الدكتور طارق عبود
حدثيني عن الخيام،الكتابة فعل مقاومة
… من الصفحات الأولى لقراءة الرواية انتابني شعور بأنني انتمي الى هذه الرواية، أو أن الكاتبة عملت على خطفي، وأسري بين صفحاتها، وربما أستطيع القول إننا امام عمل يستحق القراءة والنقد والإعجاب.
مع ملاحظة، أنني قرأت الرواية وكتبتُ عنها في صحيفة السفير منذ شهور عديدة، ولم أعد لقراءتها، وأنا كتبتُ هذه الورقة، وكأن الرواية بتفاصيلها حاضرةٌ أمامي الآن، لأنها فعلًا قد حُفرت في ذاكرتي.
بالعودة إلى السياق النقدي للرواية، فلطالما شغل النص الملتزم مساحة نقاش في الميدان الثقافي اللبناني والعربي، وسال حبرٌ كثير في الحديث عن هذا الموضوع، في الندوات والمقالات وغيرها،من أجل الإطلالة عليه ومقاربتِه، ولعل بعض النقاش قارب انطلاقةَ أدبِ المقاومة وتاريخَ نشأته والظروفَ التي ساعدت على تشكّله ، ولكن الذي يعنينا في هذا المقام، ألا يُهملَ هذا الأدب، وألا نزهدَ في الإضاءة على ظاهرة مشعّة وسط هذه العتمة الممتدة من المحيط الى الخليج، ولا سيّما الكلام على فترة الاحتلال الإسرائيلي. عن تلك الأيام التي امتزج فيها القهرُ والألمُ والجراحاتُ والموتُ والتهجيرُ والدمارُ؛ بالفرح، ذلك الفرح المنبعث مع كل عبوة تنفجر بدورية للمحتل، فيحمل صوتُها البسمةَ والبهجةَ التي كانت ترتسم لوحةً على الوجوه المقهورة، وعزةً تتشكّل يومًا بعد يومٍ في العيون الحالمة والمنتظرة بشوقٍ مواسمَ الحريةِ والفخرِ والانتصارِ.
لذا كان واجبًا على كل من يحمل قلمًا أن يسهم في حفظ تاريخ وأيام المجد التي عاشها الوطن والأمة. وهذا ما فعلته الدكتورة فاتن المر. ولعلّ هذا العمل الذي بين أيدينا يشغل مساحة مميزة في هذا الأدب الذي يعمل على تشكيل الذاكرة والوعي، وتذكير الأجيال التي لم تحظ بمعايشة تلك الفترة، بشبابٍ أسُودٍ آمنوا بربّهم وبوطنهم وبقدراتهم، وفتياتٍ شامخاتٍ، وأمهاتٍ مضحيات، ورجالٍ شوامخ َكالجبال، شكّلوا هذه المشهديةً الرائعة. ترافق ذلك مع كل الظلم الذي لحق بالمقاومة، بأطيافها كافة، على المستوى الإعلامي، والثقافي والسياسي.
السؤال المطروح دائمًا، على المثقفين والكتّاب والمدعين، قبل غيرهم:لماذا يسيل الحبر أنهارًا، في أيام الهزيمة، والنكسات والنكبات؟ وتبدأ حفلات جلدِ الذات والعويلِ والنحيب؟ وفي أيام الانتصارات، وهي نادرة في تاريخنا المعاصر، تعود الأقلام إلى أغمادها؟
هل لأننا تعودنا على الانكسارات والخيبات؟ أم أننا ما زلنا غيرَ مؤهلين لانتصارات بهذا الحجم؟ انتصاراتٌ راقيةٌ، نظيفةٌ، تشعُّإنسانيةً ورحمة وعفوًا. منذ هروب الاسرائيلي من بيروت بعد شهور فقط على احتلالها، مرورًا بالانسحاب الكبير من صيدا وصورومنطقتهما والبقاع الغربي وراشيا.
وصولًا الى الانتصار الكبير في 25 أيار من العام 2000 الذي تأسست فكرة الرواية على هذا الحدث التاريخي المهيب.
انا برأيي المتواضع، أننا كشعوب عربية وكنخبٍ ومثقفين وعاملين بالشأن الثقافي والسياسي، لم نستطع بعد أن نهضم حدثًا بحجم الأيدي التي امتدت من زنازين معتقل الخيام، لملاقاة الرجال الذين حرروا، ليس المعتقل فقط، بل حرروا العقل العربي والوطن والأمة من مفاهيم الهزيمة والضعف والاستسلام.
ما قدمته رواية ” حدثيني عن الخيام” يأتي في سياق حفظ هذه الإنجازات من غبار الزمن، ومن الحبر الملوّث الذي قد يستوطناوراق الزيف والخداع والتهوين، فيصبح عباس الموسوي وهادي نصرالله ونزيه القبرصلي وسناء محيدلي ولولا وعلي عبود، وخالد علوان وآلاف الشهداء، قطّاعَ طرقٍ ومقامرين.
لذا، فإنّ هذا العمل لا يقل قيمةً ولا أهميةً ولا شجاعة عن عمل مقاومِسهر الليالي الباردة، ليزرعَ عبوة تحيل المحتل أشلاءً. لأننا اذا لم نؤرخ لهذا التاريخ المجيد، نضع رقابَنا ومستقبلَ أوطاننا وأبنائنا تحت مقصلة من يريد أن تحيا الأمةُ من دون تاريخ، لتبقى الحجةُ والشعارُ أنّ العين لا تستطيع أن تقاوم مخرز الصهاينة ومجتمع الدول الظالمة، وغيره.
لذلك شكّلت هذه الرواية، وغيرها، لفتةَ وفاءٍ لشعب المقاومة، وشهدائها وجرحاها وأسراها وأمهاتِ الشهداء والمناضلين والمجاهدين، لأنّ الشعب الذي لا يحفظ تاريخه وتضحياتِه، لا يجد في المستقبل من يذكره، ولأنّ مستقبل الشعوب يتكئ على ماضيها المنير، للانطلاق الى زمنٍ واعد، تتحقق فيه آمالُ الناس وتطلعاتُها، وينالُ الشعبُ حريتَه وكرامتَه وسيادتَه الحقيقية.
بالعودة إالى السياق الفني للرواية، فإنّ الكاتبة خرجت من رتابة الموضوعات المحدثة التي يتهافت كثيرُ من كتّاب هذا الزمن عليها، كالشذوذ الجنسي، وتعنيف المرأة وغيرها،وكأنّ تاريخنا وحاضرنا وبطولات شعبنا تفتقر إلى موضوعات تصلح لألف حكاية وحكاية،فلم ترضَ الكاتبة الانحدار إلى حداثة مائعة ورخوة، ولكنها ارتقت إلى ما خطّه أهلنُا من عذابات وآلامٍ وتضحيات.
ونجد أن الكاتبة اختارت أشدّ الأيام التي مرت على الوطن المقطعةِأوصالُه، فالحرب الأهلية في أوجها، والناس تقيم في الملاجئ أكثر من إقامتها في منازلها. والاحتلال يجثم على صدر جزء عزيز من هذه الأرض.
ولكن فاتن المر، لوّنت هذا الزمن بذكريات لامست قلوبنَا، ونبشت من تجاويف العقل ذكرياتٍ متواضعةً في الشكل، لكنها حميمة في الوجدان والقلب، وملتصقة بعقولنا وعواطفنا. فاستحضرت عناقيد البيسون التي كنا نجهدُ في ترتيبها، ووضعِها في رقابنا، وفي أعناق من نحب، لتذبل بعد دقائق، وهي الزهرة نفسُها التي كنا نسألها عن حبيباتنا الصغيرات، وهي التي كانت تلوّن حقولنا بذلك اللون الأصفر الرائع.
وكأنّ الكاتبة تقصّدت أن تسحبَنا إلى ذلك الزمن الجميل والقاسي، فلم تترك تفصيلًا إلا وذكرته، حتى فرانكو كاسباري ساحرُ الفتيات بشعره السوّاح وكلامه الساحر، حضر في الحكاية،كما روايات عبير العاطفية التي كانت أكشاك المكتبات تعج بها،وبجديدها الدائم. إلى المجلات المصورة وغيرها.
يمثّل هذا المزج بين التاريخ والواقع والتخييل، والالتحام مع القضية الوطنية بناءً متماسكًا وصلبًا، يحيل إلى سردية الأرض والوطن والإنسان. كل ذلك حيكَ بأسلوب مشوّق أبدعت فيه الكاتبة، مبتعدةً من الخطاب المباشر الذي يفقرُ النص ويتعبه وينأى به عن الفنية الخالصة.
تأسست الرواية على زمن النصر والكبرياء، وعلى أمكنة أليفة، عمل المحتل على تحويلها أمكنة معادية، ولم يفلح. فمثّلت الخيامبأزقّتها ومعتقلها المكان الأبرز في الحكاية. وسيبقى مشهد الأيدي الممتدةِ إلى الحرية راسخًا في ذاكرة أحرار العالم ومقاوميه وشرفائه.ومثّلت بيروت المدينة الجريحة، وكان والبقاعُ الحاضنَ والمواسي للمهجرين داخل الوطن.
انتقت الكاتبة شخصيات من واقع المجتمع اللبناني، ولكن الشيء الملفت في العمل أنه نزع عن تلك الشخصيات المقاومة أسطوريتها وخوارقها، حتى لو كانت شخصيات ورقية وليست حقيقية، فنرى إليها تعشق وتحب وتتألم وتقاوم ويعتريها الخوف والفزع أحيانًا.
واتخذ الحب شكلًا متميزًا في الحكاية أيام الاحتلال، فخفقتالقلوبُ وأحبتْ واشتاقت وضحتْ، حتى إن حب (وديع) الشاب الوسيم الميسور لهناء، وهو الذي كان متابعًا للموضة وصيحاتها، ولا يستقر في عمل معين، غيّر الحبُّ حياته، وكشف له عن تفاصيلَ كانت أمامَه ولم يكن يشعر بها، فسخّر تجارته وسمعته وسلوكه لاحقًا في سبيل مقاومة المحتل وظلمه. هذه المقاومة التي تعرّف إليها وخاطر بنفسه من أجلها. وفي الوجه الآخر من هذا التحول ، كان يريد أن يثبت رجولته ووطنيته امام هناء المرأة التي قلبت المعايير القيمية بنظره.
فمثّلت المرأة، التي كان لها الدور الأكبر في الرواية، المرأة العاملة والمثقفة والحالمة والجريحة والشهيدة والمقاومِة والعاشقة والعاقلة والكافلة لأبناء إخوتها الذين تفرغوا للعمل المقاوم. والحاضنة لإبنة اختها الشهيدة. وهي المرأة التي ضحت بنفسها وبحياتها من أجل أن تحمي المقاومين وتخبئهم في بيتها وفي سرداب منزل العائلة في الخيام، مع وجود الخطر الكبير عليها وعلى حياتها وعائلتها. وهي التي حملت همّ ابن أخيها المتوحّد(جواد) الذي سلخته والدته الفنزويلية اليهودية عن مجتمعه وبلده، وهربت به الى فلسطين المحتلة، وحاولت هناء إعادته الى الوطن، لكن مرضه وظروف الاحتلال منعاها من ذلك.
وأبرزت الكاتبة موضوع التكافل الاجتماعي، والتلاحم بين أبناء المجمتع وتكاتفَهم في مواجهة المحتل الغاصب الذي أراد سرقة وجوهِنا وتاريخِنا وحضارتنِا وسحقنِا، وجعلنا جماعةً منسيةً، منقرضةً.
شكّلت الروايةُ أفقًا مفتوحًا على الذاكرة والتاريخ والمجد والبطولة ، ونجحت الكاتبة في المزج بين عناصر العمل لخلق عمل روائي لا يُطوى مع قراءة آخر صفحة، بل يبقى أثره ساكنًا في الفكر والعقل والوجدان، كلما ذُكر الجنوب، وكلما ذكرت الخيام.