فاعليّة المكان سرديّاً ومرجعيّاً
في رواية”حدثيني عن الخيام”
للدّكتورة فاتن المرّ
د.لؤي زيتوني
عند البحث في حيويّة الخيال داخل العمل الأدبيّ عمووماً، والرّوائيّ خصوصاً؛ لا بدّ أن نقع على القدرة العميقة التي يتحلّى بها في تصوير الحيّز المكانيّ للأحداث. إذ أنّ الحضور الفاعل للخيال يقدّم مصدراً خصباً أمام القارئ ليستوعب العمل الأدبيّ على وجه الدّقّة، وليتمكّن من فهم الظّروف الموضوعيّة التي أحاطت به، وما تشكّله من إشاراتٍ دلاليّةٍ شديدة الإيحاء. ولهذا أبرز بعض الباحثين أهمّيّة الارتباط العضويّ بين العمل الأدبيّ وبين الحضور المكانيّ عبر العنصر الخياليّ الفاعل:
“لما كان الأدب هو الأصل في التّفكير، وفي الخيال، وفي التّصوير، وفي كثير من مظاهر الإبداع الأُخر؛ فإنّه قد يكون هو المجال الذي يتبنّك فيه الحيّز ويتمكّن بامتياز […] ولكن ما هو حقّ أيضاً أنّنا نتمثّل الأدب على أنّه الأصل في التّخيّل، وعلى أنّه أكبر من بناء العمارات الشّاهقة، والقصور الممردة، والمدن الضّخمة؛ دون أن يستحيل عليه ذلك؛ فهو أقدر على التّعامل مع الحيّز؛ لأنّه أقدر الفنون والعلوم على تمثّله أوّلاً، ثمّ تصويره بيسرٍ من وحي الخيال، وعبر الخيال، وبالخيال، آخراً” .
على أنّ هذه العلاقة للأدب بالمكان لا تقتصر على عملية الاحتواء فحسب، لأنّ حضوره المتخيّل لا يكون سلبيّاً، بل ذا فاعليّةٍ نشطةٍ في الأحداث وفي الشّخصيّات، وتطوّرهما على السّواء. لهذا رأى الدّارسون السّيميائيّون في بروزه إشارات دلاليّةً تتكامل والبنية الدّلاليّة الكبرى للعمل:
“المكان علامة كالعلامة اللّغويّة، قائمة على وجهين غير متفارقين: (الدّالّ) و(المدلول). وكما تخرج الكلمة من نظامها اللّغويّ إلى النّظام السّيميولوجيّ حين تدخل القصيدة فتغدو علامة سيميولوجيّة عبر المجاز، فإنّ المكان (العلامة) يخرج من نظامه الدّلاليّ العاديّ إلى النّظام السّيميولوجيّ حين يدخل النّصّ السّرديّ ويغدو علامة سيميولوجيّة أيضاً” .
من هذا المنطلق، فإنّ دراستنا للمكان في العمل الأدبيّ الرّوائيّ على وجه الخصوص، لا بدّ أنّ تتّسم بالقدرة على رصد الإشارات أو العلامات التي تقدّمها الأمكنة الحاضرة فيه وارتباطها ببنيته الكلّيّة.
وفي هذا السّياق، تطالعنا رواية “حدّثيني عن الخيام” للدّكتورة فاتن المرّ بوصفها واحدةً من الأعمال الرّوائيّة الغنيّة بالحيويّة المكانيّة، إلى جانب ريادتها في المنحى السّرديّ رؤيويّاً وتقنيّاً. فما هو المنحى الذي اتّخذته هذه الرّواية في تشكيل الحيّز المكانيّ وتقديمه عنصراً سيميائيّاً غنيّاً بالأبعاد الدّلاليّة؟
1- العنوان وسيمائيّة المكان:
يقدّم لنا العنوان إشارةً مكانيّةً جليّةً، وذلك من خلال لفظة “الخيام”، وهي البلدة الجنوبيّة التي عُرفت بمعاناتها زمن الاحتلال، وتحرّرها منه في العام 2000. كما أنّها التي كانت تُعرَف بالمعتقَل الجاثم فوق أراضيها، وهو ما شكّل رمزاً من رموز القمع والإذلال التي حضرت آنذاك.
في هذه الإشارة، نلاحظ أهمّيّة هذا المكان لكونه محور الحديث الذي يطلبه المتكلّم، وقد تكون هذه الإشارة المكانيّة لا ترتبط بالموضع المرجعيّ المعروف المحدّد آنفاً فحسب، لأنّ حضور الاحتلال فيها ما بين العامين 1978 – 2000 يجعل منها أنموذجاً عن المدى المكانيّ الذي عانى من الظّروف نفسها.
أمّا بالنّسبة للجزء الأوّل من العنوان، والذي يدور حول عمليّة التّحدّث، فهو يشكّل علامةً سيميائيّةً شديدة الارتباط بإيحائيّة المكان. فكون الفعل الحواريّ يتمّ بين متكلّمٍ ومخاطب حول تلك البلدة، هذا يدلّ على مثول الذّاكرة بوصفها عنصراً رئيساً في هذا الفعل؛ لأنّ الحوار بين مختزنٍ للذّكرى وللعلم حول الخيام، وبين توّاقٍ إلى إغناء ذاكرته بحكايا الخيام. يعني هذا أنّ الغاية الأخيرة هي إدخال ذلك المكان في الذّاكرة الفرديّة والجمعيّة.
ولا ننسى في هذا المنحى أنّ نشدّد على كون المخاطَب الممتلك للذّكرى شخصيّةً أنثويّة، ولعلّ في ذلك إشارة إلى أنّ مَن يمتلك الوعي بالمكان وتاريخه المرأة التي تعمل على منح الذّاكرة الجمعيّة الواعية. فكيف أبرزت الكاتبة في روايتها تلك الأهمّيّة؟ وإلى أي مدى نرى الحضور المكانيّ منسجماً مع هذا المنحى؟
2- الحيّز-الملجأ:
يلاحظ القارئ للرّواية الحضور الفاعل للمكان المظلم بوصفه الموئل الطّبيعيّ هرباً من الخوف والموت، إذ يمكننا أن نرى حيّزي الملجأ والسّرداب اللذين غطّيا مساحةً مهمّة من المسار السّرديّ للرواية. فالملجأ ظهر الموضع المطلِق لعمليّة السّرد، لأنّ الكاتبة من خلاله أطلقت الهواجس والمخاوف التي تدور في أذهان الشّخصيّات، كما أبرزت حال الظّروف المحيطة بها، إلى جانب إطلاق الأحداث. ومن ذلك ما نقرأه في مطلع الرّواية:
“تتراقص أفكاره فوق الهاوية، تتعثّر إحداها، تكاد تقع في المحظور، في الذّكريات السّوداء والهموم التي تتجاوز قدرته […] الدنيا حرب والجنون يتهدّد الجميع. لكنّه في هذا الملجأ حيث لا كتب ولا مجلاّت ولا مذياع أو تلفاز. […] في الخارج قصف يكاد يعلن نهاية العالم. لا تبدو العودة إلى الحياة الطّبيعيّة أمراً يمكن أن يتحقّق يوماً.”
الإشارة التي يقدّمها الملجأ هنا هي علاقته بالواقع المعاش في زمن الأحداث، فحضوره يترافق مع حضور الحرب والجنون والذّكريات السّوداء والهموم، إلى جانب الابتعاد عن وسائل التّواصل…
يقترن هذا الحيّز بحيّزٍ آخر يتّخذ الدّور نفسه، وأعني به السّرداب في منزل هناء داخل “الخيام”، فهو يتحوّل إلى المكان الوحيد القادر على احتضان الحياة في مقابل عالم الموت المحيط به. ولعلّ هذا ما يمكن فهمه حين نقرأ:
“اليوم الأخير… يا ليتها علمت… لكانت تعلّقت بثوب جدّتها وتوسّلت إليها أن تبقى معهم في السّرداب، لكانت بكت كما فعلت حين أراد خالها اصطحابها إلى بيروت!”
فالسّرداب بات هنا المكان الوحيد الآمن، لأنّ ما هو خارجه يرتبط بالموت، الأمر الذي يعني أنّ الخروج منه يدلّ على النّهاية. إلا أنّ هذا المكان المظلم عموماً يغدو عالماً قائماً بذاته يسعى الذين يلوذون به إلى أن يكون متنفّساً بعيداً عمّا ينتظرهم خارجه، وهو ما يتناسب مع ما عاشته ماجدة فيه:
“حين بدأ القصف، جاءت السيّدة ومعها قنديل أكبر وكيس يحتوي المجلاّت بألوانها الضّاحكة، ودخلت ماجدة إلى العالم الخيالي للوطواط وزكّور ولولو وطبّوش والرّجل المطّاط والبرق والرجل العنكبوت وسوبرمان، عالم ينتصر فيه الخير على الشّر دائماً ولا وجود فيه للموت.”
فالطّفلة ماجدة استطاعت أن تبدع عالمها الخاص داخل الملجأ بقراءة مجلّات الأطفال التي جعلتها تغرق في شخصيّات خياليّة تخرجها من الرّعب الذي تعيش فيه.
في المقابل، كان الملجأ، أو هذا المكان المظلم، مركزاً لإطلاق أفكارٍ وجوديّة قد لا تكون الفرصة مهيّأة في أحوالٍ غير التي تترافق معه. ومن ذلك ما كان يرد في ذهن هناء:
“في الملجأ، حين يعلو صوت القصف على الأصوات البشريّة ويضيّق الهلع الخناق على الأعناق، ويبدأ المرء بالبحث عن سبل لإقامة التّحصينات الدّاخليّة ضدّ الخوف والضّعف والانهيار. ضدّ «شعور النّمل»، كما تسمّيه هناء، فالمرء يشعر أنّه مجرّد نملة، تنتظر أن تهبط عليها رِجْل عملاقٍ شرس”
يلفت هنا الرّابط الذي تقيمه الشّخصيّة بين شعور قاصدي الملجأ وبين شعور النّمل، وهو الأمر الذي يوحي بالتّهديد المستمرّ الذي يواجهه الواحد منهم عند الخروج إلى النّور، وكأنّنا هنا أمام انقلابٍ جذريٍّ في المفاهيم، لأنّ الظّلمة باتت هي الملاذ الآمن، بينما الضّوء خارجه صار مساحةً للموت.
كما أنّ انقلاباً آخر في المفاهيم طال السّرداب، وذلك بعاملي الإرادة والزّمن، فبعد أن كان ملجأً من الخوف والموت، أصبح مقبرةً للعملاء:
“غيّرت ثيابها وخرجت تاركةً الجثّة على أرض المطبخ. توجّهت إلى دكّان روبير وأخبرته بما حصل، فرافقها إلى البيت. ساعدته على سحب الجثّة نحو السّرداب. لم تشعر بثقل الجسد الفارع الطّول، لم تشعر بشيء. ساءها فقط أن يقبع [العميل] في المكان الذي خصّصته للمقاومين.”
من هذا المنطلق، يمكننا أن نرى أنّ المكان الأوّل الذي يطغى عليه الظّلام، قد شكّل علامةً سيميائيّة متعدّدة الأبعاد الدّلاليّة… غير أنّ المسار التّطوّري لهذا المكان قد قدّم بحدّ ذاته علامةً شديدة الإيحاء، لأنّه ارتبط بتطوّر الخطّ السّرديّ للرّواية.
3- التقاطب المكانيّ بين الرعب والحنين:
انسجاماً مع ما حدّده العنوان، نجد “الخيام” المكان المحوريّ في أحداث الرّواية عمليّاً وذهنيّاً. فهي شكّلت المنطلَق القصّة التي تطلعنا عليها مخيّلة “ماجدة”، الطّفلة التي أصيبت بالصّدمة من جرّاء الصّورة الأخيرة التي التصقت بذاكرتها، ومختصرها المجزرة؛ أي أنّها برزت مع تلك الطّفلة مصدراً للرعب:
“فتحن باب السّرداب ببطء وخرجن. كلّ شيء ساكن. غافلت ماجدة رفيقتيها وركضت إلى الدّار. هناك، في ضوء النّهار الرّاحل، شاهدت العجوزين وقد تدلّى رأساهما على صدريهما وتلوّنت ثيابهما بالدّماء، كما غطّت الأرض من حولهما. جدّتها لم تكن هناك.”
لحظة الرّعب هذه كانت جزءاً من مجزرة الخيام، إذ تضمّنت وصفاً دقيقاً لتفاصيل المشهد، لا سيّما صورة العجوزين المقتولين على كرسيّيهما المتحرّكين. ومن الواضح تدرّج الأفعال وتواليها على نحوٍ يبعث في النّفس حال التّوتّر والتّسارع.
على أنّ ذاكرةً أخرى تكمل المشهد المذكور، وهي ذاكرة المعلّمة سهام، إذ تستعرض لنا ما حدث في ساحة البلدة من وجهة نظرها:
“جمعوا العجائز وأوقفوهم صفّاً على الحائط في ساحة البركة وأطلقوا عليهم النّار. رآها العملاء الذين كانوا يرغمون مجموعة ثانية من السّكّان على التّجمّع في السّاحة، فأمروها بالوقوف مع البقيّة قرب حائط مواجهٍ لحائط المجزرة الأولى. كانت المرأة الشّابّة الوحيدة بينهم، فالآخرون تتراوح أعمارهم بين السّتين والثّمانين”
نجد في المقطع صورةً موحشةً شديدة الدّقّة يسيطر عليها ضمير الغائب الجمع المنقسم إلى نوعين: الأوّل بُني في محل رفع فاعل ويعود إلى المحتلّين، بينما النّوع الثّاني مبنيّ في محل جر بالإضافة والذي يدلّ على أهالي الخيام الذين قضوا في المجزرة.
يعزّز هذا القطب، قطب الرّعب، حضور العملاء والإذلال الطّاغي على المكان منذ بداية الأحداث على نحوٍ عمليٍّ ومثيرٍ للتّحدّي، ومنه إقامة “مهرجان العودة إلى الخيام بحضور رسمي للدّولة اللّبنانيّة ولسعد حدّاد” ، كما تحويل “البلدة حقل رماية وتدريب بعد تهجير أهلها” ، وكذلك جعلها “صحراء خالية من مؤشّرات الحياة، من البشر والشّجر” … كل هذه الإشارات، وغيرها، تبرز الدّرك الذي بلغته الخيام منذ مجيء الاحتلال.
لكنّ هذا الإطار لم يكن قطباً أوحد يرتبط في هذا المكان داخل أذهان الشّخصيّات، فقد ظهر قطب آخر مرتبط بالحنين إلى الخيام لكونها الحاضن الأوّل أو الجذر. بناءً عليه، تطالعنا الذّكرى المشتركة لشخصيتي هناء وماجدة، حين تعودان بفكرهما إلى منزلهما:
“طلبت من ماجدة أن تنتظر عند المدخل، وبعد دقائق، خرجت حاملةً نبتة من الخزامى. عندما تنشّقت ماجدة أريجها، قالت: «مثل تلك التي في بيتنا في الخيام». تلك التي كانت تشكّل سياجاً حول المنزل” .
تقدّم لنا نبتة الخزامى علامةً دلاليّةً واضحةً على الحنين إلى المنزل في الخيام، وتبرز الدّلالة على نحو أكبر في كون تلك النبتة تشكّل سياجاً حول المنزل، بمعنى أنّها تظهر بوصفها عامل حمايةٍ للمكان، ليس بالمعنى المعروف للحماية، بل بمعنى الحفاظ على الانتماء إلى ذلك المكان. وما يعزّز هذا الأمر الحنين إلى تاريخ ذلك البيت:
“«هل تعرفين يا ماجدة أنّ لبيتنا في الخيام تاريخاً في التّحدّي وفي النّهوض من الرّكام؟ فبعد أن علم الفرنسيّون بهروب جدّي، طوّقوا البيت وبدأوا بهدمه بعد أن أخرجوا جدّتي وأولادها عنوةً، فاحتجّ الأهالي الغاضبون وتوقّف الفرنسيّون قبل أن يتمكّنوا من إنهاء مهمّتهم وتدمير دارنا. في اليوم التّالي، بدأ أهل القرية بإعادة بناء ما تهدّم وما احترق… هذا ما سيحصل مجدّداً عندما سنعود إلى الخيام. أعدكِ أنّ بيتنا سيعود كما كان»”
اللّغة السّرديّة التي تسيطر على المقطع بعد المنحى الخطابيّ في مطلعه، تعمل على تعزيز الانتماء، إلى جانب إشاعة مناخ الأمل في إمكانيّة استعادة المنزل، مع ما يدلّ عليه من معاني الصّمود وترسيخ الرّابط بالمكان. وليس أدلّ على ذلك من حضور صيغة الاستقبال في نهاية المقطع للتّأكيد على حتميّة الانبعاث. لذلك فإنّ نوعاً من تكافؤ القوى يظهر في ذهن الأبطال حول هذا المكان، لأنّ قطب الحنين يقابل قطب الرّعب بشكلٍ فاعلٍ داخل الرّواية. ولعلّ هذا ما يمكن فهمه من خلال اقتران البيت بالوطن في ذهن ماجدة:
“-والبيت هو كالوطن… أكملت ماجدة، يا إلٰهي! هذا فظيع!
البيت… الآن تفهم شغف أخوالها بالمقاومة.”
ومن الواضح هنا أنّ فعل المقاومة ترجمةٌ عمليّة لروح الانتماء التي يرمز إليها البيت، كما أنّها ترجمة لمسألة تعزيز المواجهة ضد عوامل الرّعب في الأذهان. ولذلك كانت إعادة بناء البيت بحدّ ذاتها فعل مواجهةٍ لمشاعر الرّعب ومَن يثيرها:
“عندما بدأ البيت يتماثل إلى الشّفاء، شعرت هناء أنّ مهمّتها الأولى تقترب من نهايتها.”
الملفت للانتباه هنا التّشخيص الذي تقوم به الكاتبة للبيت، إذ أنّها أنسنته وجعلته يمتلك صفة الشّفاء التي تخصّ الكائن الحيّ. الأمر الذي رفع من مستوى المواجهة وترسيخ القطب المواجه المتمثّل بالحنين وما يدور في فلكه من أسباب ونتائج. لذا فإنّ المكان-المنزل احتضن تقاطباً ذهنيّاً تمثّل بحالي الرّعب والحنين أدّى إلى تطوّر المسار الصّراعيّ للرّواية، وبالتّالي جعل التّوتّر السّرديّ فيها أكثر احتداماً. غير أنّ ما لا بدّ من طرحه هنا: هل بقيت الرّواية ضمن حال التأرجح الذّهنيّ هذه؟
4- حركيّة المكان – التّحوّل المكانيّ:
يستطيع القارئ أن يجد في الأساس المكانيّ الذي توكّأت عليه الرّواية حركيّةً متدرّجةً أخرجته من حضوره النّمطيّ، ليحمل هاجس المقاومة والتّحرّر في المسار الذي اتخذه بالتّناسب مع حركة الأحداث. فقد رأينا في المبحث السّابق كيف أنّ المكان حمل قطب الرّعب، بمعنى أنّه نزع نحو العوامل التي تشيع هذا الرّعب من هدمٍ وقتلٍ وإرهابٍ مادّيٍّ وفكريّ على حدٍّ سواء. وفي هذا السّياق، نرى إلى المجزرة وإلى تهديم المنزل وممارسة التّهديد المتواصل بوصفها مظاهر بنيويّةً مكوّنةً لهذا المنحى التّخويفيّ.
ولعلّ الإشارة الأولى الدّالّة على حركيّةٍ فاعلةٍ في المكان نفسه هي عودة هناء وماجدة إلى الخيام، حيث نجد الصّراع النّفسيّ الذي يصيب الأولى:
“عندما وقفت في مواجهة المنزل، كانت والدتها هناك، واقفة فوق الرّكام بمنديلها الأبيض الذي يرفرف طرفه في الهواء. لم تنظر إليها. كانت تنظر إلى شيءٍ ما، ثمّ تنحني وتلتقط بعض الحصى، كما كانت تنحني لتلتقط بعض الغبار عن السّجّادة… أمّي، أما زلتِ هنا؟ ألم ترتح روحك من همّ البيت والعائلة؟ هل فعلتُ حسناً بالعودة مع حفيدتك الحبيبة؟ هل يمكنكِ أن تحمينا من الشّرور التي تهددنا؟”
صورة الأمّ المرتبطة عضويّاً بالمكان شكّلت العلامة الأبرز سيميائيّاً هنا، إذ أنّ العودة إلى المكان برز عودةً إلى حضن الأمّ، مع ما يعنيه ذلك من تأكيدٍ على عمليّة الانتماء. ويعضد هذا أيضاً التّساؤلات الذي تنهي بها الشّخصيّة المقطع، إذ أنّها عبارة عن مناجاة نفسيّة غايتها إظهار الصّراع الوجوديّ الذي احتدم في نفس هناء نتيجة قرارها بالعودة مع ابنة اختها ماجدة. ومن الواضح أنّها كشفت عن حجم الدّمار الذي طال المنزل، وبالتّالي تبيّن الممارسة اليهوديّة السّائدة في ذلك المكان.
ولا ننسى هنا دوراً آخر قام به الاحتلال ليزيد من حدّة هذه الصّفة، وأعني العمل على تشويه تاريخ المكان وإلغاء ذاكرته الجمعيّة، من خلال سرقة آثار الجنوب والعمل على محو هويّته، لفرض قراءتهم المزوّرة والمشوّهة لتاريخ المكان:
“كتبت في المقال الأوّل عن آثار في بلدة ميس الجبل تخطّى عمرها الألف وخمسمئة سنة، موجودة في كهوف وقبور على التّلال، تحتوي نواويس فيها قطع أثريّة متنوّعة وهياكل عظيمة، وقد أقامت حولها قوّات الاحتلال حصاراً لمنع المواطنين من الاقتراب، وللسّماح للمنقّبين الذين استقدمتهم بالقيام بالمهمّة التي أسندت إليهم، ألا وهي نقل القطع الأثريّة إلى فلسطين المحتلّة” .
يضاف إلى هذا، تعمّد السّلطة الإسرائيليّة إقامة المعتقل المشهور على أرض الخيام، وما ينتج عن ذلك من مشاعر الذّلّ والخوف والغضب في الأذهان، لأنّ هذا البناء يعني عمليّاً ترسيخاً لفكرة الاحتلال وجعلها أمراً واقعاً:
“وإسرائيل قابعة فوق بلدتهم التي غدت عنواناً للظّلم منذ افتتاح المعتقل فيها. أصبح اسم «معتقل الخيام» مصدراً للخوف أو للغضب في نفس كلّ اللّبنانيّين. سعادة الذي لم يتمكّن من زيارتها في الخيام قبل أن تغادر، عاد إلى بلدته معتقلاً. يعيش على مسافةٍ قصيرة من منزلهم من دون أن تتسنّى لها رؤيته…”
فظهور المعتقل قد أدّى إلى شعورٍ مؤلمٍ بالقهر والظّلم، وبالتّالي زاد من جحيميّة المكان. ولذلك فإنّ ثنائيّة (الاحتلال/المواجهة) تبدو فيها الغلبة للعنصر الأوّل على نحوٍ واضح.
إلاّ الحيّز المكانيّ لا يبقى عند هذه الحدّ، فدخول الانسان المنتمي إليه لم يترك المجال لتمادي الاحتلال ومخطّطاته. وأولى العلامات التي تدلّ على تحوّل جذريٍّ في حركيّة الصّراع داخل المكان تتمثّل في فعلي البناء والزراعة:
“أوفياء هم للأرض، للبشر، للشّجر، للتّراب وللحجر. يتشاركون في إعادة البناء، فترتفع البيوت بسرعة مدهشة، ويعيدون غرس شجر جديد مكان ذلك الذي اقتُلع.”
ضمير الغائب للجمع (هم – واو الجماعة) دفع الحيّز المكانيّ إلى تغيّرٍ في طبيعة المكان-الأرض، فهذا الضّمير الذي يمثّل أبناء هذه الأرض أنفسهم أدخل تحوّلاً حاسماً فيها لجهة تعزيز عمليّة الصّمود، إذ أنّ فعلي البناء والزّراعة جعلا من البيت والشجر رمزاً لقوّة الانتماء إلى الأرض وللرّسوخ فيها.
غير أنّ السّياق التّطوّريّ للأحداث لم توقف المكان عند حدود الصّمود والثّبات، بل دفعته إلى مرحلةٍ أكثر تقدّماً هي مرحلة المواجهة الفعليّة مع قوى الشّرّ، ولعلّ هذا ما يعيدنا إلى رمز السّرداب الذي تحوّل إلى رمزٍ للمقاومة:
“- ربّما ستضطرّين لإخفاء بعض المقاومين فيه [السّرداب] حتّى نتمكّن من تأمين وسيلة هرب لهم […] يقول سعادة إنّ أيّ شخص يدقّ بابك ويعرّف عن نفسه على أنّه قريبك وسيم أيّوب، تقودينه مباشرةً إلى السّرداب وتبقينه هناك، حتّى يأتيك شخص آخر يعرّف عن نفسه على أنّه صديق وسيم أيّوب فيؤمّن له وسيلة للفرار.”
يبدو الحضور المقاوم للسّرداب طاغياً على المشهد، إذ أنّ المكان بات حيّزاً مفتوحاً للمقاومة ضدّ المحتلّ، وصيغة المخاطَبة الموجّهة للمؤنّث المفرد، أي إلى هناء، تعطي انطباعاً بالإسهام الفاعل للمكان وإنسانه فيها ضمن إطار عامل الانتماء أو الهويّة الذي يربط بينهما على نحوٍ عضويّ، ويجعل مسألة مقاومة الخطر نتيجةً طبيعيّةً.
لكنّ هذه الحال، حال المواجهة-المقاومة، لم تكن غايةً بذاته من التّحوّل المكانيّ، بل كانت عتبةً نحو مرحلةٍ أخرى، فالغاية هي الوصول إلى مكانٍ خالٍ ممّن يلوثه، إلى مكانٍ بعيدٍ عن الاحتلال. من هذا المنطلق، كان من المنطقيّ أن تنتهي الرّواية في المكان الذي انطلقت منه الشّخصيّات إنّما في زمنٍ آخر هو زمن التّحرير عام 2000:
“ألم تعرفي؟ الجميع ذاهبون إلى المعتقل. يقولون إنّ الإسرائيليّين وعملاءهم انسحبوا وتركوا المعتقل خالياً. الأهالي ذاهبون إلى هناك. هيّا بنا لنلحق بهم”
يمكننا أن نلاحظ في هذا المقطع لحظة المفاجأة من الاندحار الاسرائيليّ وخروجه من الخيام، ويبدو لنا أنّ الفعل الماضي ارتبط بواو الجماعة التي تمثّل الإسرائيليّين (انسحبوا – تركوا)، بينما نجد أنّ اسم الفاعل والفعل المضارع المقترن بواو الجماعة التي تعود إلى أهالي الخيام (ذاهبون – يقولون – ذاهبون). ويمكن أن نرى بجلاء غلبة اسم الفاعل غير المرتبط بزمنٍ محدّد، إلى جانب الفعل المضارع الدّالّ على الحاضر؛ وهذا دليل على التغيّر الجذري الذي طال المكان. ولعلّ هذا ما يتّضح مع ختام الرّواية بقراءتنا لما يأتي:
“راح بعضهم يركض صوب البوّابة الخارجيّة، ومنها إلى الخيام. أحاط بها ساعدان قويّان ورفعاها عن الأرض. خالها سعادة. شعره مشعّث ووجهه شاحب وجسده هزيل، وحقيبته الصّغيرة خلف ظهره، ولكنّه هنا… وهم رحلوا”
التّحوّل التّفاؤليّ بدا جليّاً في المقطع، وذلك من خلال خروج سعادة من المعتقل. إلاّ أنّ العلامة السّيميائيّة تبرز في عبارة الختام “لكنّه هنا… وهم رحلوا”، الإشارة المكانيّة تبرز من خلال الظّرف (هنا) التي ارتبطت بهاء الضّمير لتبيّن حضور المقاوم وبقائه في المكان بوصفه منتمياً إليه. لكنّ العبارة أتت بصيغة المقابلة؛ فإن كانت شخصيّة سعادة هنا، فهذا يعني أنّ الآخر، أي اليهود، قد ابتعدوا عن المكان. وبناءً عليه، فإنّ حركيّة المكان اتّخذت منحًى تصاعديّاً من حال الخنوع والهيمنة إلى مرحلةٍ أكثر استقراراً تتّسم بالسّيادة والحرّيّة.
5- خلاصة:
من خلال ما تقدّم، نستطيع أن نجد الحيّز المكانيّ في رواية “حدّثيني عن الخيام” يشكّل عنصراً محوريّاً في البناء السّرديّ، إذ أنّ الأمكنة وتطوّرها قد برزت بوصفها علامات سيميائيّة تنسجم مع البنية الدّلاليّة الكبرى للعمل. فمن ناحيةٍ أولى، نعثر على الحيّز المظلم الذي تمثّل في الملجأ والسّرداب؛ وقد بدا ملاذاً آمناً للشّخصيّات من المحيط المليء بالموت والخوف، مشكّلاً علامةً مميِّزةً بتحوّله من موضعٍ دالٍّ على الضّعف إلى موضعٍ يظهر ضعف الآخر العدو أو الخائن.
كذلك، نرى حضور التّقاطب داخل المكان بين قوّة الرّعب التي يمكن اختصارها بممارسات الاحتلال من قتلٍ وتدمير وإذلال، وبين قوّة الصّمود التي تتجلّى في حضور المنزل وإعادة البناء والزّرع، وبالتّالي العناصر القادرة على إخراج المكان من حال الاستسلام إلى نوعٍ من المواجهة.
إضافةً إلى ذلك، نجد أنّ المواجهة تتّخذ أبعاداً جدّيّةً داخل الحيّز المكانيّ، فنرى نتيجة احتدام هذه المواجهة عمليّة التّحوّل الذي طاله وأخذ ينحو به نحو الدّخول في العمل المقاوِم، وبالتّالي تغيير واقع المكان من الهيمنة والرّعب إلى واقع انتصار…
ولعلّ هذه الفاعليّة المكانيّة هي التي ميّزت العمل بوصفه تمثيلاً للإثم الكنعانيّ، لأنّه يقوم على تشكيل المكان المرجعيّ وإعادة بنائه ليخرج من جموده الواقعيّ إلى حضورٍ مغايرٍ قائمٍ على الإيمان بالفعل المقاوم في سبيل الحريّة والانتصار.
على أنّ هذا الدّراسة لتأثير المكان في أحداث الرّواية لا يمكن أن يكتمل ما لم نأخذ في الحسبان الجوانب الرّمزيّة التي قدّمتها بعض الشّخصيّات داخل السّياق السّرديّ. ومنها على سبيل المثال، حضور شخصيّة جواد، شقيق ماجدة التّوأم، التي تربّت في حضن المرأة اليهوديّة على نحوٍ غير سويّ بسبب إصابته بمرض التّوحّد، والتي استطاعت أن تختزن في ذاكرتها مكان انتمائها الأوّل إلى جانب صورة الشّقيقة التّوأم، ماجدة؛ من خلال فنّ الرّسم . فهذه الشّخصيّة وارتباطها بالمكان وبالجذور، شكّلت بحدّ ذاتها علامةً دلاليّةً رمزيّةً متعلّقةً بالوضع اللّبنانيّ العامّ لا بحالٍ فرديّةٍ عابرة. إلاّ أنّ المجال لا يتّسع هنا للاستفاضة بها، وتحتاج إلى دراسةٍ متأنّيةٍ مستقلّة.
ومهما يكن من أمر، فإنّ رواية “حدّثيني عن الخيام” عمل سرديّ متميّز يؤرّخ وجدانيّاً لمرحلةٍ تاريخيّةٍ امتدّت بين اجتياحٍ وتحرير، راسمةً رؤيةً مغايرةً لقراءة الحيّز المكانيّ وأبعاده الرّمزيّة في ضوء تلك المرحلة، ولذلك فهي عمل يستحقّ أن يتّخذ مكانه الرّائد في مكتبة الرّواية العربيّة.
د.لؤي زيتوني