، فإنّ فعل الأمر (حدّث) المسند إلى أنثى لا نعرفها ، والمتعدّي إلى ضمير متكلّم لا نعرفه أيضا ، قد أخفى عن القارئ أمرين معا : الفاعل والمفعول به . فهل كان هذا الاخفاء ذا غاية تشويقيّة تحثّ القارئ على البحث عمّا أُخفِي عنه ؟ التشويق تقنيّة ساذجة لا نصيب لها من الأدبيّة . أدبيّة العنوان متصلة بموضعين من متن الرواية .
واجهنا الموضع الأوّل حين فكّر ناجي المغرم بزميلته الصحافيّة هناء أن يكتب قصّة( ). فلماذا فكّر أن يكتب قصّة ؟ إنّ مجرّد التفكير بذلك علامة دالّة تدعونا إلى معرفة سرّها . ولعلّ الإجابة قد تبدأ مع ما قدّمه لنا الراوي من قناعات ناجي وموقفه من الحرب . فهو ”لم يعتقد خلال النهار الطويل الذي مضى أنّه سيفتقد صوته خلال الليل . في الخارج (خارج الملجأ) قصف يكاد يعلن نهاية العالم . لا تبدو العودة إلى الحياة الطبيعيّة أمرا يمكن أن يتحقّق يوما“( ). يخفي يأس هذا الصحافيّ قناعة مفادها أنّ الهزيمة واقعة لا محالة . فهو لم ينف إمكانيّة بقاء الحياة موجودة بعد انتهاء القصف ، ما نفاه إمكانيّة العودة إلى الحياة الطبيعيّة . وأن تبقى الحياة موجودة إشارة إلى قصور هذا الصحافيّ عن فهم حقيقة الحياة التي لا تكون حياة إذا لم تكن ولاّدة للمقاومة من رحم الهزيمة نفسها . وما وظيفة المقاومة إذا لم تكن ردّا على هزيمة ما ؟ إنّ حديثه عن حياة طبيعيّة هو حديث عن حياة آمنة ينشدها بعيدا من أيّ شكل من أشكال الحروب . وتمثّل شخصيّة ناجي ، كما تجلّت في الرواية ، أدبيّة كشفت عمقا من أعماق شخص حقيقيّ موجودة نماذجه على أرض الواقع . ومهما يكن من أمر فإنّ شخصيّة ناجي لا تنمو بشكل تحوّليّ . جاء نماؤها في سياق يأسه الذي رأيناه، ولا تخرج رغبته في ، كتابة قصّة عن هذا السياق . فقد ” فكّر بقصّة ما تنقذه من اليأس، قصّة تبدأ من حدث جميل في حياته وتنتهي بحدث سعيد يختلقه“( ). كتابة القصّة بالنسبة إليه إذاً ، هروب لا مواجهة . وطريقة تفكيره هذه علامة على أنّه ليس مقاوما ، ولا يفكّر في أن يصبح مقاوما. و(ما) التي ألصقها بكلمة(قصّة) لم تقدّمه إلينا تائها فحسب، قدّمته مريضا مصابا بالفَرَق أقصى درجات الخوف أيضا. وممّا تدلّ عليه (ما) هذه أيضا هو أنّ كتابته لن تولد ولادة طبيعيّة ، خصوصا أنّها لاتضع الأدبيّة على رأس اهتماماتها ، فهي أيّة قصّة . وسؤاله الذي طرحه على نفسه،من خلال التفكير بصوت عال:”ماذا لو اخترع قصّة تسلّيه؟“( )،يشير ،وبشكل واضح ومباشر ، إلى أنّ الكتابة بالنسبة إليه تسلية وإزجاء وقت . أمّا حلمه في أن يتفرّغ للكتابة( )، فلا يعدو أن يكون حلما رومانسيّا. وإذا تطلّبت القصّة بداية ونهاية ، وإذا كانت البداية من حدث سعيد ، والنهاية إلى حدث مختلق ، فإنّ الفعل (اختلق) لا يكشف لنا عن فهم ساذج لأدبيّة القصّة ، بقدر ما يكشف لنا عن عمق مرضيّ في نفسيّة القاصّ . ووصل هذا الصحافيّ إلى وجوب اختيار بداية حدثت في حياته ، فهل ”يبدأ من دخوله إلى الجريدة … من لقاء هناء؟“( )، وهل يعني ذلك أنّ المفعول به (الياء) للفعل (حدّثيني) هو ناجي ، وأنّ الفاعل المؤنّث لذلك الفعل هو هناء ؟ إذا كانت هناء الرواية قادرة على أن تتحدّث عن الخيام برمزيّتها، وظرفها مؤهّل لذلك ، فإنّ ناجي القاصّ غير قادر على النهوض بهذه الرمزيّة من خلال قصّة تستأهلها . وتغيب هناء عن دنيا ناجي بسبب ما حدث لها في إحدى المجازر التي ارتكبها العدوّ ، ومن دون أن يعرف شيئا عن مصيرها ، فيحاول استنهاض نفسه قائلا: ” لن أقبع وسط الفراغ حيث يترصّدني موت محتّم ، موت ذهنيّ، موت القدرة على الاحساس ، شلل المخيّلة ، وهي كلّ ما تبقّى لي“( ). وإذا كان ما يخشاه شلل المخيّلة بعيدا من أيّ همّ جمعيّ ، فإنّ مستقبل الرواية لا ينبئنا بنهوض حقيقيّ خاصّ به. ما حدث هو أن لجأ ، مع مجموعة من أمثاله الحياديّين ، إلى محميّة تحافظ على جنسهم المحايد ، في محلّة أطلقوا عليها ”خضرا“( ) تفاؤلا منهم ، وبعيدا من ساحات الحرب والقتال . لقد أسرته الحياديّة إلى دنياها . والحياديّة والعزلة أعجز من أن ينشرا الوعي والثقافة الفاعلين في الواقع ، كما ادّعى ناجي( ). يعني كلّ ذلك أنّ ما قدّمه حضور ناجي في الرواية لعنوانها واقع خارج الرغبة الحقيقيّة للمفعول به الياء للفعل (حدّثيني).
ويأتي الموضع الثاني من المتن، والذي له علاقة بالعنوان ، مع حضور أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانيّة، بريجيت، إلى الرواية، وفي الملجأ الذي جمعها مع ماجدة ، يتيمة الأمّ ، وابنة أخت هناء . حاولت هذه الأستاذة أن تعالج آثار الخبيء في طوايا عالم اللاشعور عند ماجدة على سلوك ماجدة ، وعلى وضعيّتها من منطلق فهم المشكلة والاعلان عنها سبيلا للشفاء . ولقد نصحتها قائلة: ”لا تخقي تلك الذكريات المخيفة في مكان عميق في داخلك وتوصدي الباب . هذا تصرّف مؤذ . ستتألّمين حين تبدئين بالكلام، ولكنّ الألم سيأخذ بالتضاؤل وستشعرين بعدها كأنّك أنزلت حملا ثقيلا عن كاهلك“( ). ولقد جرّها هذا لتطرح سؤالا ثانيا على ماجدة: ”هل أنت مستعدّة لتخبريني عن اليوم الأخـير في الخيام؟“( ) . يبدو هذا السؤال على علاقة لفظيّة بعنوان الرواية،وإن كان غير قادر،من خلال ما طرحته السيدّة بريجيت وما كانت تتوخّاه، على القيام بأعباء رمزيّة مدينة الخيام. خرجت بريجيت من الرواية ، كما خرج ناجي قبلها ، بات هاتفها مقفلا، غادرت البلاد إلى إيطاليا، ولعلّها تتمتّع الآن بمرأى (الكوليزه) التي حدّثت ماجدة عنها.
”حدثيني عن الخيام“ عنوان لا يستطيع أن يتحمّل أعباؤه رومانسيّ كناجي ، ولا محلّلة نفسيّة كبريجيت . هناء وماجدة هما المؤهّلتان لتولّي السرد بمثل ما كانتا مؤهّلتين لتولّي الحياة في مواقع الخطر ، مواقعِ المقاومة . وقصّة الخيام لا يستطيع روايتها إلّا من يقاوم .
ويبقى أنّ فاعلين أساسيّين كانا وراء إنتاج العلامات السيمائيّة التي تمحورت حول عنوان الرواية ، وتحديد أبعادها الدلاليّة هما : رؤية فاتن المرّ ، وما حدث في الخيام . وهذان الفاعلان هما اللذان أنتجا النظام السيمائي الذي انتظم الرواية . فالعمق الخاصّ الذي نفذت إليه رؤية الأديبة هو الذي أعطى العنوان أدبيّته التي ستمتدّ إلى جميع تفاصيل المتن الروائيّ. ويفرض هذا أن نتوقّف عند مجموعة من العناوين التي تبرز أبعاد هذا النظام . ولعلّ الوقوف عند كلّ من المشهد الخارجي ، والمشهد الداخلي النفسي ، والمجازيّة الفاتنيّة قد يكون كافيا لتعريفنا بأدبيّة الرواية المنتمية إلى ذلك النظام .
ب- سيمائيّة المشهد الخارجي : عمرت الرواية بمشاهد خارجيّة متنوّعة أدرجها النظام السيمائي العام المستند إلى ثقافة فاتن داخل مناخاته التي عبقت بها الرواية . يستوقف القارئ مشهد اجتياح الجيش الإسرائيلي مدينةَ الخيام العام 1978 «توقّف القصف وحلّ هدوء مريب. كنّ يستعدّن للخروج حين علا صوت آليات عسكريّة في الشوارع فوقهم، وإطلاق رصاص من كلّ الجهات . بدأت ماجدة ترتجف وتسلّقت السلّم لتنادي جدّتها . سحبتها المعلّمة سهام إلى الخلف، وكمّت فمها بيدها. الجلبة اقتربت ، غدت فوقهم ، والرصاص في كلّ مكان . كانت المعلّمة سهام تهمس في أذنها بكلمات مطمئنة: لا تخافي ، هم يبحثون عن المقاتلين الفلسطينيّين . لن يؤذوا العجائز…. ولكنّ الجارة آمنة لم تعد تقوى على الانتظار، فابنها بدأ يرتجف من شدّة الحمّى … قالت: سأخرج … لن يؤذوا امرأة تحمل طفلا… لم تغب إلاّ ساعة واحدة … أطلّت … ما كادت تصل إلى أسفل السلّم ، حتّى سقطت مغشيّا عليها… أفاقت، ولكنّها أمسكت بوسادة دفنت فيها وجهها لتكتم صوت بكائها»( ) ، إنّه مشهد (علامة دالّة)، قائم على مجموعة من العلامات الجزئيّة الدالّة المنتظمة في سلك العلامة الأمّ (المشهد) .
بدأ الإطار الزمانيّ لهذا المشهد قبيل دخول القوّات الإسرائيليّة مدينة الخيام بقليل، مع توقّف القصف ليمتدّ على مدى ساعة من حضور العدوّ إلى المدينة. وهذه المدة، مع قصرها، استطاعت أن تكشف لنا مدى معاناة الجنوبيّ في مواجهة الغزو . أما الإطار المكاني فقد انقسم ثنائية متمحورة حول السرداب (الملجأ) الخيامي في أثناء الاجتياح (داخل السرداب/ خارجه) . فكيف جمعت تجربة آمنة البعدين المفعمين بالموت والخوف . فضاء المشهد زمانا ومكانا مجرّداً، هو علامة سيمائية مرتبطة بالنظام السيمائي العام الذي انتظم الرواية كلها . انه زمن مكثف ومكان مكثف يختصران تجربة الجنوبيين مع الاحتلال ما مكث ذلك الاحتلال في قراهم وفوق أرضهم .
وهذه العلامة الإطارية تضج بالعلامات السيمائيّة التفصيلية التي تنضوي تحتها .
(توقف القصف) ايماءة تشير إلى أنّ قصفاً شديداً كانت قد بدأته القوات الاسرائيلية، قصفاً ألجأ النسوة والأطفال إلى السرداب (الملجأ) . و(توقفه) إيماءة داخل إيماءة تشير إلى أنّ القصف قد حقق أهدافه إذا لم يكن توقفه هذا ناجماً عن هزيمة مُنِي بها هذا العدو . ومَن سيهزمه ؟ لقد حقق أهدافه إذاً . و(حلّ هدوء مريب)، وكلمة (مريب) كلمة مُنَغّصة لما يعنيه الموصوف (الهدوء) . عطلت فيه أبعاده الايجابية . ذلك أنها إشارة إلى ما بات يقتنع به الجنوبيون في علاقتهم مع ذلك العدوّ، إلى أعمق أعماق نفوسهم . إذ لا يصدر عنه إلاّ الشرّ . فهم مقيّدون ، من خلال الريبة، بلحظات لا يعرفون عمّا تتفتّق من شرّ وأذيّة . والريبة ليست شكّاً كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن . هي ريبة مفعمة باليقين أنّ الأذيّة آتية . وهي ريبة تفصح عن عدم معرفتهم بما سيفاجئهم به العدوّ من شرّ مستطير. هذا الهدوء الذي عقلته المعلمة سهام، ولم تعقله ماجدة الطفلة الصغيرة التي تنتظر عودة جدتها إلى السرداب، تكشّف عن صوت آليات عسكرية ورصاص في الشوارع فوقهم . في هذه الوضعية (بدأت ماجدة ترتجف وتسلّقت السلّم لتنادي جدتها). وارتجاف ماجدة مؤشّر على ما توقن به هذه الطفلة من أنها مهدّدة وجدتها بحياتيهما من ذلك العدوّ .
ويصل بنا المشهد إلى حركتين قامت بهما المعلمة سهام حيال محاولة ماجدة صعود السلّم والخروج لمناداة جدتها: (سحبتها المعلمة سهام) ولم تنادها مناداة للعودة ؛ لأنّ سحبها يجري من دون إصدار أي صوت قد يسمع في الخارج . إنّه الاحتماء بالصمت ، والاحتماء بالصمت إشارة إلى خطر محدق يهدّد الحياة . وهذا التهديد إشارة إلى ثقافة الإسرائيلي في تعامله مع الآخر، فهي مجرّدة من أيّة قيم أخلاقية . وإذا دلّ ذلك على شيء إنما يدلّ على حقيقة الإسرائيلي، وعلى وعي الجنوبي بهذه الحقيقة . وتأتي الحركة الثانية التي قامت بها المعلمة سهام (وكمّت فمها بيدها) لتشكل علامة تكمل دلالة شقيقتها حركة (السحب) وتؤكّدها. ولا يكتمل المشهد عند كمّ فم ماجدة للحصول على الصمت . فبعد أن تأمّن الصمت همست في أذن ماجدة (بكلمات مطمئنة : لا تخافي هم يبحثون عن المقاتلين الفلسطينيين ، ولن يؤذوا العجائز) . وإذا كان الهمس حاملاً الدلالة نفسها التي يحملها (الصمت) وهي خشيه أن يشعر العدوّ بوجودهم ، لأن مجرد أن يوجد الإنسان يعني انه سيكون مستهدفاً من ذلك العدو ، فان الهمس تعبير عن مرحلة من الخوف لا ترقى إلى مرحلة الصمت المطبق . وهي خطوة ، وإن كانت قصيرة جداً، باتجاه الطمأنينة . وهذه الخطوة علامة على أنّ قائد هذا الحضور (الوجود) في السرداب المعلمة سهام يحاول أن يكون متماسكاً في قيادة هذه المعركة التي يخوضها الجنوبي من شقوق الأرض التي ألجأه الإسرائيلي إليها .. ولا يحمل قولها: (هم يبحثون عن المقاتلين الفلسطينيين) أي بعد عنصري .
فالمعلمة سهام ليست مسؤولة عن سلامة المقاتلين الفلسطينيين الذي يواجهون العدوّ . حسبها أن تؤمن الخلاص لمن فرض السرداب عليهم أن يكونوا تحت إمرتها وفي رعايتها . فالقائدة سهام ، في تلك اللحظة ، قد وعت مخاوف ماجدة وهواجسها ، وعليها أن تعالجها، بأيّ شكل من الأشكال، للوصول إلى ما سيتكشف عنه الاجتياح من أمر . وحضور الذاتي وتطلّبه برنامجاً من قبل القائدة لا يعني أن القائدة ووعيها منفكان عن النظام السيمائي العام الذي يحكم الرواية . فالمقاتل ، في المعركة ، يجب أن يحيط نفسه بكلّ مقوّمات النجاة من الموت ؛ لأن نجاته وبقاءه على قيد الحياة علامة نصر لجيشه ، واستشهاده مؤشر سلبي ، وعامل مضادّ لمقوّمات النصر . أن تنسى سهام نفسها لتنهمك بمعالجة خوف ماجدة مرّة وخوف آمنة ورعبها مرّة أخرى ، إنما يصب في خانة الصمود ومواجهة الخوف ، أي المقاومة السلبية في تلك اللحظة الحرجة .
والمحافظة على الاستمراريّة ، إنما تصبّ في خانة التمكن من المقاومة الايجابيّة في لحظة أخرى . ذلك أنّ ما انتهى إليه المشهد من انهيار نفسي كامل من قبل آمنة وما يؤشر إليه ذلك الانهيار من أهوال بشعة شاهدتها خارج السرداب ، إنما يشكل علامة تشير إلى أهميّة الدور المقاوم الذي أدّته سهام وإلى سلامة الوعي الذي مكنها من تأدية هذا الدور .
ومهما يكن من أمر، فان المشهد كاملاً يمثل قراءة تجربة مؤطّرة في ساعة زمنية واحدة، وفي مكان متمثل بثنائية (داخل السرداب / خارجه) من خلال رؤية فاتن إلى المعركة التي تخاض في الجنوب مع الحضور الإسرائيلي في قراه وفوق ترابه . وان يجد الجنوبي نفسه مفرداً في مواجهة الغزو في ظل غياب الدولة عنه ، وفي ظلّ عدم قدرة اللبناني خارج الجنوب على تقديم أية مساعدة . يعني أننا أمام علامة تريد منها فاتن أن تؤشر إلى دلالات سوف تتكشف للقارئ مع كل كلمة جديدة يقرأها بين سطور هذه الرواية .
ولعلّ المشهد الخارجي الأخير الذي قدّمته الرواية هو المشهد الذي يضعنا أمام المسافة التي قطعها الجنوبيّون في تجربتهم المرّة مع الاحتلال . «ولكنّ نداء شكر الله يعود ملحّاً … لقد سبقونا . يجب أن نسرع لنلحق بهم … الطريق يطول كأنّه العمر كلّه وهم يركضون ، يركضون حتى الإرهاق، حتى حافّة الاغماء ، حتى شفير الهذيان . هل يعقل أن تكون نهاية الاحتلال ؟… لا حرّاس ! رحلوا ! رحلوا !… لا ضبّاط إسرائيليين ولا لحديين على المدخل . يدخلون الباحة . حملوا الأسلحة التي تركها السجّانون مرميّة على الأرض … تكبير وصراخ في الداخل ، وأيدي السجناء تمتد من الطاقة الصغيرة في البوّابة الحديدية . تهب أيادي القادمين لتلاقيها في لمسة تختصر التاريخ .. حمل شكر الله أداة حديدية وراح يضرب القفل في البوابة حتى انكسر ، وخرجوا .. أحاط [بماجدة] ساعدان قويان ورفعاها عن الأرض . خالها سعاده … ولكنه هنا … وهم رحلوا»( ) إن علاقة وشجية تربط هذا المشهد بالمشهد السابق .
فكما كان الإطار الزماني الخاصّ بالأوّل متمحوراً حول لحظة دخول الإسرائيلي إلى الخيام ، فان الإطار الزماني الخاص بهذا المشهد متمحور حول لحظة انسحاب الإسرائيلي من الجنوب عامة ومن الخيام تحديداً ، وكما كان الإطار المكاني للمشهد السابق متمحوراً حول ثنائية (داخل السرداب/ خارجه)، فان الإطار المكاني لهذا المشهد متمحور حول ثنائية (داخل المعتقل / خارجه) .
فالمسافة الممتدة من داخل (سرداب الخيام) إلى داخل (معتقل الخيام) إشارةٌ تقدّم الإسرائيلي عدوّاً غاشماً بالدرجة الأولى، وخائفاً من الجنوبيين ، أو غير قادر على تطويعهم بالدرجة الثانية . ولذلك كانت النقله بهم من (السرداب) حيث لا حول لهم ولا طول ؛ إلى (المعتقل) حيث إحكام السيطرة عليهم علامة خوف يخفي في تضاعيفه ضعفاً . وإذا كان للسرداب إشارة ضعف بالنسبة إلى الجنوبي ، هذا إذا لم نأخذ بالحسبان أن نزلاء السرداب أطفال ونساء لا رجال ، فان المعتقل إشارة تحوّل ضعف الجنوبيّ إلى قوّة ، وإلاّ لماذا استُخدِم المعتقل ؟ وإذا كانت المسافة من داخل السرداب إلى داخل المعتقل علامة تحوّل داخل دائرة الانكسار الجنوبي، فان المسافة من خارج السرداب، حيث الإسرائيلي والعميل هما المسيطران ، إلى خارج المعتقل ، حيث الجنوبي هو المسيطر هي إشارة تحوّل أيضاً من الضعف الجنوبي إلى القوة . هذا التحوّل المترافق مع تحوّل نقيض يخصّ الإسرائيلي والعميل، تحوّل من مظاهر القوّة إلى مظاهر الضعف .
ويبقى انّ المسافة بين المشهدين مسافة منتظمة في سلك النظام السيمائي العام المنتمي إلى ثقافة فاتن، خصوصاً فيما أفصحت عنه من تفاؤل .
ولا تخرج تفاصيل هذا المشهد عن ذلك النظام العام الذي حكم الرواية . فنداء شكر الله : (لقد سبقونا يجب أن نسرع لنلحق بهم) لا يوحي بأنّ الخبر قد شاع حتى عمّ جميع سكان الخيام فقط، ولكنه يومئ إلى أن هذا الخبر حقيقي ومؤكّد . و(يجب أن نسرع لنلحق بهم) تعبير عن انخطاف الخياميين بخبر مفاجئ لم يكن متوقّعاً . فالاعتقاد الراسخ في نفس العربي هو أن الجيش الإسرائيلي جيش لا يقهر . أحسّ أهل الخيام في تلك اللحظة أنهم أمام معجزة. والحلم القابع في أعماق وجدان العقديّين بالانتصار على إسرائيل هو الذي جعل (الطريق يطول كأنّه العمر كلّه)، وهو الذي جعلهم (يركضون حتى الإرهاق ، حتى حافة الاغماء، حتى شفير الهذيان، هل يعقل أن تكون نهاية الاحتلال؟) . وان يكون العقل غير قادر على فهم مقولة (نهاية الاحتلال)، فلأنّ العقل العربيّ قد راكم تجربة مع الهزائم ممتدة من العام 1948 إلى العام 1967، إلى دفرسوار العام 1973 . فكيف لهذه الوقائع أن تكذب ؟ وان يطول الطريق أمام متلهف لرؤية العجيبة ، حتى يساوي العمر كله، لا يشير إلى البعد العجائبي للحدث فقط، ولكنه يزيل ركام سنوات وسنوات ليكشف عن انتظارات العربي القابعة في أعماق نفسه ووجدانه ، خصوصاً بالنسبة إلى ذلك الذي عاش أحداث العام 1948، أو نُقلت إليه من آبائه وأجداده . فالذي كان يراقب العمر ينوس وهو يمنّي النفس بأن يعيش إلى لحظة تحدث فيها معجزة الانتصار لا يمثل ذاته وحدها . والاحساس بطول الطريق كان تعبيرا عن همّ وطنيّ عام . ولا يمكنه أن يكون إحساساً خاصاً بماجدة أو شكر الله .. أعطت الرواية ماجدة وشكر الله عمق رمزياً ناطقا بلسان الأمة كلها . وما كان لهذا الاحساس بطول الطريق أن يشعّ بما شعّ به من دلالات لولا لم تكن العين التي عاينته وسبرته إلى هذا الحدّ من العمق عين أديبة مثقّفة حمّالة همّ جمعيّ . وأن يكون ركضهم (حتى الإرهاق، حتى حافة الإغماء، حتى شفير الهذيان) يعني أنه نهاية الركض الوظيفي ، فليس بعده ركض له وظيفة توازي وظيفة هذا الركض الذي شارف الشفير . انه سعي الغريق للوصول بأنفه إلى الهواء . وكيف لا يركضون هذا الركض ، وها هم في جزء تالٍ من المشهد نراهم وقد (حملوا الأسلحة التي تركها السجّانون مرميّة على الأرض). وذلك في إشارة إلى الخور والجبن اللذين توليا نفوس السجّانين في مواجهة المقاومة .
وهذا الخور والجبن إذا ما قسناه مع سقوط آمنة عند أسفل سلّم السرداب مغشيّاً عليها ندرك إنّ الإرهاب الذي مارسته إسرائيل لم يكن دليل شجاعة وتمكّن . كان دليل خوف وضعف ونذالة مترسّخة في نفوسهم . فالارهاب علامة جبن ، لم تقله الرواية بكلام مباشر . قدّمه لنا نظامها العلامي المرتكز إلى معرفة ثقافية ، وإلى عقيدة تؤمن بها الأديبة حق الإيمان . هذه الأديبة التي قدّمت لنا رؤية خاصّة لما نشرته وسائل الإعلام المرئيّة عن هبّة أيادي القادمين إلى المعتقل لتلاقي أيدي السجناء التي امتدّت من الطاقة الصغيرة في البوابة الحديديّة . رأت في تلك اللمسة على أنها (تختصر التاريخ) . وأن تختصر لمسةٌ التاريخ يعني أنّها علامة تفسّر كلّ ما حدث ، وكلّ ما يمكن أن يحدث في مستقبل الأيام . إنها فعل ثقة بحتمية الانتصار الكبير .
وهي عابقة بتفاؤليّة عقيدة فاتن . ولا تختار فاتن من بين كلّ الأسماء إسماً محدّداً ، أعني شكر الله، إلاّ بسبب رمزيّة هذا الاسم ، وما يمثّل صاحبه الأصليّ الدكتور شكر الله من موقف حيال قضايا الوطن والإنسان . فهو المسيحي الذي طبّب فقراء الشيعة في الخيام، وبقي معهم حتى آخر رمق من روحه التي أزهقتها رصاصة غادرة من خائن .
إن رمزية هذا الاسم الذي كسر الأقفال مرتبطة بعقيدة الأديبة السمحاء . ولم يكن اختيار اسم سعاده لشقيق هناء وخال ماجدة اختياراً حيادياً . حمّله نظام الرواية السيمائي العام كلّ أحماله الدلاليّة . فاسم الاشارة المكاني (هنا) الذي أعقب الاستدراك ب(لكنه) في عبارة (خالها سعاده .. ولكنه هنا … وهم رحلوا) كان علامة ذات خصوصيّة لم تحمله أية (هنا) في أي موضع كلاميّ آخر . (هنا) هذه تمثيل لثغر من ثغور الوطن . وأن تكون (هنا) هذه حيّزاً لحضور سعاده ، مع ما يحمله اسمه من رمزية سياسية يعني أنّها (هنا) مفعمة بالهموم التي تشكل قوام النظام العلامي العام الذي قامت عليه الرواية . كيف لا و(هاء) (لكن) التي تستدرك كلّ أحلام الأمّة بالحضور ، إنّما حضرت في مواجهة ضمير جمع الغائبين (هم) الذي يضم الإسرائيلي إلى العميل وقد اسند إليه فعل (رحلوا)؛ لكي تعبّر عن الشعور اللذيذ بالانتصار في معركة متقدّمة من معارك الأمة . ويعني ذلك أن المسافة بين (هنا) و(رحلوا) لا تعبّر عن الثبات ، ثبات المقاومة في مواجهة الرحيل المتمثّل بانهيار العدو فقط كما يعبر ظاهر هذه المسافة .
إنها مسافة تختصر التاريخ على حدّ تعبير فاتن ، وهي مسافة واعدة مفعمة بالتفاؤل والاحساس بقدرة الشخصية الفردية ، المعبّرة عن شخصية الأمّة ، على التماسك واجتراح المستحيل والمعجزة .
ج_ سيمائيّة المشهد النفسي الداخلي :ومهما يكن من أمر، فان الرواية من ألفها إلى يائها عابقة بالمناخ الذي تشيعه الحرب في النفوس ، حيث يحضر الملجأ بقوة بوصفه استدعاء من استدعاءات الحرب . وهذا ما يجعل من المشهد النفسي الداخلي شريكاً قوياً للمشهد الخارجي في السير بالرواية نحو نهايتها . ويأتي السؤال البديهي هنا: كيف تجلّى هذا المشهد النفسي الداخلي ؟ وأيّ حدود وجدناها فيه، بين الذات والآخر ، بين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها ؟
في الملجأ يغيب العالم الخارجي ولا يبقى سوى وقع الحرب على نفس الفارّ إليه . يصبح الملجأ عازلاً ، ولا يسمح إلاّ للمَشاهِدِ القاتمة داخل النفوس بالحضور إليه . يواجهنا بالشخصية مباشرة بعيداً من سلطة الراوي . ترى هناء أنه «في الملجأ ، حين يعلو صوت القصف على الأصوات البشريّة ويضيّق الهلع الخناق على الأعناق، يبدأ المرء بالبحث عن سبيل لإقامة التحصينات الداخليّة ضدّ الخوف والضعف والانهيار . ضد ـ شعور النمل ـ … فالمرء يشعر أنه مجرّد نملة تنتظر أن تهبط عليها رجلُ عملاق شرس . وهي أن هربت أو تسمّرت في مكانها ، غير واثقة من إمكانيّة النجاة . أن تنجو أو لا تنجو مفعول صدفة»( ). إنه مشهد مكثف قاتم بين ذهن هناء ونفسها . يضع الذاتي في الواجهة ، على حساب المبادئ والقيم . فكيف للمبادئ والقيم أن تحضر إلى الذهن في لحظة تكون الحياة كلها مهدّدة بالموت ؟ إن مجرّد حضور الإنسان في الملجأ مدفوعاً بفعل الحرب يعني أنه لا دور له في هذه الحرب . وكيف يكون للفرد دور والدولة والتنظيمات المعادية لاسرائيل لا تملك دوراً في مواجهة الطائرة والدبابة . وإذا كانت التنظيمات في مرحلة الاختباء ، فالأفراد أولى أن يعيشوا حال الاختباء . ولا يبقى لدى الفرد إلاّ أن يبحث (عن سبيل لاقامة التحصينات الداخلية ضد الخوف والضعف والانهيار) . وإقامة التحصينات علامة مزدوجة الدلالة . تشير إلى ممارسة أضعف الايمـــــــــــان ،
أوهن أشكال المقاومة من جهة ، وإلى الأمل بالوصول إلى ممارسة أفضل أشكال المقاومة من جهة أخرى ، فانتصار الذات على ثلاثية الخوف والضعف والانهيار ، في أحلك الظروف والأوقات ليس بقصد الحفاظ على الحياة فقط، انه يعد بالشجاعة والتماسك في ظروف أخرى. ولغة إقامة التحصينات الداخلية مأخوذة من أدبيات ثقافة فاتن , وهي في مواجهة الخوف والضعف والانهيار و ليس في مواجهة الموت ودفعه فلذلك شأن آخر ، واللجوء إلى الملجأ هو من هذا القبيل .
وشخصية هناء التي تحاول إقامة التحصينات شخصيّة واقعيّة تشير إلى عمق إنساني يخصّ ثقافة الروائية . فهناء ليست (سوبرمان) ، هي إنسان عادي يخاف الموت ككل الناس ، ويتمنّى أن يفرّ منه .
و(شعور النمل) الذي تواجهه بتلك التحصينات مرتبط بالثلاثية عينها . وهو علامة أكثر توغلاً في العمق الانساني لثقافة فاتن . يمثل هذا الشعور فعل احتجاج على ما أوصل ومن أوصل مجتمعنا إلى هذا النوع من الشعور ، إلى هذا المستوى من الحضيض . يبرز فعلُ الاحتجاج هذا العدوَّ بطائراته ودباباته عملاقاً يتبدّى مجتمعنا حياله مجتمع نمل لا حول له ولا طول .
وتفاهة مصير الفرد المعلق على حبل الصدفة في هذا المجتمع . تطأه قدم العملاق أو لا تطأه ، هو تعبير عن حزن يلامس اليأس والاحباط أيضاً . ذلك أن شعور النمل ، وان كان شعوراً فردياً، إلاّ أنه يلامس شعور الجماعة ومسؤولياتها بقوّة . شعور النمل الذي أخرج الإنسان من هويته الإنسانية ليتمثل نملة من أضعف خلق الله ، هو شعور مفعم بالاحباط في ظروف تلك المرحلة . والإحباط ليس إعادة حساب مع ثقافة السرديات الكبرى (قضايا الأمّة الاستراتيجية ) . هو إعادة حساب مع من يتولّون القيادة في ظلّ هذه السرديّات ، وإن كان قد بلغ الإحباط عند بعضهم درجة التفلّت من القضايا الكبرى ، لأن التمسك بها بالنسبة إليهم لم يعد مجدياً . وتسرّب العديدون من اليساريين إلى دائرة الطائفيّة والتقوقع .
ولا يبقى السؤال المرّ الناجم عن شعور النمل على ألسنة من لا يقاتلون كهناء مثلاً ، تعدّاها إلى ألسنة المقاتلين الذين اكتشفوا فساداً في صفوف قيادييهم . ومع ذلك فان (حسيناً) شقيق هناء المنضوي تحت لواء حركة فتح ينصح زميله (مريداً) الباحث عن بقعة نقيّة في أيّة منظمة من المنظمات الفدائيّة قائلاً : «كلّ ما يمكن أن نفعله هو أن نحرس النار إلى أن تأتي الرياح المؤاتية .. الآن ، لم يعد الوقت وقت نظريّات ودراسة الخيارات … الحرب تلاحقنا حتى داخل عقولنا ، معيثة فوضاها في أفكارنا ، مانعة إياها أن تطال بعداً أبعد من اليوم أو الغد . نقاتل اليوم ونعيش إلى الغد ، ونفكر فيما بعد»( ) .
كلام حسين هذا إشارة إلى أن الحصار الذي فرضته الحرب على أجساد الناس والمقاتلين قد تعدّى الأجساد إلى العقول والأفكار التي قُيّدت حركتها في ملجأ نفسي ، كما قُيّدت حركة الأجساد في ملجأ تحت الأرض . وقوله : (نفكر فيما بعد) علامة لا تفتح الباب على التفاؤل، تفتحه على أبعاد متضاربة ، هي إلى الإحباط أميل . وحراسة النار بانتظار رياح تؤاتيه ، مع دخول العقل إلى الملجأ (الخدر) هي من قبيل تمنية النفس بأماني لا ينفع العزوف عنها شيئاً ، ولا ينفع بشيء .
فهل فكّر حسين بهذه الطريقة مستبقياً ما هو تفاؤلي ؛ لأنه ينتمي إلى سلالة دفعت ضريبة الدم في مواجهة العدو الإسرائيلي ، وفي مراحل متفاوتة ومتعدّدة ؟. أكسبته تجربة سلالته الواقعيّة تفاؤليّة عجيبة في زمن الاحباط ؛ وهذه التفاؤليّة ليست سوى نسغ متحدّر من ثقافة فاتن تدفعه في نفوس شخصياتها .
د_ سيمائيّة المجاز : ولا ينتمي المشهد وحده ، وببعديه الخارجي والنفسي الداخلي إلى نظام ثقافة الأديبة السيمائي ، لغة فاتن ، بناء العبارة في روايتها ، هو الآخر منتم ، وبقوّة إلى ذلك النظام . وقراءة فاتن العالم المرجعي بالمشهد الذي توغل بنا إلى أعماق تمثل خصوصيّة رؤية فاتن وفرادة كتابتها ، فانّ عباراتها ، هي الأخرى تمثيل قويّ لأدبيّتها .
وقولها : «الحرب تحفر الأرض من حولك وتتركك وحيداً على جزيرتك ، محاطاً بالفراغ»( )، إنما يشير إلى أنّ هذه الحرب إنّما تعلي الذات على الجماعة ، وتجعلها محور الوجود . يتجلّى ذلك من خلال المجاز المكاني . فقد صار المكان (جزيرتك) مكاناً خاصاً بالذات المحاصرة بالحرب، لا يسكنها آخرون .
وهذه قراءة للحرب من منظار عقدي؛ لأنّ هذا العزل المكاني متأتِ عن عمق ثقافي وشعور بمجافاة الشعور بالعزلة لما يجب أن يكون عليه الشعور بالانتماء الجمعي إلى المكان. الذات ملك الأمّة ، مُلك الجماعة ، في الأصل العقدي . عطّلت الحرب ملكيّة الأمّة للذات (الفرد)، وسحبتها من حوزة الجماعة ، عزلتها لتواجه مصيرها وحدها من دون الأمّة. إنها قراءة فاتن للحرب التي تشنّها إسرائيل ، نفذت إلى عمق من أعماقها تجلّى فيه تعطيل الرساليّ لصالح الفردي . والحرب ، بالنسبة إلى رؤية فاتن ، أبعد من ذلك . «فهي .. لا تترك فرصة للقرارات الشخصيّة . هي دكتاتور يفرض علينا نمط عيش اختاره لنا»( ) . فالذات التي تتعاظم ، في مناخات الحرب، على حساب الجمعي الرسالي ، ليست ذاتاً حرّة ، قراراتها بيدها . الحرب دكتاتور يفرض عليها نمط عيش اختاره لها . إن إعطاء الحرب هوية الحاكم المتفرّد (الدكتاتور) يقدّم الذات ذاتاً مستلبة لا يُترك لها سوى الرغبة في النجاة من الموت . يعني أنها ذات محاصرة . وهذا الحصار يستهدف الرسالي ، الحسّ الجمعي عند الإنسان ، يعطّل دوره المقاوم. وإذا كانت إنسانيّة الإنسان ، العيش بصحّة نفسيّة كاملة هي وراء رؤية فاتن للإنسان المحاصر بالحرب ، فانها وراء رؤيتها إلى الإنسان المحاصر بعائلة لا تمثل أبسط مقوّمات العائلة الصحيّة أيضا . وماجدة في كنف أبيها الذي تزوج بعد وفاة أمها وأنجب أولادا آخرين ، كان المرض « صديقاً يحميها من التفكير ، من التذكر ، من تلك الحياة الجديدة»( ) . أن يُعطى المرض هويّة الصديق متعدّياً إلى المريض ، مع كل ما يحمله المرض من أمارات الضعف والخور والخطر ، يعني أن المريض واقع تحت قسمة ضيزى ، في ظلّ حياة شقيّة . فالمرض الصديق الحامي علامة تكشف لنا العمق الذي وصلت إليه رؤية الأديبة من الحياة في أسرة والد ماجدة . وقد تبدّى لنا كلّ من التفكير والتذكر ، والحياة الجديدة في ظل والدها على هيئة كائنات مرعبة . وان تحتمي ماجدة بالمرض من هذه الكائنات يعني أنها إنسانة معطلة عن أداء دورها الذي رسمه لها الله في سنها هذه . لقد وجدنا أنفسنا أمام استلاب للشخصية شبيه بالاستلاب الذي مارسته الحرب فمنعت الإنسان من أن يقرّر بنفسه ما يريد ، وأن يفكر بدور له في الحياة . كانت ماجدة تستقبل المرض «بارتياح ـ تستلقي بين ذراعيه ، وتُعفى من كافة المهام ، حتى الكلام»( ) .
وافلتت ماجدة من أسر أسرتها هذه ، تحوّلت إلى حضن جدّتها ، أمها وحدها( ) في الخيام، إذ بدأ الشرّ يتسلّل إليها( ) : «بدأ الناس يموتون ، يسمونهم شهداء ، ويكاد أهلهم لا يجرؤون على البكاء لذلك السبب . ولكن الحزن كان يتفشّى ، وتلتهب العيون من البكاء المكبوت»( ) . إننا أمام قراءة أدبيّة ، لا صحافية ، لما يجري في الخيام . وأهمّ ما في هذه القراءة أنها تجري على لسان ماجدة الطفلة(الانموذج) التي تختصر الطفولة المعذّبة في الجنوب . أدركت ظاهرة جديدة (بدأ الناس يموتون)، قدّمتها من خلال جملة خبرية ، من غير أن تقصد تقديم معرفة بما يجهله المتلقي ، تومئ هذه الجملة الخبرية إلى لازمها ، الذي يمثل إشارة إلى ارتفاع وتيرة الموت عن المعتاد من جهة ، وإلى أن هذا الموت ليس موتاً طبيعياً . وما كان لهذه الجملة الخبرية أن تحرّك من الدلالات ما حرّكته لو لم تكن المدركة طفلة . أن يبدأ الطفل بالتقاط إشارات ما يحدث يعني أنّ المجرم الإسرائيلي قد بلغ شأوا كبيراً في إجرامه ، ولا تقلّ جملة ماجدة الخبرية الثانية (يسمونهم شهداء) إيحائية عن سابقتها. وما عجزت الطفولة عن سبر معانيه وأبعاده ، أمسكت به الأدبيّة ، بوصفه إشارات، لتنتج منه علامة سيمائيّة تمثّل قراءتها العمق المقاوم الذي بدأ ينمو في حياة الخياميين وبشكل طبيعي في مواجهة الإجرام الإسرائيلي . ذلك أن ما لم يكن طبيعياً عند ماجدة كان طبيعياً في ثقافة فاتن . واسناد الفعل (يتفشى) إلى الحزن لا يعطيه هويّة الزيت كاملة يعطيه قدرة الزيت على الانتشار من دون أن يمنعه مانع. صار الحزن ، لهذا ، سلطة تحكم حضورها في الذات بما يجعل هذه الذات على تجاوب مع هذه السلطة ، خصوصاً أن الحزن ، بوصفه شعوراً إنسانياً ، هو حزن وظيفيّ لن يستأذن سلطة تقع خارجه حين يحين موعد انفجاره . ولا يقلّ وصف (البكاء) ب(المكبوت) علاميّة عن إسناد الفعل (يتفشى) إلى (الحزن) ، فالبكاء المكبوت الذي تلتهب به عيون الخياميين ، وبقدر ما يشير إلى رهبة من العدوّ الإسرائيلي الذي يحول إجرامه دون جرأة الجنوبي على إعلان حزنه بسبب إستشهاد أحد الشهداء ـ خوفاً من الانتقام ، فإنه يشير ، من جهة علم النفس الذي استعيرت منه صفة (المكبوت) إلى أنّ ما كُبت من دمع سوف يتحكّم بسلوك من كبت . وإذا كان السلوك مرضيّاً في مرحلة ، قائماً على الخضوع لسلطان المجرم ، فانه سيكون علامة شفاء في مرحلة ثانية . وتسمية من يموتون بالشهداء ، ليست كلمة عابرة في خطاب فاتن الأدبي . هي كلمة مفتاحيّة تعطي سائر الكلمات أبعادها الدلاليّة . فالبعد التفاؤليّ واضح فيما تحمله هذه الكلمة من دلالة في موروثنا الديني والثقافي . الشهادة طريق الانتصار .
ولا يوازي عمق البكاء المكبوت في عيون الجنوبيين سوى كلمتين قالتهما امرأة فلسطينية استشهد ولدها في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي العام 1982 . لم يحتج حسين «أن يقول شيئاً لأمّ أشرف … نظرت إليه بصمت وتوجّهت إلى كرسيّ قريب وجلست … حولها تحلّق أولادها الذين منعتهم من البكاء بقولها : (نحن فلسطينيون) . عبارة واحدة لم تحتج إلى شرحها»( ) . إنها اختصار للتجربة الفلسطينية من ألفها إلى ما وصلت إليه الآن . تومئ إلى المؤامرة الدولية التي ملّكت الإسرائيليين أرض فلسطين ، بقدر ما تومئ إلى الخذلان العربي لأقدس قضية وأكثرها حقوقية في التاريخ . واختصار هذه التجربة بهاتين الكلمتين ليس علامة مكثفة مترعة بالوجع الاسطوري الذي يتحمله الفلسطيني فقط ، ولكنه علامة مكثفة مترعة بالصبر الذي صار إرثاً جمعياً فلسطينياً . وما كان لهاتين الكلمتين أن تعبّرا عمّا عبّرتا عنه لو لم تكونا قراءة فاتن تلك التجربة . فالدموع المحبوسه دموع فاتن ، والبكاء المكبوت بكاؤها ، والاعلان (نحن فلسطينيون) هو إعلانها ، وما تعنيه هذه القضيّة بالنسبة إليها .
ولا تخرج قراءة وظيفة الفن من سياق علامات فاتن السيمائية المنتمية إلى عقيدتها ، وفاق منظور جوليا كريستيفا إلى السيمائية .
ففاطمة أم سعاده وهناء وجدّة ماجدة «غنّت لأولادها الأغاني التي ورثتها من أجيال سبقتها ، من أمهات الجنوب ، ثمّ تعلّمت أغاني المقاومة وغنّتها . أغاني من التراث الفلسطيني ، تسرق الدمعة من العين»( ) إنّ أغاني التراث الفلسطيني التي (تسرق الدمعة من العين)، ما كان لها أن تسرق الدمعة ترفاً ، أو قصد صناعة الفرح . سرقة الدمعة من العين محمّلة بأعباء دلالية تنوء دونها كلّ العبارات الأخرى . إنها تشير إلى الأوجاع الممضّة التي أنتجت ذلك التراث . فالتجربة الفلسطينية بأحزانها الأسطورية، وصبر الفلسطيني الأسطوري على أشدّ الأوجاع إيلاما في التاريخ ما كان لينقل عمقها إلينا سوى ذلك التعبير الشعبي وتسرق الدمعة من العين) . نجاح السرق لا يعني التغلب على الحزن بالفرح . السرق مفعم برمزية الحزن الفلسطيني الذي كان على الدمعة أن تعبّر عنه . وسرقها بالأغنية سرق للمقدّس في تاريخ القضيّة ، سرق للنار المقدسة : أن تلتقط الأغنية الدمعة ، يعني أن تحوّلها شعلة تضيء الدرب .
والأمّ الجنوبية التي تعلمت أغاني المقاومة الفلسطينية أو غنتها ، ما كان لها أن تنساح مع مناخاتها لو لم تكن أغاني التراث الفلسطيني شقيقه للأغاني التي ورثتها فاطمة من أجيال سبقتها ، من أمهات الجنوب . وهل أمهات الجنوب غير أمهات فلسطين ؟
ويبقى أن الأغاني المتوارثة سواء أكانت في فلسطين أم في الجنوب ليست أغاني تطريبية حيادية في ثقافة فاتن . هي حمّالة همّ وطني إنساني ممتدّ عبر تاريخ الوطن . المهمّ أنّ المجاز في هذا الخطاب ، ولأنّه منتم إلى ثقافة ، فانه وحده القادر على سبر عمق من أعماق الواقع المشترك بين الجنوبي والفلسطيني .
وفاتن المتفائله ، ما كان تفاؤلها هذا ليشيح بعينيها عن الفساد داخل المنظمات التي تواجه إسرائيل . فحسين الفتحاوي شقيق سعادة ، والذي ينظر إلى الأمور بعين الأديبة على كل حال، لا يخفى عليه ذلك الفساد . وهو مع ذلك أراد أن «يحرس النار المقدّسه إلى أن تأتي الرياح المؤاتية»( ) . ولا يشاركه صديقه ورفيقه مريد هذا الموقف ، ولكنه يتنقّل « بين الفصائل بحثاً عن بقعة نقيّة»( ) . وإذا أعطت كلمة (بقعة) (النضال) هويّة مكانية في الوقت الذي يجب أن يكون فيه حالاً ، فان صفة (نقيّة) قد جعلت من النضال بقعاً ، شتاناً ، وليس جسداً واحداً . وهي لا تقدّم النضال بهذه الوضعيّة المشتتة فحسب ، ولكنها تمتدّ لتسم معظم بقعه بالفساد .
ذلك أن تعديه المصدر (بحثاً) إلى (بقعة نقيّة) بوساطة حرف الجرّ (عن) هي إشارة إلى ندرة النقاء . ومريد هذا إنما ينظر إلى الواقع بعين فاتن التي لم تفت عين حسين .
وإذا كان الفساد علامة هزائمنا الفارقة ، فلله كيف يعرّش داخل ثقافتنا ؟ كلّما اهتدت الأمّة إلى علامة خلاص كمن لها الفساد عند المنعطف .
وفاتن مع كل هذا ، مأخوذة بالتفاؤل . «بقيت الأيام تتدحرج هبوطاً نحو فعر أسود حتى السابع عشر من شهر أيلول ، إذ أُعلنت ولادة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»( ) . أعطى الفعل (تتدحرج) كلمة (الأيام) التي أُسند إليها هويّة الكتلة الصلبة المتفلتة من كلّ قيد ما خلا قيد الجاذبية الذي يشدّها إلى قعر أسود مفعم بالتشاؤم . ومع ذلك ، فانّ ذلك لم يدخلنا دائرة التشاؤم ، لأنّه وظّف في إنارة ضدِه (النهوض) ، فشكّل قراءة دقيقة وعميقة لما تعنيه (ولادة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية) .
لقد مثلت ولادة هذه الجبهة ، انبلاج نهار وضّاء من قلب ذلك الليل الأسود . إنها بداية جديدة . فهل يكمن لها الفساد عند المنعطف ؟
تبقى الثقة بالقلّة النقيّة مفتاح انتصارنا الموعود . وهناء ممثلةً إنساننا النقيّ النظيف ، دفعت أبنة شقيقتها ماجدة لتبحث عمّا «جعل خالتها تبدو أقوى»( ) وتتساءل «كيف ظهرت لديها هذه الحصون الجديدة»( ) . رشّحت قسوة الإسرائيلي وجرائمه الجنوبيّ للانهيار … وهذا ما شغل بال ماجدة . وحين تبدّت خالتها محصنة من الانهيار أكبرت ذلك فيها ، فكما أنّ الإنسان الفاسد حاضر باستمرار ، فإنّ الإنسان السويّ ، هو الآخر ، قد جعل من إيمانه بالقضية حضوراً وحصوناً تحميه من الخوف والضعف وإمكانية الانزلاق . وكلمة (حصون) قد أمدّت الإيمان بهويّة القلاع التي لا تمثّل المبادرة ، ولكنها تمثل ، على الأقل ، الحماية . والحماية مطلوبة في مرحلة معينة تمهيداً لمرحلة تالية تكون مرحلة المبادرة .
إن (حصون) فاتن قراءة لخوفها على المصير ، مصير الفرد ومصير الجماعة : وهي بقدر ما تعبّر عن الطمأنينة تعبّر عن تجربة أليمة وموجعة في تاريخ المواجهة مع العدوّ .
ويبقى أننا كنا مع رواية بدت أدبيّتها على قدر الهموم التي حُمِّلتها . وإذا كانت هذه الهموم هموماً جمعية عقدية متعالية على الهموم الإنسانية الفردية ، يعني أن أدبيتها قد نجحت بالارتفاع بالهمّ الذاتي الذي حُمِّله الجنوبي ، في لحظة تاريخية بالغة الدقة والحرج ، من كونه همّاً فردياً له خصوصيته ليصبح همّاً إنسانياً يدين الظالم بقطع النظر عن الهويّة التي يتلبسها، وتنطلق حنجرته بوجع المظلوم كائناً من كان .
لقد أمحت في الأدبيّة الفاتنيّة الحدود بين الجميل ، والإنساني ، والأخلاقي . شفت الأدبية عما هو إنساني وأخلاقي بقدر ما شفّ ما هو إنساني وأخلاقي عن الأدبية .
إنّ أدبية فاتن فعل إيمان قوي بالقضايا الكبرى التي ترتفع بمقام الإنسان بعيداً عما وصلت إليه التفكيكية من هزيمة أنزلته إلى الحضيض ، إلى موقع الضياع والتفاهة .