د. علي مهدي زيتون
ترتبط كلمات أيّ لغة من اللغات ، عامّة ، بسلّم القيم الذي يحكم حياة المجتمع الذي نشأت فيه تلك اللغة. وشقيقات كلمة ( مقاومة ) في العربيّة تحدونا بهذا الاتجاه . فكلمة (القيام) تعني النهوض والعزم ، و(القوامُ) العدلَ ، و(قاموا) عزموا ووقفوا وثبتوا في مكانهم، والفعل (قاوم) صبر ونازل الظالم .
وتشير هذه الحصيلة إلى أنّ كلمة ( مقاومة ) كلمةٌ مفعمة بالوقوف والعزم والعدل والثبات والصبر ومنازلة الظالم. ولذلك فإنّ (المقاومة) في لغتنا غير قابلة للترجمة ، من خلال كلمة واحدة ، إلى أيّ لغة أخرى من لغات العالم .فهي غير منفكّة ،كمقاومتنا ، عن القيود الأخلاقيّة التي تحيط بها . شرطُ المقاومة أن تكون فعلَ معتدًى عليه في مواجهة ظالميه . ولا يصبح المعتدى عليه مقاوما إلّا إذا وقف وعزم وثبت وصبر تحقيقا للعدل.
ولا تنفصل ثقافة المقاومة عن سلّم القيم الذي يحكم المقاومة . فهي ثقافة مقيّدة بقيم أخلاقيّة تمنعها ، حين تحقّق أهدافها ، من أن تتعدّى تلك الأهداف إلى أن تمارس أيّ نوع من أنواع الظلم. ولكي نتعرّف أبعاد مقاومتنا وأهدافها القريبة والبعيدة ، وبالتالي ثقافة هذه المقاومة ، معرفة علميّة ، علينا أن ننطلق من الأيديولوجيا الغربيّة ، وما أنتجته من سلوك سياسيّ وعسكريّ واقتصاديّ وبالتالي عنصريّ. فمعرفة العدوّ معرفة بما يترتّب علينا أن نقوم به .
وإذا كانت الثقافة عامّة ذات عمق معرفيّ يتوزّع على جميع حقول المعرفة من اللغة والأدب إلى السياسة والمجتمع والنفس والتاريخ والفلسفة، فإنّ الأيديولوجيا هي توظيف تلك الثقافة في خدمة أهدافها .
وممّا يجدر ذكره أنّ الحداثة التي حكمت الثقافة الغربيّة منذ أواخر القرن الثامن عشر، قد قامت على سلطة العقل العلميّ التي انتقلت بجميع الدراسات الموزّعة على جميع الحقول المعرفيّة لتصبح علوما ، حتّى الفلسفة أصبحت ،مع الماركسيّة، فلسفة علميّة . ولقد استطاع الغرب ،
وبقوّة العقل العلميّ أن يبني أقصى قوّته . وجاء الغرب الاستعماريّ ليسخّر هذه الثقافة وفائضَ القوّة الذي أترعته به هذه الثقافة في سبيل الهيمنة على المجتمعات الأخرى ، ومنها مجتمعنا .
استباح هذا الغرب بلادنا، فأمسك بخيراتها ، وجعلها سوقا استهلاكيّة لمنتجات مصانعه . وإذا قاومنا ،حسب طبيعة الأمور، وجوده العسكريّ المباشر فوق أرضنا ، في مطلع القرن المنصرم،إلتفّ على مفاعيل تلك المقاومة باتفاقيّة سايكس- بيكو التي جزّأت بلادَنا مسوخَ دولٍ،
وسلّطت على تلك المسوخ حكّاما مرتبطين بالغرب ارتباط مصالح مكّنت للضعف والتخلّف أن يصبحا سمتنا الحاضرة . ولم تشفِ تلك الاتفاقيّة المشؤومة غليل الغرب في التحكّم بمقدّراتنا . زرع إسرائيل في فلسطين كيانا وظيفيّا مهمّته الأولى الإبقاء على تخلّفنا ووهننا .
وإذا وظّفت أيديولوجيا الغرب الاستعماريّة الحداثةَ توظيفا ناجزا بما يخدم المصالح الغربيّة ، أطلّت علينا بما بعد الحداثة التفكيكيّة التي تقول إنّ العقل ليس مرجعا صالحا لتحديد الخطأ من الصواب ، وإنّ الحقيقة مجرّد وجهة نظرٍ. وحين تكون الحقيقة ،وفاق المقياس التفكيكي ، وجهة نظر ، يعني أنّها وجهة نظر القويّ الغربيّ ومن ورائه الاسرائيليّ.ومع التفكيكيّة صارت الأيديولوجيا الغربيّة متعدّدة الأذرع الثقافيّة . فهي أسطوريّة في تعاملها مع مجتمعاتها تزيّن لها الرأسماليّة ، حاثيّة مع نفسها تتعامل في فهمها لذاتها وللمجتمعات الأخرى من خلال العقل العلمي ، تفكيكيّة في تعاملها معنا . وفلسطين يحدّد وجهَها القويّان الغربيُّ والاسرائيليّ.
وإذا كان هذا هو مدى ثقافة الظالم العالميّ ، هذه الأيّام ، فإنّه يوجب علينا أن نمتلك معرفة بالأيديولوحيا الغربيّة حداثيّة كانت أم تفكيكيّة ؛ لكي نستطيع مواجهتها . فامتلاك معرفة بهذا الخصوص كفيل بتمكيننا من امتلاك تصوّر علميّ عن مجتمع المقاومة النموذجيّ ، ومن امتلاك ثقافة حقوقيّة واعية منبثقة من مضادّات الايديولوجيا الغربيّة ، وكذلك ما يتعلّق بالحقول المعرفيّة الأخرى .
ويبقى أنّه ، وإن كانت ثقافتنا كمقاومتنا في موقع ردّة الفعل لا مباشرة الفعل ،فلأنّنا مكثنا ما يقارب الخمسة قرون في موقع المقموع المعتدى عليه . وهذا ما حال دون أن ننتج ثقافتنا الخاصّة ، وبالتالي قوّتَنا . ومؤتمرنا هذا إنّما يهدف ، من بين ما يهدف إليه ، أن يحرّك الساكن الثقافيّ . هذا التحريك الذي يمكنه أن يوصلنا ، في مرحلة ما، إلى معرفة بذاتنا تمكّننا من العمل على تأهيل مجتمعنا للمقاومة المطلوبة . فالدرب طويل وشائك، وحضور داعش خير دليل على الصعوبات التي تعترض طريق تحقّقنا وحضورنا .
وإذا كان عدوّنا لا يفتأ يشنّ علينا حروبا عسكريّة متعدّدة الأوجه والمرامي والأدوات والأسماء والمفاعيل ، فإنّه حين تعوزه الحرب العسكريّة في مكان من الأمكنة يلجأ إلى الحرب الناعمة التي يشنّها إعلاميّا واقتصاديّا واجتماعيّا ونفسيّا قصد تقويض إرادتنا المقاومة المتمثّلة بالمقاومة الاسلاميّة في لبنان ، والمقاومة الباسلة في فلسطين . وبقدر ما يستخدم هذا العدوّ الغاشم من وسائل ، علينا أن نواجهه بوسائل مضادّة وصولا إلى فرض خروجه من فلسطين ومن بعض البلدان العربيّة والاسلاميّة التي تلبّس فيها لبوس أهلها .