قولٌ في الحداثة وما بعد الحداثة
طفلٌ غزاّوي يُحْيى الله
د. فؤاد خليل
1- في العلاقة مع المفهوم.
درج الفكر العربي في تعامله مع المفاهيم الغربية ان يتحرّك وفاق ثلاث رؤى:
أ- انبهار من المفهوم لكونه يصدر عن مركز الحضارة العالمية، ما يوجب استنساخه او نقله كما هو وبالتالي اسقاطه على مجتمعنا لما يشتمل عليه في ظنّ الناسخ، من صلاحية معرفية ونظرية تجيب عن مشكلاتنا وتجبْه تأخرّنا وتخلّفنا وتضعنا على سكّة التقدم، ومن ثمّ تؤهلنا للدخول الى العصر. وقد حمل تلك الرؤية باسم كونية المفهوم، الليبرالي([1]) واليساري([2]) وان بأقدار متفاوتة فيما بينهما…
ب- رفض المفهوم بسبب طابعه الغربي. وهو طابع يؤدي في المنطق الرفضي الى التغريب الفكري والثقافي الذي يفتئت على اصالتنا ويطيح بتراثنا “وبمجدنا التليد”!، ويُهدر هويتنا الثقافية والحضارية. وهذه الرؤية تستقي متنها المعرفي من مقولات الطبيعة البشرية الثابتة والجوهرانية بحيث بغدو في ظلها الشرق شرقاً والغرب غرباً من دون ان يلتقيا([3]) او يتآنسا حضارياً. وقد تبدى رفضها باسم طبيعتنا الجوهرانية في الفكر السلفي المتشدد([4]) قديماً وحديثاً…
ج- انتقاء في العلاقة مع المفهوم، او للدقة الفصل بين جانبين فيه: الجانب المادي او التقني، والجانب الفكري والثقافي. وتفيد الانتقائية هنا، ان ما يصلح نقله الى بلادنا هو الجانب الاول اي التقني والتكنولوجي ذلك انه حيادي لا ينطبع بهوية مخصوصة. اما الجانب الثاني، فننتقي منه او نختار ما يلائم خصوصيتنا التاريخية والثقافية، ونطرح جانباً ما يتعارض معها نظرياً او يناقض نظام تفكيرنا في النظر الى شؤون الكون والانسان والمجتمع. وقد تمثلت رؤية الانتقاء باسم الحفاظ على الخصوصية في الفكر التوفيقي، لدى السلفي([5]) المعتدل، والديني([6]) الاصلاحي والقومي([7]) العربي ، وإن تباينت منطلقات هؤلاء في النظر الى فعل الانتقاء وطبيعة الخصوصية.
2- في علمية المفهوم:
تدل الرؤى أعلاه بعد إمعان نظر، انها تعاملت مع المفهوم على نحو اختزالي وضع اصحابها خارج عتبة العلم. كيف؟ ولماذا؟.
إن كل مفهوم اياً يكن مجاله المجتمعي يحمل في معنى علمي له وجهين: “وجه كوني([8]) يتعدى الشروط المجتمعية والتاريخية التي انتجته، ووجه محلي يرتبط بالشروط التي استولدته”. والوجهان متلازمان بنيوياً بحيث لا يمكن فصل احدهما عن الآخرو كل فصل بينهما يختزل المفهوم الى أحد وجهيه. وهذا ما يقع في باب الاستحالة النظرية والواقعية. فالكوني في المفهوم لا ينوجد او ينبني من دون المحلي او الخصوصي والخصوصي او المحلي في المفهوم لا ينوجد او بنبني من دون الكوني.
وعليه، فإن ما ينتقل الينا من معرفة هو وجها المفهوم وليس وجهاً واحداً منه. أما حين نزعم أننا ننقل وجهاً واحداً دون آخر، نكون قد وضعنا انفسنا خارج العلم والواقع. فاستناخ المفهوم باسم كونيته ينشد نمْذجة واقعنا على صورة ومثال النموذج الغربي في شكليْه الرأسمالي والاشتراكي. ما يضعنا امام استحالة واقعية ملموسة، ذلك ان خصوصية شروطنا المجتمعية تختلف من حيث طبيعتها وآليات اشتغالها عن تلك التي تعود للغرب. ورفض المفهوم باسم طبيعتنا الجوهرانية يتوخى نمْذجة واقعنا على هيئة ومثال النموذج التراثي التاريخي، الأمر الذي يدخلنا في استحالة واقعية مضاعفة. فمن جهة، هناك استحالة لنمذجة واقعنا المعاصر على هيئة نموذج تراثي لا يمكن أن يعود البتة. وهناك استحالة رفض الحضور الكوني للمفهوم داخل خصوصيتنا المجتمعية من جهة أخرى. وهو ما يجعل الرفض رفضاً مزعوماً وشكلانياً لا سيما ان دعاته قد نقلوا المفهوم تحت مسمى المعرفة التقنية والتكنولوجية وقد احرزوا نصيباً وافراً في براعة استخدامها. وانتقائية المفهوم باسم الحفاظ على خصوصيتنا التاريخية والثقافية تتوسل بناء واقعنا على هيئة توفيقية تجمع بين ما يصلح لنا من النموذج الغربي، وما بقي يصلح لنا من النموذج التراثي، ما أوقعنا في ثنائية متناقضة اعاقت التقدم والنهوض المنشودْين في بلادنا. ذلك ان النموذج الغربي يعود الى آحادية بنيوية لا تنوجد في واقعنا المعاصر، وان النموذج التراثي يعود الى أحادية تراثية ماضوية لا تنوجد هي الأخرى في واقعنا المعاصر. ولقد أدى ذلك بنا الى عدم معرفتنا الحقيقية بقواعد اشتغال هذا الواقع اي قواعد حضور الحديث في التقليدي، وقواعد حضور التقليدي في الحديث. فكان ان تفلّت منا بالتالي، العلم والواقع على حد سواء.
اننا ومن هذا المنطلق، نعتقد ان فشل النهضة العربية بمراحلها المتعاقبة يعود في ديناميتها الداخلية الى انحباس فكرنا داخل هذه الرؤى، والى عجزه البنيوي عن تجاوزها والتفلّت من إسارها. ولعل هذا ما يجد مثاله الملموس في توصيف الحداثة العربية بالحداثة “الناقصة([9]) او المجهضة، او المشوهة او الشكلية”.
ولذلك، لن نستطيع ان نبني فعل التجاوز ما لم نأخذ بنظام فكري جديد يرى ان اي مفهوم لا ينتقل الينا الا بوجهْيه الكوني والمحلي في آن . وحين نتعامل معه، اي حين ننـزل به الى الواقع، تكون العلاقة به هي إعادة انتاجه من داخل شروطنا المجتمعية الملموسة، وبذلك يُعاد انتاج وجهيْه الكوني والمحلي. فالكوني يتعدى شروط انتاجه، والمحلي يرتبط بها. هنا يغتني المفهوم ويُعدّل ويُطّور وقد يتغيّر كثيرٌ من عناصره المعرفية.
وعلى هذا الأساس، يغدو في مُكنتنا ان نتفاعل حقاً مع الثقافة المعاصرة، وندخل الى الفضاء الرحب للعصر بصفة المنتج الفكري والثقافي، لا بصفة المستهلك او المتلقي سواء باسم النموذج الكوني او باسم النموذج السلفي أو باسم النموذج التوفيقي..
3- في الحداثة وما بعد الحداثة
ومن باب اعادة الانتاج او من باب النقد المعرفي، سوف نقارب مفهوم الحداثة، كما مفهوم ما بعد الحداثة، ثم نقارب تعبيرات الاخير من داخل حقل مخصوص، هو الحقل السياسي.
أ- الحداثة
الحداثة هي سبيل تاريخي سلكه الغرب منذ عصر نهضته وتأسّس على بناء كلٍّ مجتمعي جديد… ففي هذا السبيل جرى تجاوز المجتمعي التقليدي وقيم امسه الازلي القرووسطي،وانتج العلم وعياً ثوروياً حول مركز الكون (ثورة كوبرنيكوس). فغدت الطبيعة الموضوع الرئيس للمعرفة العلمية التي تُبنى وتُصنع وتُنتج.وبنى الفرد مركزيّته في هذا العالم، واصبح سيّد نفسه يقرّر مصيره ويتحكّم به، ويرى ان مصدر المعرفة يكمن في رأسه ولا في اي مصدر آخر خارج هذا الرأس.
وهكذا، فان السبيل او المسار انتج مصدراً للمعرفة هو العقل كمرجعية للنظر في قضايا الوجود الطبيعي والانساني. وتمظهرت المرجعية في عقلانية او معقولية([10]) موصوفة سواء على صعيد تنظيم السلوك الفردي ام على صعيد تنظيم المجتمعي والاقتصادي والدولتي (ماكس فيبر).كما تمظهرت في قدرة العقل على انتاج الحقائق([11]) العامة والثابتة.
ونزع السبيل الى التقدم، وانطوى على معنى او غاية انسانية تؤول اليها صيرورة نضج العقل (هيغل)، وعبور الانسان من عالم الضرورة الى عالم الحرية (ماركس). وترسخت مرجعية العقل في عصر التنوير ( فولتير – روسو- ديدرو..)، لجهة انتاج اليقين المعرفي بصفته الفيصل بين الزائف والحقيقي، والخطأ والصواب، والمنطقي وغير المنطقي. وفد عبّرت تلك الصفة عمّا اطلق علية وحدة العقل البشري ووحدة الطبيعة الانسانية، وأهلية العقل في صوغ سرديات([12]) كبرى، اي مذاهب وأنساق فكرية عامة، في حقول المعرفة كافة.
اذن، الحداثة هي سردية كبرى او نظام تفكير جديد انبنى على مرجعيتي العلم والعقل وعلى مقولة التقدم.فالعلم والعقل كشف وتنظيم. كشف عن قوانين الطبيعية، وتنظيم الاجتماع البشري على قواعد عقلانية. والتقدم نزوع التاريخ نحو غايات انسانية تحررّ الفرر من قيود التقليد التي تضرب جذورها في العرف والعادة وفي تضاعيف الفكر اللاهوتي.
لكن تلك السردية انطبعت بتناقض بنيوي لا فكاك منه. فالعقلانية الغربية التي ذهبت في المجال الغربي الى التنظيم المجتمعي، والى دفع التاريخ نحو التقدم والى صوغ المعنى الانساني للوجود الفردي والجمعي، لجأت منذ بواكيرها الاولى الى استخدام كل وسائل العنف المنظّم من اجل اخضاع المجالات غير الغربية والسيطرة عليها. ولقد وجدت تلك البواكير متنها الحقيقي في الفكري والاقتصادي. ففي الفكري، اعتبرت ان عقل الغرب هو العقل عينه، اي انه العقل الكوني الذي يتوجب عليه ان يفرض نفسه على العالم كله، من دون ان تتحرّج من التناقض بين مقولتي ان الغرب هو العقل، وبين طابع العقل الانساني العام.
وفي الاقتصادي، تأسّست العقلانية على قانون التوسع الرأسمالي منذ تراكمه البدائي (ماركس). وهذا ما جعل العنف يلازم بنيوياً العقلانية او المعقولية الغربية، ويؤدي الى معادلة صلبة تفيد : ان عقلانية الغرب هي عقلانية العنف الجوّال في ارجاء المعمورة. بما فيها “ارجاء الغرب نفسها”.(الحروب بين الدول الاوروبية في القرنيْن التاسع عشر والعشرين).
واذا ذهبنا الى الملموس، نجد انه في الوقت الذي كان فيه ديكارت يؤسّس مبادىء العقل، كان الغرب الاوروبي يمارس عنفه العقلاني ضد حضارة الهنود الحمر في العالم الجديد، وفي ابشع صور انسانية تكشف عن الوجه غير العقلاني للعقلانية الغربية. كذلك الامر، ففي الوقت الذي كان فيه الغرب يمجّد نور العقل وانسانية الانسان في القرن الثامن عشر، ويصنع الثورات السياسية والصناعية في التاسع عشر، كان في الوقت نفسه يفرض سيطرته الاستعمارية على البلدان غير الغربية ويوزعها الى مناطق نفوذ تابعه له.
وبذلك يكون الغرب السياسي قد كرّس لازمة التناقض في العنف العقلاني. فهو يدعو الى كونية نموذجه الحداثي،ويعيق تحققه على ارض الواقع في العالم غير الغربي في الوقت نفسه. (موقف الغرب السياسي من مشروع محمد علي باشا الحداثي في مصر).
ومن صميم هذه التناقضات الملموسة التي انتجها المسار التاريخي الحداثي، توّلدت بدايات النقد الغربي للحداثة.
لكن عوض ان يتناول النقد أصول التناقض في العقلانية الغربية، اي نقد الانوية الغربية التي ترى ان أنا الغرب هي أنا العالم، وان عقل الغرب هو عقل العالم، ونقد التوسع الرأسمالي او النظام الرأسمالي (يمثل ماركس استثناء بارزاً في هذا المضمار)، الذي يرى الى العالم غبر الغربي مجالاً او موضوعاً للسيطرة عليه، ترى النقد قد تناول مرجعيات التفكير سواء كان العقل او كانت المادة او الميتافيزيقا. ما استولد تناقضات جديدة جعلت العالم متروكاً لصيرورة مادية سائلة([13]) لا يتحكم فيها إلا من يمتلك القوة ووسائل السيطرة عليه.
ب- ما بعد الحداثة:
حين أعلن نيتشه موت الله، لم يكن يعني بالطبع موتاً حسياً للكائن المتعالي، بل عنى بالتحديد المبدأ او الأصل الذي قامت عليه المتيافيزيقا الغربية منذ أفلاطون حتى ديكارت. والمبدأ هنا يتمثل في العقل او في اي مصدر فكري شمولي يمكّن الناظر في الكون والانسان والمجتمع من التوصل الى حقائق عامة وثابتة. فالعقل في نظره يخفي الحقيقة تحت غلالة سميكة من الألعاب البلاغية كالاستعارة والتشبيه والتمثيل. وهو بذلك لا يستطيع ان يقود الى دروب اليقين سواء في عالم المادة او الروح او الاخلاق.
وازاء نفيه، لم يعد أمام نيتشه الا رفض التنوير والتحديث واعتبارهما وهماً خالصاً او ادعاءً زائفاً يتاتىّ من أوهام العقل وأباطيله. كما لم يعد أمامه إلا التنقيب عن بديل للعقل الموهوم. وقد وجده يتجسد في ارادة القوة. ثم رأى ان هذه الارادة تشكل المرجع أو الاصل لكل حقيقة ولضمان انتشارها وشيوعها..
وهكذا، فالأخلاق السائدة تجد حقيقتها عند القوي، هو يصنعها ويفرضها على الخلق وفاق معايير قوته وتفوقه. أما الأخلاق العامة وبخاصة الدينية من نوع التواضع والتسامح والتعاون وما شاكل، فتلك أخلاق الضعفاء ومن هم في مرتبة الدونية، مثلما ان القيم الروحية الصادرة عن الكائن المتعالي هي اخلاق المساكين والبسطاء..
وعلى اساس الاطروحة اعلاه، أمات فيلسوف الارادة الله، فهزّت اطروحته مركزية العقل والانسان في الكون. وهي مركزية تمثل احد عناوين الحداثة التي افتتحتها عقلانية ديكارت في اوروبا. وبذلك يكون نيتشه قد أسسّ لرؤية فلسفية جديدة هي ما بعد الحداثة التي طغت على الفكر الغربي في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.
تلك الرؤية وجدت احد وجوه ترجمتها في التفكيكية([14])(دريدا مثلاً). وهي ترجمة استحضرت نيتشه وكانط وهايدغر وآخرين. ثم بنت قوامها الخاص في المنهج والفكر والفلسفة ضداً على الحداثة والبنيوية.
ومن منطلق هذه الضدية رفضت التفكيكية أي أصل او مرجع فلسفي. فالإنسان لم يعد حسب منطوقها مركزاً للكون كما كان عليه الأمر في الحداثة، بل غدا ظاهرة طبيعية يماثل الظواهر الأخرى، وتحركّه الرغبات، والملذات الجسدية بحيث لا يتاح له ان يتسامى على الحس والتجريب. والروح لم تعد تعبّر عن الايمان وقيمه الانسانية والخلقية او عن مرجع للنظر المتعالي، بل أضحت تعبر عن هَذَر ما ورائي لا طائل منه. والعقل كفّ عن كونه مصدراً للمعرفة يملك ان يتعدى او يتجاوز الملموس الواقعي الى حقائق عامة او معانٍ كلية، اي ان يتعدى عناصر وأجزاء المحسوس الى كُلٍّ متجاوز لها ومختلف عن طبيعتها المفردة، وتحوّل الى أداة لا تملك ان تنتج إلا حقائق مفردة او معارف جزئية..
وما دامت الأصول قد تقوّضت، لا يعود هناك اي مركزية في العالم. فيتحول الأخير من حضور او وجود كلي الى وحدات صغرى لكل منها مركزها([15]) المستقل وحقيقتها الخاصة. إذ ذاك يدخل. العالم في حالة من الانقطاع والتبعثر والفوضى. كما يدخل في صيرورة دائمة من غير ان تنتظم في تاريخ ذي معنى او غاية. ومع دخول العالم في حركة دائمة من التغير ينتفي منه الثبات واليقين، ويغدو كل شيء فيه محكوماً بالنسبية، لكنها النسبية الصائرة باستمرار اي التي لا تحيل الى قوانين عامة او حقائق ثابتة…
وعلى هذا، لم يبق في الساحة المعرفية التي بنتها التفكيكية سوى مفاهيم اللايقين واللامنطق واللامعنى. كما لم يبق الا القصص او السرديات الصغرى عن العيش اليومي للأفراد بعيداً عن كل قضية عامة وطنية كانت أم انسانية.
4- تعبيرات ما بعد حداثية في الحقل السياسي:
توضح هذه المقاربة أن التفكيكية تمثل وجهاً بارزاً ومعاصراً من وجوه الفكر الغربي. وهو وجه استطاع أكثر من سواه ان ينعكس في ممارسات الغرب السياسي مع الخارج غير الغربي وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي…
ان ارادة القوة جعلت هذا الغرب ذاتاً كونية متفوقة، والمجال غير الغربي موضوعاً غير مكتمل في إنسانيته. ما أعطى للذات الحق في إعادة تشكيل الموضوع او تكوينه وفاق ما ترغب او ترتئي (حرب اميركا والأطلسي على أفغانستان). كذلك، جعلت تلك الذات تدعّي وجود حقائق لا اساس موضوعياً لها من أجل فرض سيطرتها الاستعلائية على الموضوع ومن دون ان تبالي بالوقوع في التناقض إذا ما اثبت الملموس الواقعي زيف ادعائها (نموذج المحافطين الجدد في اميركا). ذلك ان النظر التفكيكي لا يكترث للتمييز بين الحقيقي والزائف، او الرئيس والهامشي، او الجوهري والعَرَضِي (حرب اميركا وحلف الراغبين على العراق).
وبدورها، زجّت غزة بالغرب السياسي في حمأة فكر تفكيكي لا يقيم وزناً فقط، لمفاهيم العقلانية والتنوير والتحديث التي بنى مركزيته الحضارية على اساسها ، بل ايضاً لمعنى الانسان والحياة الآدمية سواء كانت من لَدُن الطبيعة أو ما وراء الطبيعة.
وانسجاماً مع ذلك الفكر، رأى الاتحاد الأوروبي ان “اسرائيل تدافع عن نفسها في حربها على غزة (2008-2009) وتحمي مواطنيها من خطر الصواريخ التي تطلقها المقاومة الى جنوب اراضي الدولة العبرية”.
وعليه، ان موقفاً كهذا يفترض ضمناً ان المشكلة لا تكمن في الاحتلال الاسرائيلي، بل في المقاومة التي تدافع عن أراضيها، مثلما يفترض ان القدرة الصاروخية لدى الفلسطينيين تحقق توازناً مع قدرة الجيش الصهيوني.
لكن النظر العقلاني يدحض هاتين الفرضيّتْين ويثبت بطلانهما النظري والواقعي، اذ ليس من المعقولية في شيء ان لا يكون الاحتلال مشكلة، وان تغدو المشكلة في مقاومة المحتل . كذلك، ليس هناك اي قدْر من الموضوعية في افتراض التوازن العسكري بين طرفْي الصراع حتى يجري الحديث عن دفاع اسرائيل عن نفسها. ما يعني ان الاتحاد الأوروبي قلب المنطق حين قلب أصل المشكلة وحوّل الحقيقة الى زيف. ثمّ راح يشاهد الهولوكست التي تصنعها اسرائيل في غزة، او بمعنى آخر راح الى اللامنطق او الى زللٍ عقلي حالما تخلى عن المنطق عاصم العقل من السقوط القيمي والاخلاقي.
وفي الاطار نفسه، “دعا الرئيس الاميركي المقاومة الى ان تعلن وقف اطلاق الصواريخ على الاراضي الاسرائيلية، وان يوضع حدٌّ لتهريب السلاح الى غزة حتى توقف اسرائيل الحرب عليها”..
هذه الدعوة تعتبر ان المقاومة في غزة هي المعتدية وان الكيان الاسرائيلي هو في موقع ردِّ الاعتداء . ومن يُعتدى عليه يحق له استخدام ما يشاء من وسائل القوة لكي يدافع عن نفسه. غير ان حقيقة الأمر ليست كذلك، فأيّ مراقب حيادي لا يُهدر سياق الأحداث يستطيع ان يثبت بالملموس، ان المقاومة لم ترفض الهدنة، إلاّ لأن اسرائيل رفضت رفع الحصار عن غزة طوال عامين. كما يستطيع ان يبرهن بالأرقام والاحصائيات على الامكانيات العسكرية الهائلة لدى اسرائيل، وعلى محدوديتها لدى فصائل المقاومة.وهكذا، حينما يصّور الرئيس الاميركي المقاومة بانها معتدية ويدعو الى وقف صواريخها ومنع تهريب السلاح اليها، تكون دعوته بمثابة طلب من صاحب الامكانيات المحدودة (الضعيف)، ان يتخلى طوعاً عن إمكانياته، لصالح من يملك الإمكانيات الهائلة (القوي) بغية ان يطمئن الداعي الاميركي الى أمن السكان في جنوب اسرائيل، ومن دون ان يعير أي أهمية لأمن الشعب الفلسطيني كله. الأمر الذي يجعل تلك الدعوة تعبر عن اللامعقول او اللامعنى في علاقة الغرب السياسي مع الخارج غير الغربي. واللامعقول هنا، لا يعني عطالة في العقل او ما شابه، بل تفسير القضية بعلل لا تقرها مبادىء التحليل العقلي واللامعنى ليس نفي المعنى الذي يعبّر عنه الدال بل العبث بالدال ( المقاومة تعادل الارهاب) ووسمه بمعنى لا يطابق مدلوله او موضوعه الاصلي.
وبعد أن تجنّد الغرب الاوروبي لحفظ أمن الكيان الاسرائيلي ومنع تهريب الأسلحة الى غزة، يكون الغرب السياسي قد ذهب الى ذروة اللامعنى. ومع ذهابه الى هذا الحد، يتصدع العقل ويسود اللامعقول، وينحكم في علاقته او في نظرته الى القضايا
بلامعقوله ([16])، وتنهار الحقيقة ويصبح الموضوع وجهة نظر (الاحتلال([17]) وجهة نظر)، ويهيمن الزيف ويطفو اللامعنى ويتفسّح النظام في بنى العلاقات وتزدهر([18]) الفوضى، ويصبح العنف اللاعقلاني زائراً دورياً في عالم اليوم..
انها حرب التفكيكية قادها الغرب السياسي، ونفذتها اسرائيل عملياً بالقنابل الفوسفوفرية على غزة….
5– ثمرة النقد
لقد اظهر هذا المبحث النقدي في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، انه لن تكون لنا حداثة على النموذج الغربي، ليس فقط لأن الغرب السياسي يدعو الى كونية نموذجه ويعيق تحققه في بلادنا في الوقت نفسه، بل ايضاً لسبب اكثر اهمية، وهو أن مسارنا التاريخي وهياكلنا المجتمعية تختلفان من حيث طبيعتهما عن ذنيك اللذين يعودان للغرب.
فحداثتنا لا بد ان تأخذ بمرجعيات العقل والعلم والمادة والميتافيزيقا من داخل شروطنا المجتمعة الملموسة بغية ان يعاد انتاج كونيتها وخصوصيتها في آن. وبغية ان تنتظم في مسار عقلاني تواصلي([19]) (هابر ماس) بين حضارات الشعوب في العالم.
أما ما بعد الحداثة، ايديولوجيا العولمة المعاصرة، فلن تجد ارضية رسوخ لها في بلادنا. ذلك اننا لا نملك ترف إماتة الله، ليس لأننا ارضُ الله الاولى، بل لأننا لا نملك ترف اماتة مرجعيات التفكير في قضايانا المجتمعية الكبرى، على الرغم مما ينوجد بين ظهرانينا من مرجعيات قاتلة (العصبية بأشكالها ومظاهرها كافة). فمواجهة الاخيرة لا تكون بإماتة الله، بل بالاخذ بسرديات حداثية كبرى تنشد النهوض والتحديث والتقدم….
6– طفل فلسطيني يُحيي الله
أخيراً، اذا كان نيتشه قد أمات الله مرة حين ألغى الاصول المرجعية، واعتبر ان ارادة القوة هي وحدها التي تصنع الحقيقة، فان التفكيكية أماتته مرتين.
– في الاولى، عندما رفضت اي مركزية في هذا العالم سواء كانت العقل ام المادة ام الله…
– وفي الثانية: عندما جعلت الغرب السياسي يمارس الإماتة المنظّمة، لكل من يرفض موت الله…
أما إله فلسطين، فما زال عقلاً، وإيماناً اي ما زال حياً. وقد سكن في عيني الطفل الغزّاوي الذي أفقده الفوسفور الأبيض بصره، وهو يسخرُ من إستبداد النظام العربي وتبعيته..
28/3/2015
بعض مراجع المبحث
1- ابن داود عبد النور، المدخل الفلسفي للحداثة، تحليلية نظام تمظهر العقل الغربي، الدار العربية للعلوم، 2009.
2- د, احمد عبد الحليم عطيه، ليوتار والوضع ما بعد الحداثي، دار الفارابي، 2011
3- د. احمد عبد الحليم عطيه، نيتشه وجذور ما بعد الحداثة، دار الفارابي، 2010.
4- د. أحمد عبد الحليم عطيه، جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابي ، 2010.
5- برهان غليون، مجتمع النخبة، معهد الانماء العربي، 1985.
6- جون ليتشه، خمسون مفكراً أساسياً معاصراً ، من البنيوية الى ما بعد الحداثة، ترجمة فاتن البستاني، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008.
7- عبد الله ابراهيم، علم الاجتماع (السوسيولوجيا)، المركز الثقافي العربي، 2006.
8-د. عبد الوهاب المسيري، د.فتحي التريكي، الحداثة، وما بعد الحداثة، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، 2003.
9- علي حرب، اوهام النخبة، او نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، 1996.
10- د. فؤاد خليل الفكر النهضوي العربي، الانكسار البنيوي، دار الفارابي، 2002.
11د. محمد جابر الأنصاري، الفكر العربي وصراع الاضداد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996.
12- اشراف محمد شوقي الزين، جاك دريدا. ما الآن ؟ ماذا عن غد؟ الحدث التفكيك ، الخطاب، دار الفارابي، 2011.
13- هشام شرابي ، النظام الأبوي واشكالية تخلف المجتمع العربي ، نقله الى العربية ، محمود شريح، مركز دراسات الوحدة العربية، 1992.
[1] – من الاعلام البارزين الذين أخذوا بالمفهوم الليبرالي في مرحلة التأسيس النهضوي: قاسم امين، احمد لطفي السيد، طه حسين، زكي نجيب محمود (في كتاباته الأولى)،
أنظر: فؤاد خليل، الفكر النهضوي العربي، الانكسار البنيوي، دار الفارابي، 2002.
اما الليبراليون الجدد اليوم، فمنهم على سبيل المثال : هالة مصطفى، عبد المنعم سعيد، اسامة الغزالي حرب، سعد الدين ابراهيم (مصر)، احمد البغدادي ، عبد الحميد الانصاري، (الخليج) شاكر النابلسي(الاردن)،
انظر في : WWW.alukah.net
[2] – يمثل التيار البكداشي النموذج الامثل لجهة التماهي مع المفهوم الماركسي، وقد فرض سيطرته لفترة طويلة على ادبيات العديد من مفكري الحركة الشيعوعية العربية. .
[3] – يلتقي السلفي المتشدد هنا مع مقولة روديارد كيبلنغ (الروائي الانكليزي): “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”.
[4] -السلفية المتشددة أو ما يعرف أيضاً باسم السلفية الجهادية. وقد اسس هذا المذهب محمد بن عبدالوهاب في بلاد نجد والحجاز. وامتد تأثيره لاحقاً على الساحة الفكرية العربية. ومن السلفيين المتشددين: عبدالعزيز بن باز (السعودية) سيد قطب (مصر) ناصر الإلباني، عبدالملك رمضاني (الجزائر والشيج الفيرازي المغرب، ناهيك عن مفكري تنظيم القاعدة ومتفرعاتها.
[5] – من الاعلام الذي يمثلون السلفية المعتدلة: محمد قطب- راشد الغنوشي- حسن الترابي- محمد سليم العوا- فهمي هويدي: …..الخ.
[6] – من اعلام الفكر الدين الاصلاحي في زمن التأسيس النهضوي: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، خير الدين التونسي…الخ. انظر في : فؤاد خليل، المرجع نفسه.
[7] – من الاعلام الالمؤسسين للفكر القومي العربي ساطع الحصري، ميشال عفلق، قسطنطين زريق، زكي الارسوزي.. الخ. ومن اعلام هذا الفكر المعاصرين : فائز اسماعيل، جمال الأتاسي طارق البشري، خير الدين حسيب، سعدون حمادة، عبد العزيز الدوري، عصمت سيف الدولة، انظر النزعة التوفيقية في الفكر القومي بعامة في محمد جابر الانصاري، الفكر العربي وصراع الاضداد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر القسم الثالث 1996
[8] -انظر : عبد الله ابراهيم، علم الاجتماع (السوسيولوجيا)، المركز الثقافي العربي ط2 2006 ص ص273- 278
[9] – انظر في برهان غليون، مجتمع النخبة، معهد الانماء العربي، 1985.
– هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، نقله الى العربية محمود شريح، مركز دراسات الوحدة العربية، 1992، ص 93.
[10] – انظر في – ابن داود عبد النور، المدخل الفلسفي للحداثة، تحليلية نظام تمظهر العقل العربي، الدار العربية للعلوم 2009
[11] – انظر في: د.عبد الوهاب المسيري و د. فتحي التريكي، المرجع نفسه.
[12] – انظر في د. احمد عبد الحليم عطية، ليوتار والوضع ما بعد الحداثي، دار الفاربي 2011
[13] – انظر في – د. الوهاب المسيري و د. فتحي التريكي، المرجع نفسه
د. احمد عبد الحليم عطيه، نيتشه وجذور ما بعد الحداثة، دار الفارابي، 2010.
[14] – أنظر في: – اشراف محمد شوقي الزين، جاك دريدا، ما الآن؟ ماذا عن غد؟ الحدث، التفكيك، الخطاب، دار الفارابي، 2011
– د. أحمد عبدالحليم عطية، جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابي 2010.
[15] – د. عبد الوهاب المسيري، د. فتحي التريكي، المرجع نفسه.
[16] – انظر في: علي حرب اوهام النخبة او نقد المثقف، المركز الثقافي العربي 1996
[17] – لقد ذهب رهط واسع من مثقفي العرب ومفكريهم ومن مشارب شتّى الى نظرة ما بعد حداثية ترى ان احتلال اميركا للعراق ليس احتلالاً استعمارياً، بل انه وجود مطلوب لذاته لأنه ينشد بناء منظومة التحديث الديمقراطي في بلاد الرافدين بعد ان عجز الداخل عن تحقيقها في ظل نظام الاستبداد الدهري…
[18] – ان ما بعد الحداثة كايديولوجيا للعولمة المعاصرة وجدت في بلادنا بيئة ملائمة لاعادة انتاج هوياتنا المفردة على حساب هويتنا الجامعة. ما جعلنا ندخل في طورٍ مديد من الفوضى الكيانية التي تضرب في وجود الدولة والمجتمع في آن. ولعل ما تعيشه ساحتنا العربية اليوم خير شاهد على ذلك.
[19] – انظر في: جون ليتشه، خمسون مفكراً اساسياً معاصراً، من البنيويّة الى ما بعد الحداثة، ترجمة فاتن البستاني، مركز دراسات الوحدة العربية 2008 ص ص 376-386.