أركان النشوة الشعرية
في ديوان «الرؤية والرؤيا» للدكتور علي مهدي زيتون(*)
محمّد علي شمس الدين
(1)
الشعر ، وهو المعمّر كالإنسان الأوّل على الأرض، ينتابُهُ بعضَ الأحيان ، الإحساس بأنه منبوذ ، وأنه مدعو للانسحاب إلى طرف صحراء العصر ، ليموت هناك على الرمال تحت الشمس . فثمة ازدحام تكنولوجي واستهلاكي على القصيدة التي تظهر في لحظتها الراهنة ، كحمامة عالقة في شَرَك من الأسلاك . فدينُ القسوة والتوحّش المسيطر على جانحي الكرة الأرضيّة ، يَقْرُض مساحات كثيرة من القلب البشري ، ومن بينها الشعر ، مثلما تقرُضُ الأَرضَةُ خشب الموبيليا القديمة الجميل .
والمسألة ستكون بالنسبة لنا خطيرة ، لأنها تتعلّق بتطبيق افتراضات وفلسفات حديثة على الشعر . فقد وصلتنا الحداثة الشعرية متأخرة عمّا هي في الغرب ، لكنها وصلت وفعلت بعض فعلها في الكشف والقطع . والقصيدة كانت أهم مختبر للصراع والأشدّ خطورة ، لكونها (أي القصيدة) قلب العربي وعمقَه وفلسفته . وكان السؤال الخطير هو : هل يأكل الشعر نفسه أو بعضه ، وتأكله كائنات أخرى ، كما تأكل الكائنات بعضها البعض ؟
… لكأنّ المسألة صراع على الحياة نفسها ، على وجودنا أوّلاً ، وعلى كيفيّة هذا الوجود تالياً ، بمقدار ما هي صراع على القصيدة .
وكان الصراع معقوداً على طرف اللسان ، انعقاده في الشارع والمقهى والخندق ، وعلى بوابة الجامعة كما على بوابة فاطمة .
كأن ثمة لدى بعض الشعراء إحساس بضرورة الخراب ، وأكثر ، بضرورة التخريب بأية وسيلة أتت أو بأي معول يتناولونه …
كان ثمة إحساس آخر بأن الشاعر مجده في أن يكون منسياً . وبشعر اللا شعر … آخرون قالوا الشعر قرين الصمت أو الموت . ومهما يكن من ظلال الصحّة والحقيقة في هذا الاعتقاد أو ذاك ، كان ثمة أيضاً ، شاعر ممسوس باعتقاد الإحاطة بالأسرار والمعاني والقدرة على التقاط الذبذبات الخفيّة للأشياء وشفرات الحقائق . وثمّة ما يمنحه الحقّ بأن يكون إماماً . (حسناً) . نحن من الذين يعتقدون أنّ الشعر طاقة موجودة في جوهر المأساة وجوهر المعرفة (الفكرة) وفي زيت الآلة وجوده في طفرة نهد الفتاة وتفتّح غصن الحديقة .
ولعله موجود في ”حياة الحياة“ باستعارتنا لعنوان كتاب إدغار موران .
»Lavie de la vie« Edgard Morin
ذلك لا ينفي إحساساً بأقلوية الشعر في العالم وانحساره خائفاً أو مطروداً ، ولعثمته ، وتوسله بسواه من نثر وسينما ورواية . مَنْ يقرأ ماذا ؟ لكأنه ، اليوم ، يضيع في فسوخ إلكترونية مفتوحة للإرتجال والخِفّة .. أو لكأنّ عصر الإرتجال البدائي للشعر عاد بتقنية حديثة .. وعادت للتداول شنشنة قديمة كان الفلاسفة اليونان أطلقوها في عصر الثلاثي سقراط وأفلاطون وأرسطو تقول بهامشيّة الشعر بل ودونيته في بناء الجمهورية . يقول غلوكن مخاطباً سقراط في محاورات أفلاطون : تذكرني بأحجية التضاد التي تروى على الموائد للتسلية فتقول إن رجلاً وليس برجل رمى وما رمى طائراً وليس بطائر جاثماً وليس جاثماً على غصن وليس بغصن بحجر وليس بحجر للدلالة على الموجود والمفقود في وقت واحد .
يقولون اليوم (وفلسفياً أيضاً انطلاقاً من هيغل 1825) بموت وظيفي للشعر .. يتكوّم كثير من الغربان على جثته الذهبيّة . ولكنْ ، تقول لهم : بالرغم من هذا .. وفوق ذاك .. انظروا فثمة قصيدة أراها هنا تتلألأ . وتقول هي جميلة .
وتقول هي أما مكم . وتشير بإصبعك إليها… فينظر الأحمق إلى قدميه .
نعم «على شجرة المستقبل نبني عشنا ، وسوف تحمل لنا النسور نحن المتوحدين ، طعاماً في مناقيرها»(*) .
في هذا الانسداد الفلسفي والاستهلاكي للقصيدة ، نفتح ثغرةً ليعبر منها الشعر في جدار الزمن .. ففي فلسفة علوم ما بعد الحداثة ، تدخّلت العلوم تدخلاً قوياً في افتراضات وأسئلة غيبية وتقول هي أما مكم . وتشير بإصبعك إليها… فينظر الأحمق إلى قدميه .
نعم «على شجرة المستقبل نبني عشنا ، وسوف تحمل لنا النسور نحن المتوحدين ، طعاماً في مناقيرها»(*) .
(2)
في هذا الانسداد الفلسفي والاستهلاكي للقصيدة ، نفتح ثغرةً ليعبر منها الشعر في جدار الزمن .. ففي فلسفة علوم ما بعد الحداثة ، تدخّلت العلوم تدخلاً قوياً في افتراضات وأسئلة غيبية كانت في الماضي من شأن الفيلسوف والشاعر أكثر مما هي من شأن عالم الفيزياء وعالم الكيمياء والرياضيات . أعني بذلك ، اليوم ، منطقَ الكوانتوم مثلاً ، واللاحتمية والاحتمالية ، وهو ما يطلق عليه تسمية «المنطق الضبابي» الذي على أساسه توضع الافتراضات العلمية لرحلات الفضاء والأسلحة المتطورة وأدق العمليات الطبيّة . وقد فسّــــــــــــــــــــــــــــــر ”دافيد رويل“ في كتابه ”مصادفة وكاوس“ (David Ruelle , Hasard et chaos , Points odile jacob 1991 ) .
مسألة الخلل في النظام ، والاحتمالات . هنا نعثر على معبر معاصر للشعر باعتباره احتمالات الكلام حين يتآلف أو يفترق وما يتشكّل منه من تشكيلات إبداعية . يقول صلاح عبد الصبور «كيف أجنّ /كي ألمس نبضا ؛ به الكون المختلّ» .
المعبرُ الآخر للشعر ، أتى في العصور المدنية ، عن طريق النصّ الصوفي وهو نصّ شرقي قرآني بامتياز . وليس بعيداً أن يكون هيدغر في كتابه حول ”هلدرلن“ :
M. Heiddeger , A L’aproche de Hôlderlin , Gallimard 1967 قد تأثر بالنصّ الصوفي الإسلامي كما تأثّر به ”غوته“، وأنّ روحاً إسلامية عامّة تشيع في نصوص شعراء الرومانسية الصوفيّة الألمان مثل نوفاليس وريلكه وهلدرلن . هيدغر يؤمن بالميتافيزيك وباللغة من حيث هي بيت الكائن و(الشاعر)، وقد سبقه لذلك محي الدين بن عربي ( 560 هـ ـ 638 هـ / 1164م ـ 1240م) وجملة من المتصوفة الإسلاميين كالحلاّج صاحب ”الطواسين“ ، والسهروردي صاحب ”الغربة الغربية“ . وذلك من خلال مغامرات حاولت المصالحة بين الرموز القرآنية في حروف مطالع بعض الآيات المتشابهات والقصص القرآني بما فيه من غرابة كقصة موسى والخضر ويوسف والبئر وحوت يونس … الخ . لقد استلهموا المفاتيح الحروفية الموسيقية الغامضة لبعض السُوَر مثل آل ، وقاف وكـ هـ ي ع ص … وما أدراكَ ما هيه … وبثوا قلقهم الميتافيزيكي تجاه حروف الغيب هذه ومفاتيحه . وروح الشعر لا تخرج عن مثل هذا القلق الموجود في قلب الشاعر تجاه المجهول … وأدّت هذه المغامرة لدى شعراء المتصوّفة إلى الشطح والكشف والتأويل ، ما جعلها من أخطر المغامرات في التاريخ الإسلامي وفي التاريخ البشري ، وقد انتهت أحياناً مخضبة بالدم ، أو بالصلب ، ومحفوفة بالجنون .
يكفي أن نعرف مثلاً أنّ ”طواسين“ الحلاّج ، ما هي سوى شطحاته المنسوجة حول بعض السور التي مطلعها ط س (النمل) أو ط س م (الشعراء) . ومن أجمل اللقياوات ما ذكره ابن عربي ، الأندلسي المولد ، الدمشقي القبر (عند جبل قاسيون) من أنه «عقد قرانه على نجوم السماء» وهو القائل بـ ”روح الأشياء“( ) والمتخيل معراجاً صوفياً يوصله إلى حيث ”النور في النور“( ) .
يكفي أن نعرف مثلاً أنّ ”طواسين“ الحلاّج ، ما هي سوى شطحاته المنسوجة حول بعض السور التي مطلعها ط س (النمل) أو ط س م (الشعراء) . ومن أجمل اللقياوات ما ذكره ابن عربي ، الأندلسي المولد ، الدمشقي القبر (عند جبل قاسيون) من أنه «عقد قرانه على نجوم السماء» وهو القائل بـ ”روح الأشياء“( ) والمتخيل معراجاً صوفياً يوصله إلى حيث ”النور في النور“( ) .
وبرغم أنّ أحوال الصوفية (على العموم) أهم وأقوى من أشعارهم ، إلاّ أنهم انتبهوا لأبعاد اللغة الرامزة في القرآن ، باعتبار الرمز الخصب أصلاً من أصول الشعر العميقة وباعتبار مخزن الأسرار القرآني هو مستودعُ الغيب الذي منه ينطلق الدين كما ينطلق الشعر .
(3)
يبثّ الدكتور علي مهدي زيتون ، النشوة الصوفية في جسد الشعر . والنشوة الصوفية هي حالة من الانخطاف الروحي يصبح فيها الجسد آلة للصوت ، مثلما هي الآلات الموسيقية بالنسبة للحن . وأكثر ما يقدّم لنا هذه النشوة ، الرقصّ الديني سواء حصل هذا الرقص في معبد الآلهة (الوثني) أو في حلقة من حلقات الذكر . فمن يحضر حلقات المدّاح النبوي المصري الشيخ أحمد التوني ، الذي لقّب بسلطان الأرواح ، وتوفي في أواخر العام الماضي (2014) في القاهرة ، يرى أنه خلال إنشاده المدائح النبوية يشتدّ به الوجد والدوران إلى حدّ الذهول والغيبوبة أو السكرة الروحية والغنج في الصوت حتى أنه تعلو أصوات حيوانات كالخراف أو طيور، في صوته على خلفيّة فوضى موسيقية شاملة … لكأنه يتذكّر الجنّة أو يذكّرنا بها وهو يقول : «يللي دخلتِ الجنينه إيه طعمةِ الرّمان»(*) .
وهذه المسألة على ما نرى، أي نشوة التقاء الغناء والشعر والرقص هي موصولة بطقوس بدائية من السحر أو بطقوس من الغيب الديني ، وهي الينابيع العميقة للشعر .
حين نقرأ المقطع التالي للدكتور زيتون ، من قصيدة ”زينب“ من ديوانه ”الرؤية والرؤيا“ : «أبكاني ما أبكاني / وسمعتُ ثغاءً أبكاني / أبكتني الحالُ ولم أصرُخْ / والروح تقولُ تعالْ / أبكاني أنّ العشق شبابيكُ الأعنابْ/ ومناسكهُ ظهراً أغلقت الأبوابْ / يكبرني الهمّ بصوتٍ / أفلتَ من خيمتها في غَلَسِ الليل وناداني/ يكبرني بالغائب والشاهد من أشجاني» .
… حين نقرأ هذا المقطع ، يأخذنا الوجد وكأنّنا في حضرة منشد ديني ، وننتبه لأول وهلة للإيقاع . والإيقاع هو حركات وأصوات وصُوَر تتآلف منها إيحاءات المعنى . سرّه هو سرّ الشعر نفسه . كثيرون حاولوا تحديد الإيقاع لكنهم انتهوا إلى ما يشبه الطلسم . فهو ، وإن كان فيه وزن ، إلاّ أنه غير الوزن . وهو ، وإن كان ينبعث مما يشبه آلات موسيقية تدخل في حوار فيما بينها (أو سجال) إلاّ أنه يطرح سؤالاً جوهرياً حول علاقة الآلات الموسيقية بالأصوات وصلة الأصوات بالموسيقى . إنّ السوناتا وإن كانت تطلع في الكمان أو البيانو ، إلاّ أنها غير الكمان والبيانو . سنصل هنا إلى الأماكن الخطيرة في الفن ، في الموسيقى والشعر بخاصة ، فنقول إن الفن ليس سوى روح الفنّ . والإيقاع ليس سوى ذلك . أمر أقرب ما يكون إلى ”حياة الحياة“ (عند إدغار موران) وإلى ”النور في النور“ و”سرّ الأشياء“ (عند ابن عربي) . جاء في الذكر الحكيم مفردة ”أوّاب“ . أيوّب في شكواه ، أوّاب . المصلّي في غلس الليل ، في تهجّده ، أوّاب . الحَمَامُ عند الصباح أوّاب الراقص في الحلقة أوّاب إنه شيء حائر بين الكلام والصمت بين الحركة والسكون ، أشبه ما يكون بالتنهّد . هذا هو إيقاع الشعر .
ويلعب فيه الرجوع الصوتي أو الترجيع دوراً . لكنه ترجيع خافت وداخلي أكثر مما هو إعلاني . يقول أوكتافيو باث Octavui Paz «القصيدة هي المحارة التي تتكلم فيها موسيقى العالم ، وما القوافي والأوزان إلاّ ترددات وأصداء لهذه الهارمونية الكونية»( ) .
بالعودة إلى المقطع السابق نلاحظ أن الرجوع الصوتي أو الترجيع هو لحمة وسُدى النص . الترجيع نسمعُهُ في العطف التكراري لأبكاني على ما أبكاني لخمس مرات على التوالي . هنا يغدو البكاء أقرب إلى النشيج ، لكنه نشيج داخلي أقرب إلى النزيف الصامت . يرشح ذلك من اقترانه بالحال ، وقرينتهُ عدم الصراخ ”لم أصرخ“ . بعد الحال مباشرة يأتي نداء الروح ”والروح تقول تعالْ“ . والحال والروح كلاهما من أمر الغيب . ثم يتبيّن أنّ المسألة بكاملها ، مهما تبدلت الأحوال من بكاء وشجن وهمس وعَلَن … المسألة بكاملها هي في العشق .
وما حرّك العشق أو أثَاره ، كما تحرّكُ الريحُ جَمْرَ الموقد ، هو ”صوت أفلت من خيمتها في غلس الليل وناداني“ … صوت مُحدَث هو شبيه بنقر حبات المطر على النافذة . فَعِلُنْ فعلن فعلن .
سأحاول أن أرسم طريقاً لهذا المقطع ، وأن أضعه في مجرى نصوص الديوان . فهو يقدّم ضوءًا يقود إلى سبب القصيدة . سيما أنّ القصائد مختصرة وكثيفة وتحيط بها ظلال تكاد تجعل منها مسارب داخلية لمياه سرّية أو للكلام غير المباح … كلام انتظر الشاعر ستين عاماً وأكثر ليبوح به في القصائد ، فباح به على تردّد ، أو على خوف ورغبة في أنّ هذه الأسرار ، يليق بها أن تبقى في مكانها الخفي أو المستور، فإذا غلب البوح ، وآثرتِ القصيدةُ دور الظهور على دور الخفاء ، فليكن ظهورها خفياً إذا صحّت العبارة، وليكن ما تخفيه أكثر مما تبديه . وعلى تردد يكاد يصل إلى اللعثمة أو الحيرة ”ياتي لا يأتي ـ يقضي لا يقضي ـ تشرق لا تشرق … النبع قريب النبع بعيد“ … الخ . نحن أما شعر على خَفَر .
في الزمن الداخلي للمقطع كما لأكثر القصائد ، شمس داخلية اسمُها ”زينب“ . وأرجّح أنّ ”زينب“ هي حالة حقيقيّة أكثر مما هي حالة افتراضيّة أو بنت الوهم . ”زينب“ هي فتاة التقاها الشاعر بالفعل ، نظر إليها ونظرت إليه ، وخاطبها وخاطبته ، وأحبها حباً سرياً طويلاً ، وتردد كثيراً وهو يبوح بهذا العشق للقصائد . هذا ما أسلمتنيه إشارات القصائد أو ما أزعمه .
ذلك لا يمنع من أنّ ”زينب“ القصيدة ، هي ”زينب“ المجاز ، وأنها لا تشبه إلاّ نفسها بحكم كونها مجازاً أو شعراً ، وأنّ ”زينب“ الحقيقية ، وما شابَهَ اسمها من زينبات … أو ”سعدى“ أو ”رقيّة“ ، هُنّ نساء الواقع اللواتي ما إنْ يدخلنَ إلى بيت القصيدة حتى يصبحن سواهُنّ .. يصبحن بناتِ الخيال . فالشعرُ هو أناشيد طائر الخيال . والعلاقة بين الواقع والقصيدة هي العلاقة بين الحقيقة والمجاز ، فالقصيدة تبدأ من حيث ينتهي الواقع والمجاز يبدأ من حيث تنتهي الحقيقة . وهذا العبور (أو المجاز) من هنا إلى هناك عليه دلائل . فإنه تتكوّن حول الشمس الداخلية التي هي ”زينب“ هالات تتسع وتتسع كالدوائر ، لتشمل جميع قصائد الديوان .
وجدتُ على باب الديوان اسماً فتبعته ، وكانت ”زينب“ ولها ضحكة ، وهذه الضحكة أخذتني من يدي إلى سبب القصيدة . فالشاعر ، وهو عبدالله ، يتفاجأ من أوّل الشوط ، ”بالخوف / السيف“ وبزينب ، يذكرها مباشرةً بعد الخوف / السيف . وها هو صوت يناديه «يا عبد الله تأدبْ / قد قاربت الستينَ ولم تعقُلْ»( ) وكأنه شبيه بالصوت الإلهي ينادي موسى بجانب الطور «اخلع نعليك فإنك في الوادي المقدّس طوى» .
سنلاحظ أنه ، كما أنّ موسى قبل النداء هو غيره موسى بعد النداء ، فإنّ الشاعر بعد النداء هو غيره الشاعر قبل النداء . فسيرة الدكتور زيتون المعروفة ، أو المكشوفة ، هي أنه أستاذ جامعي وباحث أكاديمي في الشعر وقضاياه . لكنه الآن ، هو الشاعر، فكأنه من طول تمرسه بالقصيدة ، صار التجسيد الحيّ لقول أبي الطيّب المتنبي :
« ما لنا كلنا جوٍ يا رسولُ أنا أهوى وقلبُكَ المتبولُ »
وسنلاحظ أنّ سبب القصيدة ، ليس القصيدة بذاتها ، بل هناك شيء أكثر عمقاً وغوراً ، كان يفعل فعله السرّي في داخل الشاعر، على امتداد ستين عاماً وأكثر ، أخرجه أخيراً عن صمته ، وأنطقه بالشعر وكأنه من فعل الجنون . هذا الشيء هو العشق . وكلا الشعر والعشق لديه ، موضوع على نار هادئة قديمة وسريّة . ما بين مقطع «أبكاني ما أبكاني …» ومقطع «قاربتَ الستينَ ولم تعقُلْ» أواصر وعلامات لا بُدّ من الوقوف عندها . فمن خلال التجوال في القصائد ، تسلمنا ”زينب“ إلى ”سعدى“ أحياناً ، وإلى ”رقيّة“ أحياناً أخرى ، وتحضر في الثنايا ”عائشة“ حبيبة عمر الخيّام الميتة في ”نيسابور“ والتي يبعثُها حيّةً بعد الموت ، عبد الوهاب البياتي في ”بستان عائشة“ . مرةً واحدة تحضر وفيقة وشباكها في القرية مع بدر شاكر السيّاب . مع هذه النساء تحضر الأماكن : غزّة سعدى ، ورُقيّة في الرّي (ماذا يجري في بستانِ رقيّة ؟ )، و”وفيقةُ“ في جيكور ، و”عائشة“ في نيسابور . لكنْ ”زينب“ تحضر في كل الأماكن والأزمنة والأسماء . تحضر في تحوّل الأحوال وتقيم في مقام العشق . ”زينب حال يسعى الصوفي لتدركه / ومقام يتمنّى الصوفي السكنى فيه“( ) ..
«أقسم يا زينب أنّ العشق تدلّى عنقوداً من دالية العمر / أقسم يا زينبْ / أنّ الأمرْ / أنتِ ..»( ) . وما بين أول ظهور لزينب وآخر ظهور لها ، مسافة زمانية متراخية الأطراف ، يردمها الشاعر بالشعر . والحركة داخلية . إنّه يرتدّ إلى سُدُمٍ ، فيلقى سدماً فيها . وفي هذه السدم تبزغ زينب لتغيب ثم تبزغ من جديد وهكذا في حركة لا تنتهي ويخيّل إليك أنها لا تبدأ . وفي هذا الدوران الموجع يتقدّم نصّ الحيرة لدى الشاعر على أيّة حركة أخرى . ويتقدّم في قصيدة ”الريّ“ (وهي ضاحية من ضواحي طهران ، كانت عاصمة إيران يوم كانت طهران قرية صغيرة ـ غالباً ما يقرنها الشاعر برقيّة ـ .. يتقدّم نحو المنابع الموحشة للحال، بل المخيفة «فاخفض صوتَكَ كي يُقبَلَ طوتُك / … .. لا يقبلُ في بر الريّ / طهراً في هذا النهر / لا يُقبَلُ فيه إلاّ أن تصبح أنتَ المجرى … / … ما أقربَ أن تنأى … / وأضعتَ الريّ ؟ / … أنتَ التائه عن مجراكَ ولم تصر المجرى». إنه سلوك صوفي خالص للسالك في أحواله ومراحله وأزمنته .
ولعلّه على قاب قوسين أو أدنى من حال الوصول ومن ثَمّ المحو ، أو اندراج النهر في مجراه اندراجاً تاماً لكي يصير النهر هو المجرى .
ولعلّ الشاعر يمرّ في أزمنة كثيرة وأحوال متعددة ومقلقة في طريق عشقه ، الدامي ، بل لعلّه يبحث عن طريق للطريقة . وينتقل من باب الصبر إلى باب الانتظار وإلى باب النجوى، ويتأرجح على حبال العمر والرغبة ، ويكابد في هذه القصائد من العشق ما لا يكاد يحتمله قلب بشري . لكنْ ، هل ثمة عشق بلا أنثى ؟ وما هي الأنثى هنا ؟ هي كل أسمائها المذكورة في النصوص ، وهي أسماء أخرى لم تذكر .. وهي ”زينب“ . «فلسانُ الأنثى البالغُ أقصى القلب / لسان الأرض لسان الشمسِ / لسانُ الغيب»( ) « زينب نور العينين / والدرب تشير إلى زينبْ»( ) … … .
في هذه المكابدات العشقيّة ، ترى الشاعر وكأنه يضرب على مقام النوى ويحرر الشعر من الضوضاء ، وهو في مكابداته وفي أحاديثه الخفيّة مع نفسه يلامس الأسماء والحوادث والأمكنة بحذر ، ومن خلال قصيدة ”صوت“( ) تعرف سرّية هذا الرجل . الكلمة التي تتردد بين قلبه وشفتيه أشبه بعصفور خائف . إنّ الزمانية في قصائد علي مهدي زيتون ، هي ذات مفهوم ديني صوفي أكثر مما هي ذات مفهوم فيزيائي . وهي في بعض المواقع زمانية حكائية من خلال إيقاع أو رِقّ السرد الموقّع في أغلبه على المتدارك المُحدَث ، ويجنح أحياناً بحريّة نحو البسيط . أو نحو إخباريّة الوزن الطويل «أوَ ذاكر طفلين كنّا مرةً بحديقةٍ كنا صغاراً / آهِ من لغة الصغارْ / بل نحن كنا نطفتينْ / في رحلة اللثغِ المحيّر والسِرارْ ..» ( ).
الشاعر يقول «إنّ الوقت متاع زائل»( ) لكنه ينحاز إلى زمانية الأنفس أو الأعماق ، إلى الزمان الداخلي الخصب ، زمان العشق ، وزمان الرؤيا والإسراء والمعراج . وهذا الزمان يستطيع أن يكون حديثاً بامتياز ، يقول غوستاف يونغ «الشمس الداخلية صورة للإله» ، بل لعلّ هنا في عمق الذات ، يكمن ما يعبّر عنه نوفاليس بقوله «أنا الأنا» «le je de son je» وهي في الوقت عينه أنا الهُوَ أي الله .
لكنّ المسألة ليست بمثل هذا الإعلان أو البساطة : أن تقول «الله» وتقفل الستارة . القصيدة أكثر مكراً وتطلباً وحرفةً من ذلك . بل لعلّ أجمل ما فيها هي هذه المراوغة بالذات.. وأحوال الستر والكتمان والاستبدال فيها ، هي أحوال العشق التي ينشغل الشعر بها ، ومنها أو حولها تولد العبارة . ولم تسمّ العبارة باسمها إلاّ لأنها تعبر من مكان لآخر ، أو المجاز مجازاً إلاّ لأنهُ يجوز من حال لحال آخر . ففي العودة إلى مقطع «أبكاني ما أبكاني …» يمكن الوقوف عند جملتين : الأولى «وسمعتُ ثغاءً أبكاني» والثانية «صوت أفلت من خيمتها في غَلَس الليل وناداني» . المذكور نصاً في عنوان القصيدة هو اسم ”زينب“ لكنّ الحال حال بدويّة .. وذلك من خلال «وسمعتُ ثغاءً» و«صوت أفلت من خيمتها..» فالثغاء هو ثغاء الخرفان في الريف أو الصحراء لكنّ الخيمة بدويّة . مباشرةً تحملنا العبارة إلى ليلى والمجنون . وإلى النداء الغامض الذي ترسله ليلى (الحكاية) إلى المجنون ، ليتبعها أو يهيم بها في بادية العشق .. فإذا أضفنا إلى ذلك ، تلك الإشارة إلى عدم تعقّل عبدالله ، أو الشاعر ، في قوله «يا عبدالله تأدّبْ / قد جاوزتَ الستين ولم تعقُلْ» … ثَمّ تمثّل حال من أحوال عشق المجنون ، الذي أسسته من ألف عام ، الحكاية العربية ، أو الأسطورة ، وغدت فيه ”ليلى“ رمز المرأة المعشوقة المعبودة ، وقيس السالك إليها طريق الدم والجنون رمز العاشق المتخطّي حدود العقل وحدود الكفر والإيمان يقول مجنون بني عامر :
« … أعدّ الليالي ليلةً بعد ليلةٍ
أراني إذا صليت يممت نحوها
وقد عشت دهراً لا أعدّ اللياليا
بوجهي وإن كان المصلّى ورائيا»
يقول فريد الدين العطّار النيسابوري في منطق الطير «العشق نار هناك أما العقلُ فدخان»… «أي عمل هذا الذي تفعله ؟ كالرجال تقدّمْ وأحرق العقل وكالمجنون تقدّم»( ) .
ولعلّ الدكتور علي مهدي زيتون ، حين قال في قصيدة ”هاء زينب“ : «جاءت زينب كي توقظ فيّ الشعر / كي توقظ أشعاراً ما زالت في أكمام معانيها» أشار بإصبعه إلى صدره وقال «هنا كل الحكاية» .
بيروت 5/4/2015
د. محمد علي شمس الدين