الملتقى الثقافي الجامعي
الفضاء الزّمنيّ في رواية “حدّثيني عن الخيام” لفاتن المرّ.
الدكتور غسان التويني
تقديم : الزّمن نشاط انسانيّ يرتبط بالاحداث التي تجري فيه فهو الدّال على مرور الوقائع اليومية،ويتوزع الاهتمام بالزّمن على الازمنة الثلاثة،ولايقتصر على الزمن الحاضر ،وان كان هذا الاخير يشكل المركز الذي يتقاطع فيه الماضي والمستقبل.(1).
يمسك الزّمن الرّوئي عناصر الرواية،وتظهر علاماته واضحة على شخصيّات الرواية وطبائعها وتصرفاتها،فالاحداث التي يسردها الرّوائي والشّخصيّات الرّوائيّة التي يجسدها،تحرك كلّها في زمن يقاس بالسّاعات والايام والشّهور والسّنين،وهذا يعني أنه زمن تصاعدي،اذ يفترض أن يجري عرض الاحداث وفاق تسلسلها الزّمنيّ المنطقيّ الطبيعيّ.
يقابل هذا الزمن الموضوعيّ،زمن اخر ،هو زمن الرواية،أو زمن السّرد،اذ تنتظم فيه الواقائع في سياق زمنيّ ذاتيّ،يقوم الروائيّ في هذا الزمن بتعديل مساره،فيبطىىء أو يسرع،يمتدّ أو يقصر،وقد يبتعد كثيرا أو قليلا عن المجرى الخطي للسرد،فالمتواليّات الحكائية قد تعود الى الوراء لتسترجع أحداثا تكون قد حصلت في الماضي،وقد يكون هذا الاسترجاع داخليّا أو خارجيا،والاسترجعان لا يكونان في الرواية الا في سياق وظيفيّ، قد تكون الوظيفة التشويقيّة أقلها شأنا.
تقوم استراتيجيّة الاسترجاع على اعادة الانتاج الفنيّ للزّمان.(2)وأن يكون الاسترجاع موقعا على نبض الرؤية التي تشكل علامات دالة تحيلك الى عالم الروائي،وتقديمه للعالم من حوله.
وقد تقفز المتواليّات الحكائيّة الى الامام لتستشرف المستقبل أو ما هو آت،وهذا الاستباق هو ايقاف لسيرورة الاحداث وفاق ترتيبها المرجعيّ،الى أحداث لم تقع بعد.
1-الزمن في الادب:هانز ميرهوف،تر:أسعد رزوّق،ص(27).
2-علي زيتون:النّص من سلطة المجتمع الى سلطة المتلقى،حركة الريف الثقافية 2005،ص(120).
ويبتعد الذهن عن مرجعيته الفعلية في أثناء الكتابة،بقدر تواصله معها،فيجسد الاهداف في الرواية و يرتبها وفاق الطريقة التي يريدها،أو قد تفارقها.(1).
وتحضر اللغة في أثناء الكتابة، بوصفها المنطلق الاساسي في دراسة أيّ عمل ادبيّ،وبقدر ما يحسن الكاتب ادارة أعنة لغته، وتوقيعها في تحسسّ عالمه المرجعيّ
أو عالمه المتخيل،فهذا يكشف عن وعيه بلغته وأدراكه لدورها،وضرورة تحولها بالواقع المعرفيّ الى التشكل الفنيّ،وهي في هذا التحوّل، “ترتهن برؤية الكاتب وموقعه من عالم القصّ، ومن رؤيته للعالم”.(2).
واذا كانت حركة الشكليّين الروس ترى أنّ الادب اعادة تشكيل للواقع، أو تعديل له وأن المبنى الحكائيّ عندها لا ينقص شيئا من المتن الحكائيّ،وأن كلما يراه الروائي أو يفعله هو اعادة تشكيل لما يراه كل الناس من الواقع المرجعيّ،ولكنّ الواقع قد يكون عكس ذلك،لأنّ عاملا أخرى،هو ثقافة الكاتب قد يشكل، في تلمسه العالم من حوله، بصمة لا تراها عين اخرى،لأنّها عين ثقافته التي لا تشبهها أية رؤية أخرى.
فالكاتب بما يملك من تقنيّات سرديّة متنوعة وأساليب كتابيّة تمكنه من تقديم تجربته،يبقى عاجزا عن كشف حركة التاريج ومسارات ضعفها وقوتها،الّا اذا امتلك ثقافة، هي جزء أساسي في تحديد رؤية الكاتب، وتميّزه عن غيره،فالاختلاف الاساسي بين كاتب واخر يكمن في لغته مشفوعة بثقافته.
من هنا يبقى الاسلوب بوصفه فاعليّة لغويّة متصلا بثقافة الكاتب،يشكلان معا رؤية الكاتب التي تمسك بالواقع المرجعيّ وترى ما لاتراه عين كاتب أخر.
هذه المنطلقات تقدم لنا للدخول الى فضاء رواية فاتن المر الموسومة بعنوان”حدّثيني عن الخيام”،التي قدمت بوساطتها الخيام بعد “عملية الليطاني” التي شنها العدو الاسرائيليّ العام 1978،الا أنّ الكاتبة لم تقف عند زمن الخيام في هذه المرحلة،بل تجاوزته الى ازمنة عديدة شهدها الجنوب خصوصا،ولبنان والمنطقة العربية بشكل عام،اذ قدمت زمن الحرب الاهليّة اللبنانيّة العام1975،و زمن الاجتياح الاسرائيليّ لبيروت العام1982،وزمن العدوان الاسرائيليّ في تموز العام 1993،وزمن العدوان في نيسان العام 1996،وصولا الى زمن الانتصار الذي حققته المقاومة الاسلاميّة العام2000.
1-تزفيتان تودوروف،الشعريّة:تر،شكري المبخوت، ورجاء بن سلامة،المغرب،دار توبقال للنشر،ط2،1990،ص(48).
2-ياسين فاعور، القصة القصيرة في فلسطين والاردن:ص(241).
هذه الازمنة التي استحضرتها الروائية فاتن المر في روايتها معبّأة بالهزيمة واليأس في لحظات سوداويّة كانت تجتاح ساحتنا العربية،وتقدمها ساحة مأزومة بالعدوان الاسرائيلي المستمر عليها،خصوصا،في الساحة اللبنانية،الا أن الروائية تركت لنا كوة الامل مفتوحة من خلال ما قدمته من اصرار على مقاومة المحتل،وصولا الى هزيمته العام 2000.
أرخت الرواية لاحداث مكثفة ومضغوطة، تمثل حركة صراعنا مع العدو الاسرائيليّ،كما أرخت لحركة المقاومة في لحظات ضعفها وقوتها،ولم تنس الروائية في هذه الاثناء تلك العائلة الجنوبيّة المقاومة التي عاشت تلك الاحداث بحلوها ومرها بأفراحها والامها.
جرت أحداث رواية “حدّثيني عن الخيام”،في مكان وزمان محددين،المكان الجنوب والزمن العام1978،ولا يتوقف الزمن عند الروائية عند اعتاب العام 1978،بل تعود به الى الوراء،الى زمن الحرب الاهلية،ثمّ تكشف عن مراحل زمنية عديدة كنا قد ذكرناها سابقا،يتسم الزمن عندها بالتحوّل،وهذا التحوّل لا يعبّر عن صبر الجنوبيين في مواجهة صلف العدو الاسرائيلي،بقدر مايشير الى الانعطافات التي احدثتها المقاومة في صراعنا مع العدو،ففي اثناء سير الاحداث في الرواية نلحظ النقلات النوعية التي كانت تقدمها المقاومة في المشهد اللبنانيّ.
ينسحب هذا التحوّل الزمنيّ على كامل احداث الرواية،اذ يتحرك الزمن في الرواية ليقدم أحداثا وقعت بعد المجزرة،تتصل بزمن الحلم الذي كانت تتوق اليه ماجدة،وزمن الحرب الذي يسعى العدو اليه في سبيل تهديم أي حلم تعيشه الذاكرة العربية،وقتل أي امل بقي فيها.
وبعد الاجتياح الثاني،نلج الى زمن المواجهة مع العدو،اذ يتنامى العمل المقاوم ويصبح عملا منتجا وموظفا ومقلقا للعدو.
يحاصر زمن المقاومة تحركات العدو،ويربك العملاء،بعد العودة الى الخيام،ثم يتحوّل الحصار الى زمن الاطباق عليهم جميعا في لحظة الانتصار
ودحر العدو.
لكي نتعرف على فنيّة الزمان في رواية”حدّثيني عن الخيام”يجب مراقبة
مسارات الزّمن في هذه الحقب الزمنية التي رسمت مسارين زمنين اساسين:
مسارزمن العدو الاسرائيليّ،ومسار الزّمن العربيّ المقاوم.
1- مسار زمن العدوّ الاسرائيليّ:
يتصف الزّمن الاسرائيليّ في رواية “حدثيني عن الخيام”،بفعلين أساسين هما: الخوف والافساد.
– زمن العدوّ المعبّأ بالخوف: يلازم الخوف العدوّ الاسرائيليّ ارض الجنوب، أينما توجه في رواية فاتن المرّ،خصوصا،في بلدة الخيام.
يظهر خوف العدو وقلقه في الرواية حين اقدم الى قتل الدكتور شكرالله كرم،الذي كان يقدم الرعاية الصحيّة لاهل الخيام والجنوبيين،”قالوا أنّ حياته لم تكن تحمل ألّ عنوان العطاء الخالص،إنه طبيب الفقراء ….ألهذا أراد الاسرائيليون أن يقتلوه؟كان موته بداية عهد الشّروروالخوف والاحزان”.(ص30).
يحمل الاستفهام على لسان ماجدة علامات الدهشة والاستغراب من تصرف العدو الاسرائيليّ مع طبيب لا يحمل سلاحا ،ولا يقاتل في جبهة، الا أن تلك العلامات تصبح عادية عندما تعرف أن العدو مسكون بالخوف والقلق،حتى من دموع الامهات اللواتي يبكين اولادهن “بدأ الناس يموتون،يسمونهم شهداء ويكاد أهلهم لا يجرؤون على البكاء لذلك السبب.ولكنّ الحزن كان يتفشّى، وتلتهب العيون من البكاء المكبوت”.(ص31).
لا يكشف المشهد الذي عرضته الروائية عن قدرة تحمل الجنوبي في زمن الاحتلال،بقدر ما يضعنا امام محتل أصيب بالهلع والخوف من أيّ تصرف يقوم به الاهالي.
يحضر الخوف في تصرف العدومع كل ما يملك من امكانيات عسكرية،لم تجنبه الخوف من اولئك الناس العزل الذين لا يملكون الا صوتهم.
تعامل العدو مع هذا الخوف تعاملا منظما يطال كل تفاصيل المجتمع الجنوبي الذي يحضن المقاومة، ويحرص على حمايتها،ويجهد في انجاح مشروعها.
يطال خوف الاسرائيليّ وقلقه مدارس الاطفال في صيدا،”كانت مديرة المدرسة التي ترتادها ماجدة تطمئن التلامذة الخائفين حين يبدأ القصف،قائلة: “اطمئنوا لا يقصفون المدارس”…ماذا تقول الان ؟قتل حوالي المئة شخص في تلك المدرسة في صيدا…”.(ص84).
لم تجنّب عبارة”لا يقصفون المدارس”،قتل الطلاب ولم تبعدهم عن الارهاب الاسرائيليّ..انّ لغة القتل التي ينهجها العدو الاسرائيليّ،لاتكشف عن انتهاك شرعة حقوق الانسان في الحروب،وتعطش الايديولوجيّة الاسرائيليّة الى الدم والقتل والارهاب،بل تقدمه عدوا خائفا من داخله،يلجأ الى زرع الخوف في في الناس ليصل الى خلق حال من التوازن بين القوة العسكرية التي يمتلكها، والخوف الداخلي الذي يتملكه في مواجهة اصحاب الارض له.
يحاول زمن العدو المعبّأ بالخوف والقلق،جراء ما ينتظره من مواجهات على ارض احتلها وعبث بمقدراتها،ان يبقي الانسان الجنوبي محاصرا بالهلع والخوف،مسكونا بزمن موبوء،يرسمه على قياس نظامه القمعي.
– الزّمن الاسرائيليّ المفسِد:
فرض زمن العدو الاسرائيليّ المقترن بالخوف والقلق،أن يفسد زمن الجنوبي في تفاصيل حياته اليومية،وفي تراثه الفكريّ،وفي خيراته الطبيعيّة.و يبدو هذا واضحا في الرواية عندما انتقلت ماجدة مع هناء الى شتورا،وما حصل معهما على الحاجز الاسرائيليّ،اذ كانت تتحدث هناء قائلة :” لا مكان للخوف الان .فقط ترقب.نمرّ أو لا نمرّ.نعيش أونموت.في قلب الحدث،الجنود الاسرائيليون يمشون في صفين متوازيين شاهرين أسلحتهم .وجوه مرهقة وعيون متحفزة.الانفاس مقننة…حتى نصل الى شتورا.”(ص92).
يحضر الحاجز/المكان بوصفه أداة أسرائيليّة تعكر الزمن الجنوبي وتفسده،بما تحمله من أساليب قمع تهدف الى اضعاف الناس،وقتل ارادتهم على المواجهة.
تحمل الثنائيات التي استخدمتها الروائية في جمل قصيرة،تنتهي بنقطة،قطعاً للانفاس،وخوفاً من لحظة اجتياز الحاجز،(نمر/لا نمر،نعيش/نموت)، عن لحظة الضغط النفسي التي يتقصدها العدو من اجل افساد زمن الجنوبي،ووضعه في أفق مسدود لايمتلك رسم ملامحه،ولا يستطيع استبداله بزمن اخر.
وحين تتحوّل ساعات الانتظار الى جمر،تصاب معها الوجوه بالتعب،والعيون بالتحفزوالانفاس بالانقطاع،للوصول الى لحظة الانطلاق.هكذا يتحول زمن هناء وماجدة من زمن موظف في بلوغ غاية تجنبهما شرور الاجتياح في بيروت،بالوصول الى شتورا،الى زمن مرمّد وفاسد.
في لحظة تنامي المقاومة وتسديدها ضربات موجعة للعدو الاسرائيليّ وعملائه،كانت تزداد شراسة العدو وعبثية اعماله ،اذ يفقد توازنه عندما ينجح رجال المقاومة في تحرير أحد المعتقلين.
تأتي دورية عسكرية من جنود الاحتلال الى منزل هناء لتفتيشه،تقدم الروائية المشهد بوصفه مشهدا معبّأً بالخوف والقلق لدى الاسرائيليّ “أفرغوا الخزائن ورفعوا الفرش عن الاسرة،سألوها ان كانت تأوي أحد المخربين،هددّوها بالاعتقال.كانت تضم ماجدة الى صدرها وتجيب بالنفي عن جميع أسئلتهم”.(ص188).
استدعى الزمن الاسرائيلي المعبّأ بالخوف من رجال المقاومة،أنّ
يتصرف العدو بسوء خلقيّ في أثناء البحث عن رجال المقاومة،ولا تشير الافعال “أفرغوا/سالوا/رفعو/هددّوا”، الى ردة فعل المحتل المضطربة والقلقة،بل تؤدي وظيفة يحاول العدو بلوغها،وهي افساد زمن الجنوبي الذي يتطلع الى تحرير أرضه،ووضعه في حال ارتباك وقلق دائمين.
واذا تأملنا ما جاء على لسان هناء”تجيب بالنفي عن جميع أسئلتهم”،نجد اخفاقا ذريعا لسياسة العدو في ترويع الناس،ومحاولة محو ارادة المقاومة من ذاكرتهم.
هذه العلامات الاسلوبيّة الدّالة التي لجأت اليها الروائية،لاتشير الى لغة التوحش التي يعتمدها الاسرائيليّ،انما هي تجلّ من تجليات الضعف الشديد الذي يعيشه في أثناء احتلاله.فالفاعل(المحتل)في العمق هو الضعيف لا القوي،وما يتراءى ضعفا عند المفعول به(الجنوبي)،هو أعلى درجات القوة التي ستوصل الى افساد زمن العدو،ودحره من الجنوب.
تلفت الروائية انتباهنا الى سرقة الاثار التي يقوم بها العدو بشكل منظم في أثناء احتلاله للجنوب. تناولت هناء في احدى مقالتها ما حدث في ميس الجبل “قد أقامت حولها قوات الاحتلال حصارا لمنع المواطنين من الاقتراب،وللسماح للمنقبين الذين استقدمتهم بالقيام بالمهمة التي أسندت اليهم،الا وهي نقل القطع الاثريّة الى فلسطين المحتلة”.(ص189).
تحيلك عبارة “قد أقامت حولها قوات الاحتلال حصارا”، الى العمل المنظم والممنهج والموظف التي تقوم به قوات الاحتلال،بهدف تفريغ الذاكرة العربية وتحويلها الى ذاكرة صحراويّة،وصولا الى ترميدها والقضاء عليها.
تمتدّ يد العدو الى سرقة المياه والتربة،وهذا ما أشارت اليه هناء في المقالة الثانية التي كتبتها،(ص190)،في لحظة الضغط على حياة المواطن اليومية،وتحويل تفكيرهم الى أمور هامشية،كان العدو يسرق ثروات الموطن اللبناني التي تشكل عنصر حياة أو موت بالنسبة اليه.
واذا كانت القوة الزائدة،قد دفعته الى هذا العمل،فان ما قامت به هناء ورجال المقاومة في مواجهة هذا المشروع، يعدّ وعيا ورشدا في كشف مشروع العدو وخططه المدمرة للانسان من جهة،والمروث الفكريّ الحضاري من جهة أخرى.
استطاع وديع وهناء وغيرهم من المقاومين ان يخترقوا الزمن الاسرائيليّ،ويقدموا صورا الى الاعلام تفضح اعمال العدووتكشف اهدافه الحقيقية.
حاول العدو الاسرائيليّ جاهدا ان يسلب من زمن المقاومة الامل والفرح،لكي لا يتحوّل الى عامل قوة، وثبات في مواجهة زمن العدوالمعبّأ بالخوف والقلق.
كان هدف الاسرائيليّ دائما،هو ان يجعل زمن الجنوبي المقاوم زمنا مربكا ومضطربا،وقد تجلّى هذا في استخدام البطاقة الحمراء،التي تعدّ وسيلة تعذيب اضافية،وعنوانا للتطبيع والغاء للهوية اللبنانية،ص(203)،هذا ما عدا ممارسات العملاء الدنيئة مع الناس يوميا.
لم يترك العدو لحظة من اجل تنميط الزمن المقاوم وحصره في دائرة التفكير باستمرار بالاسوأ،كلّ ذلك ليحفر في ذاكرة الجنوبي أن لا خلاص له من الخوف والعذاب الا بالرحيل،ويكون بذلك قد حقّق مشروع العدو الهادف الى تفريغ الارض من اهلها من جهة،واعادة التوازن الى داخله المسكون بالخوف دائما.
2- مسار الزّمن الجنوبيّ المقاوم:
ما قدمناه عن المسار الاسرائيليّ المعبّأ بالخوف والقلق،والسّعي الى افساد زمن الجنوبي وتحويله الى زمن مترمد،يستدعي سؤالا،هل اكتفى الجنوبي بتلقي الزمن الاسرائيليّ من دون أيّة مقاومة؟وهل كان الزمن الاسرائيليّ هو الزّمن الفاعل فحسب أم هناك زمن أخر يتقاسم معه السّاحة الجنوبيّة؟
– زمن المقاومة المفْسَد:
اولى سمات زمن الجنوبيين في رواية “حدّثيني عن الخيام”،تعامل الاسرائيلي معه لجعله زمنا غير مجد،ولقتل أيّة بارقة أمل يمكن ان تكون مؤشرا يوظف ضدّه.
ولكي يصل الى غايته استخدم العملاء اداة لافساد هذا الزمن، وتحويله الى زمن معطل،يخضع لشروط الاحتلال ورغباته.
تشعر ماجدة بالغضب لمجرد انها تفكر أنّ العدو قد سمّى عمليته الارهابية باسم الليطاني “عملية الليطاني”،اذ افسدوا ذاكرة الحلم عندها التي تربطها بهذا النّهر الجميل،ها هي يد العدو قد صبغت “مياهه بلون الدماء التي سالت من الضحايا “.(ص33).
يحاول العدو ان يسلب من ماجدة فرح الذاكرة،ويشوشها،ويجعلها ذاكرة مضطربة،حتى النّهر الذي كان يشكل عند الجنوبي مصدر اطمئنان وفرح،اراد ان يعبث به ليزيد من مأساة الجنوبي.
يأتي عملاء الادارة المدنيّة،لكي يتأكدوا من رخصة البناء،وتسديد الاموال المتوجبة ، التي قامت بها هناء قبل الشروع في بناءالمنزل في الخيام،فتختبئ ماجدة خلف خالتها هناء،نظرت الخالة اليها “فاذا بوجهها قد علته صفرة تحاكي صفرة الموت،أخذتها بين ذراعيها لتطمئنها،ولكن ماجدة فاجأتها بسؤال وجدت نفسها عاجزة عن الاجابة عنه:ما الذي يمنعهم من ارتكاب مجزرة جديدة؟”.(ص131).ينغصّ العدو على الجنوبي زمن البناء والامل بحياة جديدة،اذ نجده يتربص بكل بارقة فرح وسعادة،يجدها في تفاصيل حياة الجنوبي،ما ارتسم على وجه ماجدة يوميء بخوف دائم واضطراب مستمر،من عدو لا يتردد لحظة في ارتكاب مجزرة،وهذا ما دلّ عليه سؤال ماجدة لخالتها.
يوظّف العدو العملاء في تشويش حياة الجنوبي،وارباك حال الاطمئنان عندهم،هذا ابو احمد أحد العملاء قد ” ارتدى بزة عسكرية اسرائيليّة وراح يتمخطر جيئة وذهبا أمام سكان المبنى المذهولين “.(ص91).
تشكل البزة العسكرية تصرف، او سلوك سيء يأخذك الى التحلّل الاخلاقيّ الذي يمارسه العملاء مع المواطنين اللبنانيين،لينالوا رضى الحتل.
يحاول العدو ان يستبدل زمن الجنوبي الذي يتوق الى الطمأنينة والفرح،بزمن اخر هوزمن الرعب والخوف،حتى لا يتمكن من التقاط أنفاسه،وتنظيم صفوفه،لمقاومة زمن المحتل .
يأتي مشهد الولادة مع زينب زوجة ايمن،علامة صارخة على الانحطاط الاخلاقيّ والانسانيّ،لما كانت تقوم به الادارة المدنية من تصرفات،لا تشير الا الى محاصرة الناس وقتل الحياة فيهم،تسرد الروائية المشهد،”ركض أيمن نحو منزله،ولحقت به هناء وماجدة،بينما ذهب الخال سعيد وعبدالله الى الثكنة للحصول على تصريح من الادارة المدنية لنقل زينب الى المستشفى.عادا بعد ساعة ليعلنا رفض موسى زريق المسؤول في الثكنة اعطاءهما التصريح.”(146).
لم يكن القرار لذي اتخذه العميل موسى زريق قرارا اعتباطيا،بل قرارا مدروسا على قياس الاهداف الاسرائيليّة،الرامية الى قتل الحياة في داخل الجنوبي،وترميد زمن الولادة،الذي يعدّ اشارة امل واستمرار.
لا تعني العودة بعد ساعة “عادا بعد ساعة “،عذابا نفسيّا وانتظارا من غير جدوى،بل هوانتظار موظّف،يهدف الى محاصرة الجنوبي والتضيق عليه،ليترك أرضه ويهجر بيته،وينهزم امام الزمن الاسرائيليّ.
هذه التصرفات التي يقوم بها العدو مع عملائه،لا تشير الى زمن الخوف الذي يعشه العدو من زمن المقاومة،بقدر ما يشير الى الايديولوجيّة الاسرائيلية القائمة على الارهاب والقتل،التي يستند اليها في حروبه ضد شعوب المنطقة.
-الزّمن المقاوم :
اذا كان الاسرائيليّ قد بذل كامل جهده مع أدواته الداخليّة لافساد زمن الجنوبي، وتحويله الى رماد،يقف معه الجنوبي متفرجا على أعماله الوحشيّة،ومستسلما لارادته يفعل مايشاء،فأنّ سؤالا يطرح نفسه ،وهو هل هذا الزمن تمكّنّ من تحقيق أهدافه وفرض سلطته،أم هناك زمن أخر يحاول أن يمثل علامة مقاومة ومناهضة لزمن الاحتلال؟
لعلّ أهمّ علامة من علامات الزمن الجنوبي،يقع بمحاذاة القتل والارهاب الاسرائيليّ،هو زمن الصّبر الذي رافق الجنوبيّ في أثناء مواجهته للعدو،تقول الروائيّة في مشهد بيروت، وهي محاصرة “الناس يموتون بالمئات كلّ يوم،والمقاومة عاجزة أمام غارات الطائرات الحربيّة الاسرائيليّة(78).
تحاول الروائية ان تكشف عن عمق المأساة التي يعيشها الناس في ظل التهديم التي تمارسه الالة العسكريّة الاسرائيليّة،وغياب اي حسّ عربي في مناصرة عاصمة عربية تتعرض لابشع انواع الارهاب والابادة،امام هذا الواقع المرير لم يكن من خيار امام الناس في هذه المدينة سوى الصّبر.
وتبدو علامات الصّبر واضحة في حديث هناء الى ماجدة،بعد أن بسط العدو سلطته على منطقة الجنوب ” مهما يكن، يجب أن لا ينجحوا في ارغامنا على العيش في ظل الخوف،علينا أن نجد في داخلنا ما يساعدنا على مقاومة الخوف،ابحثي عن مواطن القوة في نفسك .”(13).
ترددت كلمة (الخوف) مرتين في كلام هناء،وهذا لا يعني الا حقيقة واحدة،هي ايجاد عامل مقاوم يقف بوجه زمن الخوف الاسرائيليّ المتمثل بالصّبر،فمقاومة الخوف يستلزم تماسك داخلي من جهة،وارادة في المواجة من جهة أخرى.
لقد بدأ الجنوبي يعي منهجيّة العدو ومشروعه،فأخذ يعمل على تأكل زمانه،وتحويله من زمن يفسد الى زمن مفسًد.
وهذا الصّبر يثمر عملا مقاوما يقلق العدو،بوساطة العملية التي قام بها شاب في الرابعة من عمره،اسمه”نزيه القبرصلي”،في ساحة صيدا أمام الجامع العمري،اذ أخذ “يطلق النار على دورية اسرائيليّة،فيقتل ضابطا ويجرح ثلاثةعشرجنديا قبل أن يستشهد.”(154).
تشير هذه العملية الاستشهادية الى صبر المقاومة في عملها،وملاحقة زمن العدو ومحاصرته،وهذا يعني تحوّل زمنيّ في حركة الاحداث التي يحرص العدو الامساك بها، وتحريكها وفاق مشروعه،اذ بات زمن المقاومة زمنا حاضرا وفاعلا بوجه الزمن الاسرائيليّ،بدأ زمن العدو يتلقى الضربات،التي ستؤسس لزمن أخر،يقوم على مواجهة ايديولوجيّة القتل والارهاب التي يوظفها العدو في سبيل افساد الزمن المقاوم الجنوبي،بايديولوجيّة المقاومة،وهي التغلب على الخوف،واستراتيجية الصّبر،ليصار الى تحويل هذا الزمن زمنا متعاليا على زمن العدو.
تترك عملية المقاومة مناخا تعبويّا في صفوف الشبان والناس،ما أدّى الى تصاعد الاعمال المقاومة بوجه العدو،ووضعه امام خيارات لم يكن يفكر فيها من قبل،فها هو حسين أحد رجالات المقاومة في الرواية،يلتقط اللحظة المناسبة التي تعيد ترتيب الخيارات المناسبة التي يكره العدو الوصول اليها،وهي مواجهته،” لم يعد الوقت وقت نظريات وودراسة الخيارات.نقاتل اليوم ونعيش الى الغد،ونفكر فيما بعد.”ص(89).
ان لحظة قتال العدو عند حسين لحظة حاسمة،لا تحتاج الى تنظيرات ودراسات كثيرة،لانه يعي أن فوضى زمن الاحتلال تستلزم قرارا بالقتال،يضع حدا لما يشيعه من خوف وارهاب في حياة الجنوبي اليومية.
بات القتال عند الروائية يساوي الحياة،”نقاتل/نعيش “، وهذه اشارة واضحة الى غياب هذه المعادلة عند الانظمة العربية التي تدّعي ادارة الصراع مع العدو الاسرائيليّ في هذه المرحلة.
وتتسع دائرة الزمن الجنوبي المقاوم،لتشمل حركة طلابية معادية للاحتلال،اذ قرر الطلاب ان يضربوا لمدة ثلاثة ايام احتجاجا على الاعتقالات ” كيف لهم أن يطاردوا فكرة؟،”اسرائيل عدوتنا”، كتبها احدهم بالرذاذ الاحمر على الحائط.”ص(167،168).
تعدّ عبارة “اسرائيل عدوتنا “،علامة شديدة الدلالة على اخفاقه في محو الذاكرة العربية واخضاعهالعقارب الزمن الاسرائيليّ،خصوصا،أنّ الذين خطوا العبارة من الجيل الصّاعد الذي يعمل العدوّ على تخويفه وزرع الارهاب في ذاكرته.
لقد فشل العدو في ضخ خوفه الداخلي الى زمن الجنوبي،ووضعه في دائرة الهزيمة.
ويزداد الزمن المقاوم تعاليا على الزمن الاسرائيليّ ويحاصره،حين تستطيع المقاومة اجبار العدو على ترك الارض لاصحابها،تقول الروائية في أثناء سماع هناء لنشرة الاخبار الصباحية، تكاد لا تصدق ما ما أذيع في الراديو “المذيعة تعلن ما سمعوا عنه من دون أن يجرأوا أن يصدقوه،انسحاب قةات الاحتلال من بعض قرى الجنوب ومدنه،وزحف الاهالي صوب الارض المحرّرة.”(371).
يكشف هذا الانسحاب الهزيمة عن ضعف العدو،وهو في ذروة قوته العسكريّة، ويقدمه عاجزا ،مع كل ما فعله من قتل وتدمير وارهاب،قد استطاع الانسان المقاوم أن يجعل الزمن ليس زمنا لمصلحة العدو،اذ خرج بفعل صبره وايمانه بحقه، من دائرة الانتظار الى دائرة الانتصار.
تضيء الروائية في أثناء هزيمة العدو،على هروب العملاء من قرى الجنوب،باتجاه فلسطين،يقول أحدهم في لحظة اقترابه من البوبات الاسرائيليّة: ” الاسرائيليّون اغلقوا الحدود ومنعوا العملاء من اللحاق بهم،وقال اخر:حاولوا الهجوم على البوابة فأطلق احد الجنود النار وأصاب طفلة صغيرة،وقال ثالث:وهل توقّعوا أن يعاملوا من قبل الاسرائيليّ بغير هذه الطريقة؟.”(277).
يتخلّى العدو عن (فاعل) مفسد لزمن الجنوبي،وهذا يدل على أن العملاء ادوات افساد عنده الى حين انتهاء المهمة،ثمّ يرميهم.
تشير الافعال الواردة في نصّ الروائية ،”أغلقوا/ منعوا/ أطلق النار”، الى مصير هؤلاء ونتائج أعمالهم في أثناء خدمتهم للعدو.لقد أفسد العدو زمنهم،لأنه لايثق بهم،ويصنفهم في مرتبة الخونة والمرتزقة.
كانت الروائية منذ اللحظة الاولى لحركة أحداث الرواية،تعرف أن الاحتلال الى زوال،لأنها تؤمن بالكلام الذي جاء على لسان بطلتها هناء:” عندما يهزم المرء الخوف،تبدأ الهالة التي تحيط بالعدو
بالتحلل،تسقط دائرة تلو أخرى،حتى لا تبقى في النهاية الا نقطة صغيرة”(132).
لم تؤمن الروائية بهزيمة العدو ،الا لأنها تنتمي الى ثقافة،تجترح الحياة من الموت،والانبعاث من الهزيمة.
كلمة أخيرة :
تقدم الروائية الزمن المقاوم زمنا متصاعدا، ينمو بتدرج، مع شخصيات روايتها،وحركة أحداثها،في مواجهة زمن الاحتلال الاسرائيليّ،كاشفة أن حركة الشخصيات في الرواية لم تقع في زمن الانتظار والعجز، اللذين رغب العدو أن تقع فيهما المقاومة من جهة،وشعوب المنطقة من جهة أخرى.
قدمت الروائيّة زمن الرواية زمنا تتحكم فيه ارادة المقاومة،اذ نجحت في اختراق الزمن الاسرائيّليّ،ووضعه أمام خيارات مرّة لم يكن يتوقعها.
يتسم زمن الرواية (حدثيني عن الخيام)،بالزمن العربي المتفائل في صراعنا مع العدو الاسرائيليّ،مع كل ما تخلله من خوف وصبر وانتظار،وهذا لا يشير الى التحولات التي أحدثتها المقاومة في مواجهة الاحتلال الاسرائيليّ،بقدر ما يتصل بالفضاء الثقافي الذي تؤمن به الروائية.
ان المرحلة التي ساقت فيها الروائية الاحداث من العام 1975الى2000،تمثل تحولات جذريّة،في الصراع العربي الاسرائيليّ،استطاعت هذه التحولات أن تقلب معادلات الزمن مع العدوّ الاسرائيليّ،وتحله من زمن متعال مستكبر الى زمن متعال عليه،لذلك كانت رؤية الروائيّة مبشرة بزمن عربي جديد يمكن أن يضع حدا للارهاب الاسرائسليّ. مكنّت هذه التحولات التي أحدثتها المقاومة في صراعها مع العدوّ الذاكرة العربيّة من الانتقال من دائرة الهزيمة الى دائرة الانتصار في مواجهتها العدو الاسرائيليّ.
د. غسان التويني
23/10/2015
