د. آمال يوسف مراد
أستاذ متعاقد برتبة أستاذ مساعد
الجامعة اللبنانية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الفرع الرابع – قسم اللغة العربية وآدابها
غسان كنفاني في «عائد إلى حيفا»: الإنسان قضية وقصة اللحم والدم خرافة!
بحث مقدَّم لمؤتمر «ثقافة المقاومة السنوي» الذي تنظمه مؤسسة «مثقفون في مواجهة الحرب الناعمة» وجمعية
«نساء من أجل القدس» و«الملتقى الثقافي الجامعي»
تاريخ 4، 5 (بيروت) و 6 (زحلة) أيار 2015
غسان كنفاني في «عائد إلى حيفا»:
الإنسان قضية وقصة اللحم والدم خرافة!
د. آمال يوسف مراد([1])
تُعتبر روايات غسان كنفاني ذات أثر وتأثير كبيرين، كونها تطرح الكثير من معالم القضيَّة الفلسطينيَّة، وتفاصيل الحياة الفلسطينيَّة، إلى جانب قدرتها الهائلة على طرح الأسئلة المعبِّرة عن الزمن الذي اختزنته، وعن الزمن اللاحق. وبذلك كانت رواياته بحق، روايات القضيَّة الفلسطينيَّة، والإنسان الفلسطيني، وبما يعني أن غسان كنفاني أراد في كتاباته كلها، أن يكون رائداً في التماهي مع موضوع شعبه، والتطلُّع دائماً إلى المستقبل من خلال إثارة الأسئلة ذات الصِّلة بهذا المستقبل.
في روايته «عائد إلى حيفا» وهي الرواية التي صدرت في العام 1969، يثير غسان كنفاني السؤال الكبير: ما هي أبعاد التكوين الإنساني في النهاية؟ ليصل إلى جواب كبير فحواه: الإنسان قضيَّة.. وعلينا في الوصول إلى هذا الجواب، أن نفهم سيرورة الرواية كلها، أبعادها ومعانيها ومراميها، أن نفهم لماذا وصلنا إلى هذا الكمّ من الإصرار على أن فلسطين لا يمكن أن تأتي بدون مقدِّمات، وهو ما يمثله بطل القصَّة خالد، الإبن الذي تركه الأب هناك، قبل توجهه إلى حيفا، وكان يريد الذهاب مع الفدائيين.
يتوجه بطل القصَّة سعيد س. بعد حرب 1967 مع زوجته إلى حيفا، آملاً أن يجد هناك ابنه الذي تركه قبل عشرين عاماً في المهد، وكان يظن أن ابنه هذا «خلدون»، الذي أصبح شاباً، سيكون بالصورة التي يتخيَّلها هو، والبعيدة بالتأكيد عن صورة الواقع الذي فُرِضَ بعد احتلال فلسطين.. ولنا أن نعيش ونعايش هذه الرِّحلة في سيارة الرجل الذي يتذكر كل شيء عن حيفا، وكأن عام 1948 وما سبق يعود الآن مجسَّداً بكل ملامحه، فحيفا تقفز إلى البال، تُسيطر على المشاعر، الخواطر، كل ملامح الإنسان…
وفي رحلة «السيارة» والتذكر، نعايش أيضاً التفكير بخلدون.. كيف سيلتقيه الأب، كيف ستلتقيه الأم، ماذا سيكون موقفه، وتنساب السيارة مُخترقة الشوارع السَّاكنة في تلافيف الذاكرة.
عند دخول البيت الذي تركه سعيد س. منذ عام 1948، تصدمنا ميريام المُقيمة في البيت على أنه «بيتها»، وتتحدَّث عن «دوف» ابنها الذي كان «خلدون» ابن سعيد س.، تقول إنه سيأتي بعد حين، وحين يأتي نَعِي مقولة أن الإنسان قضيَّة قبل أي شيء آخر.. فهذا الدوف لا يمتُّ بأيِّ صلة إلى سعيد س. وإلى زوجته.. لقد تركاه في المهد، وربَّته أسرة احتلال، وبرزت كل ملامح الاحتلال لتكون في وجهه.. فكيف نريد له أن يكون «خلدون» الطفل القديم.. وهذا ما يجعل بطلنا سعيد س. يقرِّر: «… تستطيعون البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب».. إن الحقيقة تصرخ بقوة وعنف، نتذكر في مسار التطور هذا، أن سعيد س. كان يرفض أن يذهب ابنه خالد مع الفدائيين، لكنه الآن، وقد رأى ما رأى، واستوعب ما استوعب، يتمنى أن يكون خالد قد ذهب مع الفدائيين أثناء غيابهما هو وزوجته عنه. إذاً تحول كل المفهوم، واستوعب سعيد س. كل شيء بوضوح.. ما عاد يهمُّه الآن خلدون «دوف» هذا الذي يقف في الصَّف المُعَادِي، لأنه شرب كل المفاهيم الصهيونيَّة وتربَّى في أسرة سرقت بيت سعيد س. واستولت عليه.
إنها البداية إذن.. كان على الفلسطيني أن يبدأ هذه البداية الصحيحة من خلال الفداء والتضحية والتماهي مع الأرض.. كان عليه أن يُنهي فترة الأحلام، وأن يدخل ويتداخل مع الواقع.. وكان لا بد لمثل شخصية سعيد س. من مواجهة الحقيقة، من الدخول في أتون التجربة.. لأنه لو لم يُقَابِل دوف «خلدون» لَبَقِيَ في ذهنه ابنه الذي تركه منذ عشرين عاماً.. أما بعد اللقاء الذي كان الكاشف فقد وُضِعَت النقاط على الحروف.
«عائد إلى حيفا» تطرح الأسئلة، وتشكِّل أيضاً أجوبتها، تقول بالحرف العريض الواضح، إن الإنسان قضيَّة، تربية، حياة متصلة، لا يكفي أن تكون أباً، بل عليك أن تربِّي، أن تزرع، أن تُشَكِّل، ليكون ابنك حاملاً الكثير من ملامحك النفسيَّة والحياتيَّة والوطنيَّة.. ودون ريب فقد كانت مثل هذه الرواية شديدة الأثر والامتداد في طرح مقولتها ([2]).
الحياة الفلسطينيَّة في إطارها العربي بسيطة في ظاهرها نعم.. لكنها ليست كذلك في حقيقتها وفيما تنطوي عليه من تعقيدات وتركيبات وتشعبات لها امتدادات ليس في الواقع العربي فحسب، ولكن في العالم أيضاً.. فمن فلسطين إلى العالم.. ومن العالم إلى فلسطين، تلك هي مسافة الرؤية الروائيَّة الفلسطينيَّة طولاً وعرضاً، ارتفاعاً وعمقاً، وهذا ما يجب أن تستوعبه الرواية.
أما عندما نقول الرواية، فنحن نعني – الروايات حتماً – وهي التي لا تولد دفعة واحدة، كما لا تولد من العدم.. فالرِّوائيُّون موجودون، والرواية – الواقع موجودة أيضاً – لهذا تغدو ملحميَّة الرواية هي الأكثر جدارة للتعبير عن شموليَّة الواقع.. لكي تكون مرجعيَّة أيضاً ([3]).
إن المُقَاوِم في أدب كنفاني سواء كان مُقَاتِلاً أو بطلاً قوميَّاً أو فدائيَّاً، إنَّما كان يُساق إلى مصيره بدوافع إنسانيَّة، فهو في معظم صُوَره فلاح مُحِب لأرضه ولعائلته ولأهل قريته، عطوف رقيق المشاعر، بهيّ الطلعة، وإنَّما حبه للحياة هو الذي يدفعه إلى تبنِّي القتال. وما حمله للسلاح وتضحيته بنفسه إلا دفاع عن بقائه أو انتقام لحق مُغتَصَب أو كرامة مهدورة ([4]).
في «عائد إلى حيفا» نجد الأم المفجوعة بفقدان ولدها، تعيش إحساساً بالذنب لتركها ابنها الصغير – الذي لم يتعدَّ شهره الخامس – وحيداً في البيت. ورغم أن ما حصل كان أقوى من طاقتها، فإنها دُفِعَت إلى فعلتها تلك دفعاً – فهي امرأة ريفيَّة حديثة العهد بالمدينة التي لم تقبلها قط – وهي دُفِعَت أمام موج الناس الصَّاخب دفعاً إلى البحر حيث تعذَّر عليها الرجوع إلى بيتها – إذ إن جميع المنافذ كانت قد سُدَّت في وجهها – وهي أيضاً لم تألُ جهداً في السؤال عن ابنها سواء عن طريق الصليب الأحمر أو بعض الأصدقاء. إلا أن كل هذه الحقائق لم تُخَفِّف من إحساسها بمسؤوليتها عن الفاجعة التي أصابتها. لذلك عاشت عشرين سنة تتعذَّب عذاباً كبيراً، عذاباً «ينتصب عملاقاً لا يُصدَّق في أحشائها ورأسها وقلبها وذاكرتها وتصوُّراتها، ويُهيمن على كل مستقبلها» ([5]). وقد عاش هذا العذاب معها في كل لقمة أكلتها وفي كل كوخ عاشت فيه وفي كل نظرة ألقتها على أطفالها وزوجها. كل هذه العذابات عاشتها في سرِّها، في صمتها، أما في الظاهر فكانت تتجاهل الأمر فلا تتكلم عن ابنها حتى لإخوته. ولكنها لم تستطع أن تستمر في صمتها بل دفعتها عاطفة الأمومة للبحث عن ابنها حين لاحت لها بارقة أمل بعد عشرين سنة، مُتناسِيَة ما يمكن أن تفعله السنوات العشرون في عمر المرء. لذلك تُلِحُّ على زوجها باصطحابها إلى حيفا علَّها تستعيد ابنها الضائع، ولكن عمق المأساة وإحساس الذنب الذي تعيشه يجعلانها تتكلم عن الموضوع مُداورة، فهي لا تعترف بأنها تريد أن ترى خلدون وإنما تقول لزوجها: «إنهم يذهبون إلى كل مكان، ألا نذهب إلى حيفا؟ … نرى بيتنا هناك. فقط نراه» ([6]).
إن عاطفة الأمومة التي تُسيطر على صفية تُخْرِس صوت العقل، لذلك فهي تعتقد أن ابنها سيختار أبويه الحقيقيَّين، تقول ذلك بكل ثقة وتُنْكِرُ على المرأة التي ربَّته عشرين عاماً أن تدعوه ابنها وعلى الرجل الذي رعاه أن يكون أباً، لذلك تستنكر قول ميريام اليهودية، «أنظر مَن الذي يتحدث! إنها تقول مثل أبيه وكأن لخلدون أباً غيرك!» ([7]).
وهي تؤمن بالعاطفة الأبوية وتعتقد جازمة «أن ابنها سيختار أبَوَيْه الحقيقيين… لا يمكن أن يتنكَّر لنداء الدم واللحم» ([8]). ولكنها تُفْجَعُ بآمالها عندما يتمّ اللقاء بينهما وبين ابنهما وتكتشف أنه يُنْكِرها، يُنْكِر علاقة اللحم والدم لأن الإنسان في النهاية هو قضيَّة.
لقد فُجِعَت الأم بأعز أمانيها وقد جعلتها الحالة التي عاشتها – على مدى عشرين سنة – تشيخ قبل الأوان فاستنزفت شبابها وهي تنتظر هذه اللحظة دون أن يدور في خُلْدِها أنها ستكون لحظة مُرَوِّعَة إلى هذا الحد ([9]). وهي إلى ذلك امرأة بسيطة تعبر عن فلسفة عميقة بكلمات بسيطة عاديَّة: «ولأننا جُبَنَاء يصير هو كذلك». هذه العبارة على بساطتها تختصر لب القضيَّة التي تطرحها الرواية، والتي تُحَمِّل شرحها عدة صفحات أوردها الكاتب على لسان الزوج سعيد س. في حوار مع شخصيَّة الإبن دوف([10]) والتي تتلخص في ردِّ الفلسطينيِّين على ادعاءات الصهيونية التي تُبرِّر أعمالها في فلسطين بسبب ما وقع فيه الفلسطينيون من أخطاء.
والقصَّة، رغم ما قيل فيها من أقوال، فإن الكاتب قد ألبس شخصيَّاتها عامَّة – وشخصيَّة الأم خاصَّة – لحماً ودماً إنسانيَّين لا يَخْفَيَان على القارئ المُتمعِّن.
ولم ينسَ كنفاني أن يشير إلى تلك العلاقة الحميمة التي تربط بين الأم وأبنائها، فالتفت إلى الأمور الصغيرة التي تؤلف لب العلاقة بينهما. وهو رغم تعاطفه الواضح مع هذه الشخصيَّة لم يفُتْه أن يُنوِّه إلى بعض السلبيَّات الموجودة فيها، ولكنه في عرضه هذا لم يكن ناقداً أو واعظاً بل مجرد عارض كَمَنْ يرسم لوحة همّه صدق التصوُّر لا استبعاد الشوائب من رسمه ([11]).
أما ميريام في هذه الرواية فهي امرأة عجوز قَدِمَت إلى فلسطين من بولونيا، إذ قُتِلَ أبوها وأخوها على أيدي النازيين. وهي امرأة لا يروق لها ما تقوم به المنظمات اليهودية من أعمال إجراميَّة فتتألم لرؤية طفل عربي يوضع في الشاحنة كحطبة وتنتقد ذلك، وإذ يفرح زوجها لأنه يُشاهد سبتاً حقيقيَّاً في حيفا، تبكي هي لأنه لم يعد هناك جمعة حقيقيَّة ولا أحداً حقيقيَّاً ([12]).
يكشف الكاتب من خلال شخصيَّة ميريام عن رؤية إنسانيَّة شاملة. إذ يُظْهِر أن المظلومين في كل بقاع الأرض هم في صف واحد ضد الظالمين. لذلك دانت ميريام أعمال العصابات اليهودية في حيفا وحاولت أن تعبر عن هذه الإدانة بالرغبة في الرجوع إلى بولونيا. إلا أن هذه المشاعر الإنسانيَّة الرقيقة لم تمنعها من تبنِّي طفل هو من الطرف المُعَادِي، وتُرَبِّيه ليصبح عدواً لشعبه، يحمل السلاح ضد أبيه وقومه، فينشأ في القضيَّة عدو من نوع جديد. عدو يحمل دماً عربياً، ولكنه يُرَبَّى تربية يهودية. لقد ذهب إلى الكنيست منذ كان طفلاً، وأكل الكوشير، ودرس العبرية، واعترف بميريام وأفرات أبَوَيْن وتنكَّر لأبَوَيْه في الدَّم – سعيد وصفيَّة – إنها عداوة من نوع جديد. عداوة تطرح مسألة إنسانية كبرى. هل الأبُوَّة هي علاقة لحم ودم، أم هي تربية ونهج يُمَارَس على الطفل يوماً بعد يوم وساعة وراء ساعة؟([13]) يتبيَّن من خلال الحوار الذي جرى بين سعيد س. وابنه خلدون المُسَمَّى دوف أنهما وصلا لقناعة أن الإنسان هو قضيَّة، وما قصة اللحم والدم التي تتكلم عنها الأم إلا هراء. «لقد علموه عشرين سنة كيف يكون يوماً يوماً، ساعة ساعة، مع الأكل والشراب والفراش… سرقوه» ([14]).
هذا العدو الجديد لا يكتفي بحمل مشاعر العداء فقط ولكنه يدين أيضاً، ويُبَرِّر لنفسه ولقومه– الجدد – ما قاموا به من أعمال ([15]) «كان عليكم ألاَّ تخرجوا من حيفا. وإذا لم يكن ذلك مُمْكِنَاً فقد كان عليكم بأي ثمن ألاَّ تتركوا طفلاً رضيعاً في السرير. وإذا كان هذا أيضاً مستحيلاً فقد كان عليكم ألاَّ تكفوا عن محاولة العودة… لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة! ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا»)[16]).
إن فكرة أن الإنسان «قضيَّة» سيطرت على كنفاني حين كتب «عائد إلى حيفا»، فهي قصَّة مُحَاكَمَة للعلاقات والرَّوابط، واقعية الإطار، رومنسيَّة العقدة، حيث يكتشف سعيد أن ترك الإبن لا يختلف عن ترك البيت وترك المدينة. فهو قد كان يشعر أن حيفا أنكرته وتجهَّمت في وجهه وهو يدخل إليها، كما أنكره بيته حين دخله، ورغم انسياقه وراء الدَّقائق الصَّغيرة التي كانت تربطه بذلك البيت، وقياساً على ذلك فإن «خلدون» أو «دوف» سيُنْكِره أيضاً، وهكذا كان، ولكن بعد أن ألقى «دوف» على أبيه العربي «أن الإنسان في نهاية الأمر قضيَّة»، وتجد هذه المقولة صداها لدى سعيد: ولكن إذا كان الإنسان قضيَّة فَلِمَ جاء سعيد يبحث عن ابنه؟ ويكون جوابه على ذلك «لست أدري، ربَّما لأنني لم أكن أعرف ذلك». فقد استغرب «دوف» كيف يترك أبوان ابنهما ويهربان ثم يجد هذا الإبن مَنْ هو ليس أمه وليس أباه ليحتضناه ويُرَبِّيَاه عشرين سنة، ويقرِّر أنه لا يشعر إزاء أبويه الحقيقيين بأي شعور خاص. ولكن سعيداً الذي أحسَّ أن رابطة الدم قد أذلَّته إلى هذا الحد، زعم لدوف أن ابنه خالداً قد التحق بالفدائيين وأن جولته قد تكون ضده في معركة قادمة. كذب على نفسه، إذ إن خالداً لم يكن قد التحق بالفدائيين بعد، ولكنها كانت كذبة مُريحة، كانت العلاقة بالماضي عاره، فكان يريد أن يمد خيوط علاقة نحو المستقبل. ولأول مرة نجد أن الصَّدمة القوية قد هزَّت أحد أبطال كنفاني من الأعماق وردَّته إلى أن يتساءل: ما معنى الأبوَّة؟ الإنسان قضيَّة: أيَّة قضيَّة؟ ما معنى الوطن؟ «أهو هذان المقعدان اللذان ظلاَّ في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس المعلقة على الجدار؟…» ([17]).
في هذه القصَّة بلغت مشكلة الرَّوابط والعلائق قيمتها، أو نهايتها، لدى كنفاني، على المستويين النظري والتطبيقي، ومن ثم تحولت بأجزاء كثيرة من القصَّة فجعلتها حواراً أو دفاعاً عن موقف، وختمت على نحوٍ سافر، ما كان تمرُّساً مُوَارِبَاً بالمُشكلة من قبل. وقد يخطر لِمَنْ يقرأ قصصه أن يتساءل: تُرى لماذا لم يلتفت كثيراً إلى علاقات أخرى كثيرة مثل العلاقات الزوجيَّة، والعلاقات الجنسيَّة عامَّة، والعلاقات المذهبيَّة، وغيرها، فإن تعليل هذا الازورار أو المُجَافَاة يُحَدِّد العالم الذي كان يروده، ومن ثم يُحَدِّد الغايات التي كانت تُشْغِل ذهنه من حيث هو فنان ملتزم. ولا ريب أن انشغاله بالإنسان كان يصرف ذهنه إلى جوانب النشاط الإنساني، على ظهر الأرض، من خلال متطلبات القوة أو العجز الإنسانية، أتُراه لهذا وحده لم يحاول أن يُنشيء جسراً يصل بين الأرض والسماء؟ ([18])
في «عائد إلى حيفا» ليس هناك أبطال بالمعنى الحقيقي. الأبطال هم مجرد حالات تسمح لكنفاني أن يُعلن القطيعة والالتحام بالثورة. الماضي القريب يجب رفضه عملياً. والرفض العملي يبدأ مع الطريق الثوري. لأول مرة يظهر الإسرائيلي واضحاً، وعنده مشاكله. فميريام الهربة من «أوشفيتز»، الإنسانة التي تتقزَّز من تصرفات الهاغاناه ولا تريد البقاء في فلسطين، ميريام هذه تتحول إلى مجرَّد حالة. الصِّراع يُنْهِي إنسانيَّتها. الإنسان هو مسار تاريخي في نهاية الأمر. صوت كنفاني الحاد يُغَطِّي على الطابع الفني ل «عائد إلى حيفا». لكن في صوته تتَّحد معالم القضيَّة كحد السكين. والأحلام القديمة تتحطم. والزمن هو زمن الفدائي خالد وليس زمان سعيد.
بهذه الرواية تنتهي رحلة كنفاني القصصيَّة إلى فلسطين. هذه الرحلة تُسَجِّل عبر أبطال قصصه المأساة: إيقاعها، واقعها، وطريقة الخروج منها. إنها تتواكب مع القضيَّة حتى ليصعب التمييز بينهما بشكل حاد. كنفاني الأديب والفنان يتخلى عن ذاتيَّته ويذوب في نهاية المطاف في بحر الجماهير. وعندما يموت يتناثر على أرض الوطن، مثل جميع أبطاله. فالأرض تضم الجميع، والوطن هو طريق الوصول إليه.
إن طريق الفن الثوري صعبة ومليئة بالأشواك. إن عليه أن يُزيل رُكَامَاً أيديولوجيَّاً كبيراً. رُكَام الطبقات السَّائدة التي حوَّلت الفن من أداة جماعيَّة، إلى مجرد لهو وترف، يتخذ وظيفة طمس الحقائق. هذا الطريق ليس سهلاً، على الفنان أن يُحَافِظَ على مُعَادَلَة مُتوازنة، معادلة الحاضر والمستقبل، معادلة الاستيعاب والتجاوز – استيعاب الماضي وتجاوزه في آنٍ معاً ([19]).
** ** **
المصادر والمراجع:
(1) أبو خالد، خالد، «الرِّواية الفلسطينيَّة والضرورة المرجعيَّة»، مجلة «نضال الشعب»، نيسان 1992.
(2) الدَّجواني، عبد الكريم، «عائد إلى حيفا»، مجلة «صوت فلسطين»، العدد 330، تموز 1995.
(3) حبيب، نجمة خليل، «النموذج الإنساني في أدب غسان كنفاني»، مؤسَّسة غسان كنفاني الثقافيَّة، الطبعة الأولى 1999.
(4) عباس، إحسان؛ النقيب، فضل؛ خوري، الياس؛ «غسان كنفاني إنساناً وأديباً ومُناضلاً»، الاتحاد العام للكتَّاب والصحفيِّين الفلسطينيِّين، منشورات الاتحاد (4).
(5) كنفاني، غسان، الآثار الكاملة، الروايات، «عائد إلى حيفا»، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، تشرين الثاني 1972.
الدوريات:
(1) مجلة «صوت فلسطين»، العدد 330، تموز 1995.
(2) مجلة «نضال الشعب»، نيسان 1992.
** ** **
([1]) أستاذة في الجامعة اللبنانيَّة.
([2]) الدَّجواني، عبد الكريم، «عائد إلى حيفا»، مجلة «صوت فلسطين»، العدد 330، تموز 1995، ص 38.
([3]) أبو خالد، خالد، «الرواية الفلسطينيَّة والضَّرورة المرجعيَّة»، مجلة «نضال الشعب»، نيسان 1992، ص 43.
([4]) حبيب، نجمة خليل، «النموذج الإنساني في أدب غسان كنفاني»، مؤسَّسة غسان كنفاني الثقافيَّة، الطبعة الأولى 1999، ص 84.
([5]) كنفاني، غسان، الآثار الكاملة، الروايات، «عائد إلى حيفا»، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، تشرين الثاني 1972، ص 345.
([6]) كنفاني، غسان، الآثار الكاملة، الرِّوايات، «عائد إلى حيفا»، ص 357 – 358.
([7]) المصدر السابق، ص 383.
([8]) المصدر السابق، ص 384.
([9]) المصدر السابق، ص 406.
([10]) المصدر السابق، ص 404-416.
([11]) حبيب، نجمة خليل، «النموذج الإنساني في أدب غسان كنفاني»، ص 52.
([12]) كنفاني، غسان، الآثار الكاملة، الرِّوايات، «عائد إلى حيفا»، ص 377.
([13]) كنفاني، غسان، الآثار الكاملة، الرِّوايات، «عائد إلى حيفا»، ص 378-384-400-402.
([14]) المصدر السابق، ص 384.
([15]) حبيب، نجمة خليل، «النموذج الإنساني في أدب غسان كنفاني»، ص 95.
([16]) كنفاني، غسان، الآثار الكاملة، الرِّوايات، «عائد إلى حيفا»، ص 406.
([17]) كنفاني، غسان، الآثار الكاملة، الرِّوايات، «عائد إلى حيفا»، ص 405.
([18]) عباس، إحسان؛ النقيب، فضل؛ خوري، الياس؛ «غسان كنفاني إنساناً وأديباً ومُناضلاً»، الاتحاد العام للكتَّاب والصحفيِّين الفلسطينيِّين، منشورات الاتحاد (4)، ص 36.
([19])عباس، إحسان؛ النقيب، فضل؛ خوري، الياس؛ «غسان كنفاني إنساناً وأديباً ومُناضلاً»، ص 127.