ثقافة المقاومة والتنوع المجتمعي

ثقافة المقاومة والتنوع المجتمعي

د . غسان طه 22/04/2015

منذ قيام الكيان الصهيوني عام 1948 طرحت على الشعوب والانظمة العربية قضية تحرير الارض , وقد خاض العرب على أساسها معارك عدة كانت على اثرها تشهد إخفاقات عربية مقابل تقدم المشروع الصهيوني , وقد بدأ هذا المشروع يشهد تراجعاً منذ ارتطامه بالمقاومة في لبنان بعدما أحرزت تحرير الجنوب اللبناني في عام 2000 والانتصار عام 2006  فيما بقيت قضية فلسطين هي المطروحة على بساط البحث .

فاذا كانت المقاومة في لبنان قد صنعت ممكنات القوة وخاضت على اساسها التحرير فقد بقيت هذه الممكنات غائبة عن الوعي العربي , وبقي العجز يشكل أحد أهم المبررات التي تقف خلف الاستكانة والتراجع مقابل تقدم المشروع الصهيوني في فلسطين والمنطقة .

وعلى هذا الأساس راحت الاشكالية تطرح حول ممكنات القوة والضعف لدى طرفي الصراع , وبلا شك ان توازنات القوة والضعف كانت تميل لصالح العدو الصهيوني في كل جولة صراعية قبل العام 1982 وكانت تعكس التفوق النوعي في الآلة العسكرية الصهيونية غير ان التفوق النوعي يبقى غير كاف لتبرير التفوق لعدم صلاحيته ازاء الحرب مع المقاومة في لبنان .

ان عدم الركون الى التفوق النوعي مع أهميته , يدفع الى البحث عن الجذور التاريخية التي انطلقت منها المقاومة من جهة , وتلك التي انطلق منها المشروع الصهيوني والتي صنعت ممكنات القوة والقدرة والارادة المحفزة على الاستمرار .

فبمقابل الهوية الجامعة للعدو والمؤسسة على فكرة توراتية وتلمودية راحت تحدد مكونات الذات وتقف بمواجهة الآخر بوصفه مغايراً ولا يرقى الى الذات الجماعية العليا لليهود , هذه الذات كانت قد ازدادت عصبوية مع التحول الى المشروع الصهيوني ومن ثم التجسد على ارض فلسطين .

بموازاة ذلك كان افتقاد اللبنانيين الى الاحساس بوجود هوية جامعة , بقيت مفتقدة منذ مطلع تأسيس الكيان وحتى نهاية الحرب الاهلية . فثمة هويات متنوعة بتنوع الطوائف التي انضوت في لبنان الكيان محملة بتجارب تاريخية اختزنت علاقاتها فيما بينها على حدا وبينها وبين الخارج بكل ما في هذه العلاقات من تناقض وتوالف ورهانات وصراعات .

وقد اضيف الى عدم الشعور بوحدة الهوية , علاقات الطوائف المسنودة الى التوازن بالغلبة في حقل الاستثمار السياسي الذي كان قد تأسس على بنية سياسية تلحظ تشارك الطوائف في حقل سياسي كانت تجربته تعكس الخوف والقلق والشعور بالغبن تجاه الآخر الطائفي , في حين كانت الاستعانة بالخارج عاملاً مساعداً للاستقواء على الداخل .

إن ذلك كان يحمل عوامل ضعف للبنان ويشكل موانع ذاتية تحول دون انخراطه في قضية صراعية تهدد كيانه علماً ان لبنان لا يشكل خصوصية جراء تنوعه الطائفي , اذ يوجد مجتمعات كثيرة قائمة على التنوع الديني والعرقي والاثني ولا تشعر الهويات الخاصة بما يهدد وحدتها المجتمعية .

الخصوصية الموجودة في المجتمع اللبناني تتمثل في العدد الوازن للمسيحيين نسبياً مع المسلمين مقارنةً مع التكوينات الاجتماعية للجوار العربي والوزن العددي للمسلمين المحاطين بجوار اسلامي عانى وعلى مدى النصف الثاني من القرن العشرين من تقاطب عروبي يسعى الى وحدة عربية وفيما شكلت نزعته العروبية منطلقاً للصراع مع الكيان الصهيوني كنقيض للعروبة وعلى انه يحتل ارضاً عربية فضلاً عن تيارات تنزع نحو استعادة مجد اسلامي بعناوين توزعت على السلطة والحكم وتطبيق الشريعة واستعادة وحدة العالم الاسلامي وبقيت قضية فلسطين الغائب الاكبر جراء الانشغال بالوصول الى السلطة التي تحولت الى قضية صراعية .

مع ذلك وازاء اندلاع الحروب بين العرب والكيان الصهيوني بعد نكبة 1948 مال المسلمون في لبنان الى الخيارات العروبية الناصرية وساندوا فيما بعد قوى المقاومة الفلسطينية التي سرعان ما تحولت الى جزء من المشاركين في حلبة الصراع اللبناني منذ قبيل الحرب الاهلية وحتى خروج الفدائيين الفلسطينيين بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 .

كان لا يزال قسم من اللبنانيين ساعة ذاك يتفاخرون بلبنانية ذات جذور فينيقية , ويعدون غيرهم كحالات طارئة على الاجتماع اللبناني , وآخرون يرون لبنان الكيان صنيعة الاستعمار بتواطؤ ماروني ولا يركنون بمعظمهم الى هوية حولتهم من اكثرية عظمى الى اكثرية بين اكثريات طائفية .

جاء الاجتياح الاسرائيلي ليكمل اهتزاز ايديولوجيا التعايش الطائفي بعدما اهتزت قبل ذلك في الحربين الاهلييتين عامي ( 1958 و 1975 ) وقد ساعد في ذلك غياب ارادة داخلية جامعة تعبر عن دينامية داخلية في ارادة الاختلاف وتواجه تحديات بمعزل عن مصالح الخارج .

مع بدايات العمل المقاوم عام 1982 كانت المقاومة تجد تعبيراتها بردود فعل على عدوان يحتل الارض ويمارس غطرسته مشفوعاً بصورة الاسطورة التي لا تقهر والتي كان هذا العدو قد ارسى دعائمها في المخيال العربي , وعلى ان رد الفعل المقاوم يختزن مكونات بيولوجية واخرى عاطفية تحيل الى الفعل الوجداني المرتبط بالارض الا ان ثمة مكون ثقافي قيمي بدأ بالتبلر حين ارتبطت المقاومة بشعار عنوانه الدعوة لمجمتع الحرب تقوم عناصره على تحديد العدو ومدى خطورته على لبنان والانسان , التدريب والحضور في ميادين القتال مع ارادة قتالية صلبة واشتراك مكونات المجمتع والدولة والتي لا يمكن ان تؤدي هذا الدور دون الاقتناع بارادة وديمومة العيش المشترك .

إن مجتمع الحرب يعطي لبنان احد العناصر التي تشكل احدى الدعائم لهوية لبنانية قائمة على ارادة العيش المشترك , واحترام السيادة وارض الوطن كأرض لكل اللبنانيين , وواجب الدفاع عنها ويرتكز على بعد آخر هو النظرة الى الذات من خلال الآخر وهو العدو . وبذلك تصبح الهوية معطى ذاتيا طبيعياً ومعطى ارادياً يرتبط بالارادة والغاية والضرورة التي لن تلبث لتصبح ضرورة حضارية لازمة تقوم على ان لبنان نموذج العيش بين الاديان والحوار الحضاري القائم على التنوع الديني نقيض العنصرية الصهيونية الساعية الى تفتيت المنطقة الى دويلات ذات اقليات دينية لتبرير وجودها ولاستمرار مشروعها التوسعي .

وفيما كان المشروع الصهيوني يشهد صعوداً متنامياً على حساب شعوب المنطقة , مال هذا الصعود نحو الانحدار حين ارتطامه بالمقاومة في لبنان والتي خاضت ضده حرباً استنزافية مريرة لم يشهدها طيلة نصف قرن من الزمن , فكانت باكورة الامل .

كان من اسباب نجاح المقاومة في لبنان ارتكازها الى منطلقات فقهية زاوجت بينها وبين المعطى الحضاري , وتحويلها الوجدان الجمعي المعادي للاحتلال الى ارادة قتالية واعدة . وحملت عبر قيادتها ومجاهديها مصداقية هي بحجم مشروعها العام وحجم طموحاتها التي ما برحت تغوص في عمق الوجدان الشعبي الذي وقف وما يزال بولائه وراء الفعل المقاوم .

لقد قدمت المقاومة في لبنان نموذجاً في التوازن بين توجيه الفعل القتالي وادارة الصراع , وبين ارساء حالة السلم المجتمعي في بلد كلبنان يحتضن مكونات وشرائح ثقافية ودينية متنوعة .

رغم تقديم المقاومة في لبنان لنموذجها الحضاري , فثمة حاجة تستوجب المزيد من تشكيل الوعي المقاوم مشفوعاً بالحفاظ على الخصوصيات المتنوعة للاجتماع وتحصين المجتمع الاهلي اللبناني القائم على بنية اختلالية تغذت وما تزال من طبيعة الحراك السياسي الداخلي , ومن توازناته التي تؤدي الى الانكفاء عن التأييد للمقاومة حين الولوج الى داخل النصاب السلطوي العام , فضلا عن الطبيعة المأزقية التي خلفها المشروع الاميركي في المنطقة ووضعه لاستراتيجية اعادة ترتيبها بما يخدم مصالحه ومصالح الكيان الصهيوني .

لقد طرحت المقاومة في لبنان مشروع بناء استراتيجية دفاعية تنخرط فيها كافة تنوعات المجتمع اللبناني , وهي استراتيجية تحمل بعداً حضارياً ووطنياً لما تختزنه من ممكنات ترسم ملامح هوية وطنية جامعة ومن شأنها تعضيد اللحمة بين اللبنانيين لما تضفيه من احساس بالشراكة والشعور النفسي بالمنعة والقوة مع الحفاظ على التنوعات والخصوصيات الاهلية التي تشكل السمة الحضارية للبنان ورسالته نحو الخارج

ان السبيل لانجاز المشروع الدفاعي على النحو الاستراتيجي هو ليس مهمة المقاومة وحدها , فثمة مسؤولية ينبغي لها ان تسير على نحو تكاملي , بينها المهمة التاريخية للمثقفين الذين ستقع عليهم وظيفة وطنية قوامها البحث والتفتيش عن مكونات ثقافة المقاومة من داخل المكونات التاريخية للتنوعات الاهلية والارتقاء بها قولا وفعلا فوق الانتماءات التقليدية الضيقة , والتحرر من اعباء الانكفاء والضعف هو ما سعت اليه المقاومة منذ ارتطامها بالمشروع التوسعي للعدو الصهيوني في لبنان والمنطقة وعلى اساسه حققت الانجاز في التحرير وتستكمل مشروعها في الاستنهاض .