قراءة في كتاب الأستاذ عمر شبلي:”نفي الغياب في رحلة الإياب”
بقلم الدكتورة هالة ابو حمدان
للعرفان شأن خاص. هو حالة روحانية قلبية مجبولة بالإحساس والإشراق والكشف بعيداً عن مناهج الفلاسفة ومنطق الحكماء. والعارف هو “المنصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديماً بشروق نور الحق في سرّه” كما قال ابن سينا. والإدراك العرفاني يكون بالفؤاد والمعرفة فيه هي فيض نور من الله يشرق في القلب ليرى العارف جوهر الأشياء. العرفان هو سفر إلى الله مغموس بالألم، محفوف ومدفوع بالشك، ساع وراء اليقين.
إن قراءة كتاب الأستاذ عمر شبلي:”نفي الغياب في رحلة الإياب” لا تقل صعوبة عن قراءة قصيدة الشاعر محمد علي شمس الدين: “يوم الأحد الواقع فيه صمتي”. فالقصيدة، كما يصفها عمر شبلي، “قصيدة رؤيوية”، تتجلّى خصوصيتها وفرادتها في أنه يستحيل فهمها بالوسائل المعرفية العقلانية أو المنطقية اليقينية، بل لا بدّ من استشفاف معانيها من بين طيّات الكلمات، وتلمّس نبض ايقاعها من خلال الروح. فهي تلعب على وتر الأحاسيس وليس المعارف، وقراءتها تتنوّع بتنوّع قارئيها نظراً لتعدّد وكثافة الأبعاد الكامنة فيها.
هذه القصيدة الاشراقية العرفانية تدخلك في متاهة من الأحاسيس، وهي تدرَك بالقلب لا بالعقل، وتتجه إلى الروح بعيداً عن مادية الجسد. فهي تروي معراج القلب والروح الى بارئهما، وسعيهما إلى المطلق للتخلص من أدران الدنيا ومعاناة الشك. هذه الرحلة شابها الكثير من المعاناة في مواجهة العواصف النفسية وبحور الشك وغيوم الظلمة بحثاً عن النور الأعلى. هي تعبير عن صراع للخروج من سجن الطين من خلال رحلة الحرية والفناء في الخالق في ميقات من خمس دقائق من أيام الرب(78).
ومن أقدر من الشاعر والناقد الكبير عمر شبلي على سبر أغوار قصيدة تنطوي على مناجم من المعاني والأحاسيس. وهو الموغل في المعرفة النقدية، والمالك لثقافة موسوعية برزت في مقارباته ومقاراناته. وقد أبدع في دراسته لهذه القصيدة الاشراقية ومحاولة استشفاف بروق الاشراق في قسمات كلماتها الحدسية المدهشة، وذلك دون أن يستطيع عمر “الناقد” حجب عمر “الشاعر”. فقراءته للقصيدة كانت قراءة ناقد شاعر، وإحساسه المرهف كان يتفاعل مع كل إشارة في القصيدة ودراسته كانت قراءة شعرية بامتياز.
يقول عمر شبلي عن شمس الدين إنه “شاعر صعب”(58). فهذا النوع من الشعر عصي على التحديد والحصر، يفتح أمام القارىء آفاقاً واسعة ومتعددة. فأنت “لا تستطيع أن تحدّد معنى واضحاً لما تقرأ وإن كنت ممتلئاً به شعورياً”(148). لكن عمر شبلي الناقد يدهشنا ببراعته في تحليل رموزه وتفكيكه وتقليبه من كل جوانبه، ومقارنته مع قصائد أخرى لشمس الدين، ومع القديم والحديث من الشعر والأدب والفلسفة لدى العرب وعلى الصعيد العالمي.
ويشدّد عمر شبلي على أن المبهم في القصيدة ناتج عن كثافة الإحساس. وهذا المبهم هو الذي يجعلها حمّالة أوجه وقابلة للتأويل ويولّد لذّة مشابهة لسطوع البرق الذي يخلق الضوء من رحم الظلام.
والمميز في دراسة عمر شبلي هو استحضار البيئة التي نشأ فيها الشاعر وأثرت فيه وطبعت شعره بطابعها. من مئذنة القرية وآذان الفجر ومكتبة البيت المملوءة بالروح الإيمانية، مضافاً إليها “جروح أهل البيت النازفة عبر التاريخ في الوجدان الجنوبي”(32) وصولاً إلى مقاومة المحتل. ويرى الباحث أنه كان لالتصاق الجنوب بالأرض المغتصبة في فلسطين وبجراحها النازفة، وبمعراج الأقصى، ومعجزة المسيح في قانا، تأثير ليس فقط على القصيدة التي يدرسها بل على كامل النتاج الشعري لمحمد علي شمس الدين. فاستحضر عمر شبلي شواهد من القصيدة ومن سواها وحتى من مقابلات صحفية يتحدّث فيها الشاعر عن نفسه وعن تأثره بوطنه وقريته وبطبيعتها وثراها، بغيمها وصوت مؤذنها ومكتبة جدّه فيها، بمواويل سكينة وبالثرى الكربلائي الحامل لوجع الطفّ. يقول عمر شبلي إن الشاعر “ممتلئ بالمكان رغم سفره باتّجاه ربّه”، “ويصبح الجنوب هو المكان والشعر الصدى”(148).
يصف عمر شبلي محمد علي شمس الدين بأنه شاعر عرفاني بامتياز(51) كونه يؤمن ببدئية الحب. ويرى أن رحلة الشاعر إلى الله ليست إشراقية فقط، بل هي ملتصقة بقضايا الإنسان الكبرى المتمثلة بالحب والعدل، والإيمان بكليهما. فصوفية محمد علي شمس الدين كما يراها عمر شبلي، هي صوفية يشكّل الإنسان فيها مكمن الله وتجلياته(33). وشمس الدين بالنسبة لعمر شاعر ملتزم، فالأرض في شعره التزام “أخلاقي”(153) لا يصرفه عن السماء(153). وإشراقية شعره “لا تلغي غوصه في معاناة هذه الأمة المكلومة”(52). “فلا يمكن لشاعر أن يصبح كونياً إلا إذا انطلق من خصوصيته الداخلية”(153).
والتأثر بالدين لدى محمد علي شمس الدين كما يرى الباحث، هو عشق إيماني حميم، والحضور القرآني هو حضور إشراقي إيحائي بعيد عن التقليد والفقه وهو ينتمي إلى مدرسة الدين بمعناها الكوني (57).
ويشدّد عمر شبلي على الدهشة التي تجتاحك أثناء قراءتك للقصيدة. وذلك نابع من الحدسية التي تملأ هذه “الملحمة الروحية” كما يسمّيها. في هذه القصيدة مسعى حثيث للرؤية، لكن هذا المسعى محفوف بالحيرة والشك. إنها مغامرة “قتل الشك باليقين والظلام بالنور وتمزيق الحجب التي حاول عبرها الشاعر رؤية الحق عارياً بلا “حفنة من رماد القرى”.(ص 37)
يتبع عمر شبلي منهج المقارنة في تحليله للقصيدة. فهو يتناول شواهد من قصائد أخرى للشاعر من نفس المجموعة أو من مجموعات أخرى. كما يستشهد بأحاديث للشاعر نفسه لتدعيم وجهة نظره، كما بآيات من القرآن الكريم أو بأحاديث نبوية. فإذا كان الشاعر يبحث عن النور في غياهب الشك فالله هو “نور السماوات والأرض” كما في الآية الكريمة. فالشاعر يقول: “وتسلّل نحوي ضوء من ثقب الباب” ليعود ويسأل: “ضوء؟ لا، بل نور غلّاب”. ويتساءل عمر شبلي عن سبب استبدال الضوء بالنور، ويجيب بأن الله شبّه نفسه بالنور في الآية الكريمة، والنور هو “شمول كل شيء، أما الضوء فيحتمل وجود الظلام”(68). والوصول إلى مصدر النور غاية الروح التي ترفض السجن وترفض العدمية(79).
وإذا كان حضور القلب طاغياً في سفره نحو الفيض الإلهي، فهذا مماثل لما جاء في الحديث الشريف: “لا صلاة إلا بحضور القلب”. وقد حلّل عمر شبلي تأثير الرسول العربي لما “اختزنه من آفاق لانهائية”(174) على شعر محمد علي شمس الدين وقارن بين سعيه للوصول إلى الله وبين مكابدة الرسول محمد التي “كانت الأكثر صعوبة لطول المسافة بين المسجد الأقصى وسدرة المنتهى”(175). ويعرض لما جاء في قصيدة شمس الدين “الهجرتان”. فالنبي محمد هو راء، “رأى ما لم يره أحد، وسمع ما لم يسمعه أحد”(181) وهو البرق و”الضياء الواصل بين ألف الخليقة ويائها”(178).
والقصيدة مترعة بالعرفان، لذلك فإن الفعل “يرى” أو “أرى” هو المهيمن عليها وليس الفعل “أعرف” كما يلاحظ الباحث. “فالرؤية، برأيه، أعمق من المعرفة”(62). ويستشهد هنا أيضاً، كما في مواضع كثيرة من الكتاب، بآية من القرآن الكريم: “ما كذب الفؤاد ما رأى” ليقارن بينها وبين ما جاء في القصيدة. فقد استخدمت الفعل رأى وربطت الرؤيا والرؤية بالفؤاد. و”رؤية النبي محمد هي الحب وحده”، و”قلب المؤمن الرائي هو بيت الله”(66).
وتكثر الشواهد من سيرة الأنبياء. فبالإضافة إلى النبي محمد هناك استشهاد بنبي الله موسى وبالنبي ابراهيم. فيظهر عمر شبلي المشابهة بين الرؤية التي أرادها الشاعر وتلك التي طلبها ابراهيم الخليل وموسى كليم الله. ويوضّح كيف أن قلب الشاعر، تماما كما حصل مع النبي موسى، تنوّر حين سمع الصوت الآتي من الله. ومثله خرجت يده بيضاء من غير سوء وضرب البحر بعصاه: “ويدي بيضاء كغيمة\ وتأهبت لكي أضربها في عرض البحر”. كما تحضر بين كلمات القصيدة قصة موسى مع العبد الصالح: “كنا نمشي مثل صديقين\ولكنا منفصلان”. ويحرص الباحث على التأكيد على أن استيحاء القصص القرآني لم يجعل من الشاعر ناقلاً ولا مقلداً بل حافظ على ذاتيته وتفرّده.
يتجاوز عمر شبلي القصيدة متكئاً عليها لإثبات أن الفيوضات الإشراقية لا تختلف عن الفتوحات الروحية: “إنها تتجاوز العقل الذي لا يستطيع تحمّل وهج لهيبها”(41). من هنا ينطلق ليدرس نظريات الفلاسفة حول الشك وتساؤلات العقل. فبدأ بابن رشد ثم تناول نظرية ديكارت للخلاص من الشكّ عن طريق الفكر شارحاً مراحل فلسفته محاولاً المقارنة بين ارتباط الحق عند ديكارت بالبداهة وبين ارتباط الإشراق بالحقيقة الإلهية عند الرائي(41). فعند ديكارت تنتقل النفس من الشكّ إلى اليقين ثم تنتقل إلى الله وفي مرحلة ثالثة تهبط إلى العالم. وهو يقارن بين نظرية ديكارت وبين قصيدة “يوم الأحد الواقع فيه صمتي”.(42) ويستشهد أيضاً بفريدريك نيتشه الذي كان يحنّ إلى مصدر النور وبالغزالي الباحث عن المنقذ من الضلال(79).
يفرد عمر شبلي مساحة كبيرة في بحثه للشك الذي يعتبر أنه السبب الذي دعا الشاعر لخوض رحلته بحثاً عن الحق والحقيقة. وهو الرفيق الذي لازمه طوال فترة رحلته. هذا الشك يحمل عذاباً، ولم يبرأ الشاعر منه عن طريق تناسيه، أو “الغوص في أعماق ذوي الرغبات المدفونة” أو محاولة العشق… فكاد يصل إلى حدود اليأس. بالنسبة لعمر شبلي الشك دليل المعرفة والذكاء ويستشهد بقول “شوبنهاور”: “كلما كان الإنسان أقل ذكاء كان الوجود عنده أقلّ أسراراً”(42).
ولا يمكن دراسة الشكّ ومحاولة الوصول إلى اليقين المطلق دون التطرق إلى أبي العلاء المعرّي. وهذا ما قام به عمر شبلي عندما قارن بين معاناة المعري ومعاناة شمس الدين في كثافة ظلام الشك أثناء رحلته إلى “النور الغلّاب”.(43)
ومحنة الشك هي، حسب الباحث، ما دعا الشاعر لإهداء القصيدة لراء كبير هو أبو حامد الغزالي. وقد قارن بين شك الغزالي وفيوضاته وشك محمد علي في محاولة قطع المسافة بين الله والشك (61). فالغزالي يعتقد أن الإنسان المصنوع من حمأ مسنون لا يشفى من الشك إلا بنور يقذفه الله في صدره. وهنا تلفتنا ملاحظة لعمر شبلي ناقض فيها ما عرف عن اختلاف بين الغزالي وابن رشد. فالغزالي الذي انتقد الفلسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة” تعرّض هو أيضاً للنقد من قبل ابن رشد في “تهافت التهافت” و”فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، فكان المفكران نقيضين، لكن عمر شبلي رأى تلاقيهما فقال إن “فيض الغزالي لا يبعد كثيراً عن عقلانية ابن رشد الذي كان لا يرى تنافراً بين تساؤلات العقل وإشراق الإيمان”(41).
المقارنات مع كبار الرائين متعددة. برأي عمر شبلي يشترك الشاعر مع جلال الدين الرومي في كثير من الأمور منها أن “الزمن وهم” حيث يمكن اختصار سبعين سنة من العمر بخمس دقائق من أيام الرب. ويستشهد بمقولات جلال الدين الرومي عن “أذن الروح” و”أذن القلب”. وباعتقاد عمر شبلي، كما “أطلق شمس التبريزي جلال الدين الرومي من محدوديته ليصبح فانياً في عشقه الأكبر” و”جعله شاعراً رائياً”، فقد كان قلب محمد علي شمس الدين في رحلته إلى الله بمنزلة شمس التبريزي لجلال الدين الرومي(96). والشاعر، حسب الباحث، هو مثل ابن عربي يؤمن بوحدة الوجود من خلال اختياره ليوم الأحد كرمزية ليوم الربّ. وهو ما أفرد له الباحث مساحة كبيرة واعتبر أن القصيدة تقترب كثيراً بإشراقاتها من “الفتوحات المكية” لابن عربي(67). كما قارنه بالحلاج في التعبير عن قسوة المكابدة ومشقة تحمّلها وشهوة الموت التي تعادل شهوة الحياة نفسها(104).
لا يقلّ عمر شبلي عن محمد علي شمس الدين في نزوعه إلى الصوفية والعرفان، المغلّفين بأحاسيس مرهفة لشاعر بالفطرة. الرؤية عنده مطلوبة للإيمان مستشهداً بالحديث الشريف: “أُعبد الله كأنك تراه” وبقول جلال الدين الرومي: “لا تعبدوا حتى تروا”. الرؤية حسب عمر شبلي هي السبيل لإزالة الشك، وهي البرق الذي يشق ظلام الغيمة، وهي التي تحوّل الخوف إلى حبّ بفعل كيمياء الإيمان: “في البدء كان الحب”(75)
ويرى عمر شبلي أن محمد علي شمس الدين قد أضاف للفعل الإيماني في هذه القصيدة وأراد تأكيد أن الشعر في غايته لا يختلف عن النبوة، فكلاهما يغسل الروح ويجلو صدأها(85). ويؤكّد شبلي أن الشاعر قد برهن على أن “الشعر يستطيع أن يعالج أعمق الأفكار دون أن يتخلّى عن ألقه الجمالي الذي يعليه على الفلسفة، ويقرّبه من مفهوم الصلاة الوجدانية التي تخاطب الروح وتتقدّم على العقل”(88). ويعتبر أن ما تفرّد به محمد علي شمس الدين هو حفاظه على جمالية الشعر دون أن يطفئ العرفان. ويرى أنه نادراً ما عرف الشعر العربي عرفانياً كبيراً في شاعر كبير. لكن قصيدة “يوم الأحد…” هي لوحة تكامل فيها الشعر مع العرفان(89). وما يميّز محمد علي شمس الدين هو تفوّقه شعرياً على الصوفيين. فإذا كانت لغة هؤلاء حدسية برؤاها الداخلية، فإنها أصيبت بالنثرية أحياناً كثيرة(161).
يتطرق عمر شبلي في جزء كبير من دراسته لتأثير الحب والعشق على شعر محمد علي شمس الدين بصورة عامة وعلى القصيدة بالذات. لا بل هو يرى أن “العشق وحده هو لغة هذه القصيدة”(45). هو”عشق قاتل”(52) حيث “يسكب العمر كلّه في لحظة حبّ وقتل شهيين إلى حدود امّحاء الفواصل بين الحب والقتل”. ويتجلّى عمر شبلي شاعراً أكثر منه ناقداً في حديثه عن الحب والعشق. “في البدء كان الحب”. و”العشق هو إشراق الله فينا”(167). “الحرية والحب هما بقية الله فينا” وبالحب “يحمل القتل معنى الإحياء، لأنه انتقال من حال متدنية إلى أعلى… فحين يقتلك الحبيب يحييك”(104). ويستخدم عمر شبلي مع العشق كلمة “مكابدة” فيقول: “إن مكابدة العشق لذيذة كولادة الأم، وقاسية كولادتها أيضاً، وقطع المسافة فيه مشقة ولوعة وتحرق ومكابدة”(105).
العشق بالنسبة لعمر شبلي هو إشراق الله فينا(167)، ومعناه “السفر إلى الله ومحاولة الحلول في وحدة لا نقائض فيها”(109). ويستنتج أن العشق وحده هو الأساس في “النازلون على الريح” وما عداه هو توطئة له(109). “العشق يحمل سرّ الرؤيا… وهو وحده دين هذا الوجود”(110). و”لصعوبة رحلة العشق ولذّتها يكون العشق دائماً في نهاية الرحلة مصحوباً بالقتل الذي معناه الاقتراب أكثر من السدرة”(111). القتل في العشق هو تحرير الروح من ترابيتها(120). “إنه القتل المحيي الذي تصحبه لذّة الوصول إلى ذات الحبيب”(111). الحب هو مصالحة بين الجسد والمقدس(113). من هنا، “فالمرأة بداية رحلة الحب، وهي محطته الأولى، ثم تتسامى لتغدو الكون كلّه”(114). حتى الخوف ينسحب عند الوصول إلى حمى المحبوب(119)، “والأمن من الخوف أعلى درجات السعادة”(143). “الحب يمنع وصول الظلمات إلى الذات العاشقة، فالحب ضوء إذا سطع في وجدانك رأيت الله”(142)، فالله هو الجمال المطلق. يقول: “الجمال هو صفة الخالق العليا، وكل إبداعاته تتكوّن من الجمال”(127).
ومن العشق والحب لا بدّ من الوصول، حسب تعبير عمر شبلي، إلى “عصمة الجمال التي لا تخترقها الآثام… وأروع العشق هو القتل بأيدي الملاح”(121)، و”للجميل أن يعيش كما يريد”(123)، والعشق هو الضوء الذي يكشف الجمال(124). هذه الأمثلة التي وردت هي دون شك لسان حال عمر الشاعر لا عمر الناقد.
غزارة الثقافة عند الباحث أغنت الكتاب بشواهد عديدة من التراث العربي والعالمي. فبالإضافة إلى المتنبي الذي يكاد لا يغيب بين صفحات الكتاب، يستشهد بالنفري وبودلير وبدر شاكر السياب وايليا أبي ماضي والبحتري وأبي تمّام والجاحظ وجميل بن معمر وأبي النواس، ومالارميه، وبودلير، وقيس بن الملوح، وعمر أبي ريشة، ودستويفسكي، واوسكار وايلد، وألبرتو مورافيا، والبحتري وديك الجن الحمصي. ويقارن الباحث رحلة محمد علي شمس الدين برحلة “جلجامش” الذي حاول جاهداً الدخول في محفل الآلهة بحصوله على عشبة الحياة من أعماق مياه الموت العميقة(134). هذا الغنى والتنوع في الشواهد من الصعب والنادر أن تلقاه عند غيره من الباحثين.
وربما يمكننا أن نعزو هذا التنوع إلى ما نقله عن الشاعر نفسه من أن تكوينه لا يقتصر على ناحية معينة، بل هو مكوّن من روافد متباعدة. فمحمد علي شمس الدين يؤكّد أن من مكوّناته المتنبي، وشك أبي العلاء المعري، و”فتوحات” ابن عربي، وذاتية ديك الجن الحمصي، جبران خليل جبران، غارسيا لوركا، أنطونيو ماتشادو، الرسام سلفادور داللي. وهو لم يسمّهم مكوّنات بل الأسلاف ليقول إنهم “علّموه ولكنه لم يكنهم”(173).
العنوان نفسه كان له نصيب وافر من الدراسة، فيتساءل عمر شبلي عن السبب الذي جعل الشاعر يرفع كلمة يوم (المضاف إليها كلمة الأحد) على الابتداء. فالشاعر حسب رأي الأستاذ عمر أراد إبعاد الظرفية عن “الأحد” لأنها تلغي أزليته، و”المبتدأ يعني الأول ويعني المسند إليه فعل كل شيء، والأحد يعني الوحدانية”.
يقول عمر شبلي إن الغيوم في شعر محمد علي شمس الدين تستحق وحدها دراسة ذات إشارات ودلائل ويرى أنها تعني ظاهرة التشرد الذي يجتاح كيانه. وربما كان الغيم “أحلاماً تتكوّن من جديد كلما تلاشت، وربما كان تعبيراً عن هذا الشعر الذي يزجيه شكّ حاد”(163). وهو يركّز على معنى التشرّد في قول الشاعر: “شرّدني هذا الدوران”، فيشرح أن “هذا التشرّد مبعثه أن هذا الحب الكبير لا يمكن أن يتّسع له جسد واحد، فكان التشرّد غربة للبحث عن جسد يتّسع لكل حب…والتشرّد ضروري للتقصي”(131). “الشرود هو محاولة الإقامة في الآتي”، “ففي الإقامة كساد داخلي يشبه العقم”(138).
بعد فصل أول بعنوان “معارج الطين من الشك إلى اليقين”، ننتقل إلى فصل ثان يدرس فيه الباحث “حدسية الصياغة ووميض الرؤيا”، فيتناول اللغة الحدسية في شعر محمد علي شمس الدين التي تصيب القارئ “بلذة الوميض المتعدّد الدلالات”(146). ويشير إلى أن معظم شعر شمس الدين “يتكئ على صياغة حدسية لرؤيا”، و”الحدس، كما يقول، هو في حقيقته صيرورة تعتمد على إضاءة اللحظة وموت لمعانها بسرعة لأن العين لا تحتمل غزو البرق المستمر”. هذه اللحظة رغم قصر عمرها إلا أنها تمتلك عمراً أزلياً لا يدركه الفناء”(147).
ويشهد عمر شبلي على أن هذه الحدسية متولدة من “موهبة حاذقة” ومن “وجد صوفي متحدر من جنوبه الممتلئ بالدموع”(147). والحدس قد أعطى الشعر مدى لا يحدّ وأخرجه عن المألوف… وهو يحتاج إلى قدرة إيمائية عالية وإلى مهنية صياغية تحول هذا الحدس إلى كلمة. لكن الوقود المحرّك للحدسية هو العشق(150). “الحدس اكتشاف لأنه ضوء، وصاحبه راء بامتياز”(165).
والشاعر، كما يقول عمر شبلي، “يحمل همّا سياسياً بالحدسية” دون الوقوع في الآني في السياسة وفي غائيتها ومحدوديتها. هذه الحدسية هي التي حوّلت فلسطين في قصيدة “البرتقالة” إلى طائر مقدس فيه روح الله، وحوّلتها إلى برتقالة، وطفلة لم يدركها الهرم لتجدّدها في شهادة أطفالها(155).
وقد أفرد الباحث فصلاً مستقلاً لدراسة “التجربة والتراث في شعر محمد علي شمس الدين”. يقول إن الأثر القرآني واضح “كأجلى ما يكون في الرؤيا والمحتوى”، لكن شعر شمس الدين ابتعد عن النقل والاقتباس بل “امتزج بالتراث مزجاً إبداعياً”(168).
وبرأي عمر شبلي، فإنه برغم إعلان محمد علي شمس الدين أنه لم يكن يوماً ايديولوجياً فإن شعره يدلّ على ارتباطه بقضايا وطنه وأمته. فيقول شبلي عن الشاعر إنه “كان ايديولوجياً بمعنى انتمائه لأرض بعينها ولأمة بعينها، يناضل من أجل تحريرها ومن أجل ربطها بإنسانية تاريخاً ماضياً ومستقبلاً”(170). ويضيف أن “ليس هناك شاعر مبدع بلا باعث ايديولوجي”(171).
للشاعرين الكبيرين أبو الطيب المتنبي وحافظ الشيرازي مكانة خاصة في الكتاب الذي بين أيدينا. ففيه استحضار كثيف للمتنبي وإشارة إلى ما له من تأثير عميق في شعر كلا من عمر شبلي ومحمد علي شمس الدين . كيف لا وعمر قد حفظ شعره منذ نعومة أظفاره، وكرّس له دراسات نقديّة قيّمة وللمتنبي أيضاً تأثير كبير على محمد علي شمس الدين باعترافه هو وله قصيدة عنوانها “أبو الطيب المتنبي”.
أما حافظ الشيرازي، فقد قام عمر شبلي بترجمة شعره إلى العربية شعراً وهو ما يدلّ على مدى اهتمامه بهذا الشاعر العرفاني. وقد أفرد في الكتاب فصلاَ خاصاً للمقارنة بين الشيرازي وشمس الدين خاصة وأن هذا الأخير يعترف بأن الرؤيا الحافظية للكون جذبته إليها، لكنه أسّس عليها نصاً يخصّه، سمّاه “شيرازيات”.
يقول عمر شبلي إن هناك شاعرية عالية تجمع هذين الشاعرين بأبعادهما الروحية. فكلاهما له منحاه في الرؤيا ونقل الحال، لكن كلاهما يسير في رحلة باتجاه الله. “كلاهما طريقه قلبه، وكلاهما مؤمن بكونية الايمان، وكلاهما يؤمن بقوة السلام في صنع الأشياء الخالدة”(193). كلاهما متعلق بالمكان حتى العبادة: الجنوب للأول وشيراز للآخر. ويلتقي الشاعران في الحيرة التي تسبق الدخول في الحال. فالحيرة عند الشيرازي هي علاقة القلب العاشق وسرّ انجذابه إلى من يهوى. وحيرة محمد علي شمس الدين تتجلّى في تشرّده وشكّه.
ويبرز أيضاً نقاط الخلاف بينهما. فإذا كان حافظ قد استخدم التقية مع الغزاة، فقد كان محمد علي في طليعة المواجهة بشعره المقاوم. وقد كانت التكية هي المكان الإشراقي لدى حافظ، لأنه يتعامل فيها مع خمرة الروح. بينما كانت شرفة البيت عند محمد علي هي المكان لرؤية الفجر القادم بالنور والرؤيا.
والقسم الأخير من الكتاب كرّسه عمر شبلي للمقارنة بين هذه القصيدة وقصيدة آرثر رامبو “النهر السكران”. والحقيقة أن هذه المقارنة تدهش بكيفية التقاط الباحث نقاط التشابه بين قصيدتين متباعدتين إلى هذا الحد. فيرى أن القصيدتين هما رحلتان داخليتان باتجاه المطلق رغم اختلاف المشارب الداخلية، وهما تشتركان في “محاولة التقاط اليقظة المضيئة في ظلمات المعاناة”(225). كما تشتركان بالحدسية العالية وفي البحث عن طريق للخلاص من الضياع الناتج عن الشكّ المعذّب. في القصيدتين حضور عنيف للبحر الذي يرمز إلى ضياع الموانئ وإلى المعاناة والمكابدة. لكنه عند رامبو رحلة صاخبة لتجاوز مادية أوروبا… هو رحلة المطهر.
كلا الشاعرين ترك الطيور ترافق الرحلة المائية استبشاراً بانتصار فكرة الطوفان التي تغسل الأرض من أدرانها. لكن طيور محمد علي كانت طيوراً ابراهيمية لطمأنة القلب القلق، بينما كانت طيور رامبو من ذهب(237).
كلتا القصيدتين تدخل في الأدب الإشراقي. لكن رامبو كان تعبيراً مناقضاً لأوروبا التي كانت تعتنق العقل المفتقر لومضة الإيمان. فهي نقيضة روحه المشتعلة بلذّة السفر إلى الشرق الراقد تحت الشمس.
دراسة عمر شبلي أضاءت بحرفية عالية على لا نهائيات النص الإبداعي لمحمد علي شمس الدين، وأوضحت كيف استطاع الشاعر من خلال شحن الكلمة بإشارات يصعب حصرها، إخراجها من قاموسيتها. كما أوضحت الجوانب المتعددة للمعاني الإشراقية والفلسفية لهذه القصيدة العصية في كثافتها.
4 أيلول 2015