لؤيّ زيتوني لا تربطه بي (ياء) النسبة وحدها، مع أنّ اسم هذه العائلة (زيتون) عابرٌ الطوائفَ ،كاسرٌ الحدودَ القائمة بينها . الرابط الحقيقيُّ العميق بيننا بسيط شفّافٌ شفافيةَ الهواء الذي نتنشّقه . أعني به انتماءَ كلينا إلى ما هو إنسانيّ من جهة ، وما هو ثقافيّ من جهة أخرى .
عرفت هذا الشابّ ، يومَ كان طالبا في قسم اللغة العربيّة في آداب البقاع المحروسة.
كان لافتا يومَها دون سائر طلّابِ صفّه . ما زلت أذكر بحثا أنجزه وهو في السنة الثالثة . كان ذلك البحث علامةً فارقة شديدةَ الدلالة على مستقبله العلميّ الثقافيّ . ولقد صدقت تلك العلامة ،وها نحن على مسافة سنوات عديدة من زمانها.الدكتوراه التي نالها مع دقّة مباحثها ،وأهميّة النتائج التي وصلت إليها ،كانت مجرّد محطّة على طريق تألّقه.ولا أعني بذلك أنّ مراسه الكتابيّ ، ما بعد الدكتوراه، هو ما أنبأنا بصفته البحثيّة ،مع أهميّة ذلك المراس ، وما أومأ إليه من دلالات. لقد وُلِد لؤيّ باحثا ، مع دراسته الأكاديميّة الأولى التي نال على أساسها شهادة دبلوم الدراسات العليا . أعني بها الكتابَ الموجود بين يدينا “شعر الفداء والانبعاث ” . لؤيّ الباحث السائر بتؤدة على درب الثقافة استطاع من خلال هذا الكتاب أن يمتلك ثقافة نقديّة حداثيّة . كيف لا ، والعمل البحثيّ تملّكٌّ وإنتاج؟ ولا يمكن لأيّ باحث أن ينتج الجديد من دون أن يكون قد امتلك القديم . ومفرداتٌ يطالعنا بها الباب الأوّل من هذا الكتاب مثل : الحداثة ، نزعة الفداء والانبعاث ، الرؤية الجديدة إلى العالم ، الرمز الانبعاثيّ في الموروثين الدينيّ والتاريخيّ ، المؤثّر الأنتروبولوجي ،المؤثّر الإليوتي التثاقفي، هي عناوين تؤرّق الباحث الجادّ لما تثيره من جدل قائم على خلافيّة خلّاقة .
ولا تتّسع هذه العناوين لمعرفة واضحة بأسئلة الحركة النقديّة الأساسيّة الجديدة فحسب ، ولكنّها تتّسع لتوغّل تدقيقيّ في المسائل المثارة أيضا . والإلمام بهذه العناوين ،وقبل الدخول إلى حقيقة ما أنجزه باحثنا تحت مفرداتها ، يعني إدراكَ عمق الثقافة التي حصّلها في مرحلة الماجستير ، وأهميّةِ وظيفتِها في مستقبله البحثيّ . إنّه بناء وطيد لباحث واعد .
ولا يتجلّى إبداع لؤيّ من خلال هذه العناوين وحدها ، يظهر إبداعُه العميق من خلال تحليله النصوصَ الشعريّة في الباب الثاني . ولعلّ أبهى تجلّيات ذلك الإبداع هو تماسكه البحثيّ .ثمّة أساتذة يرون إلى أنفسهم على أنّهم كبار،يتوهون في تعاملهم مع المنهج البنيوي الذي اعتمده لؤيّ . والعودة إلى بعض كتب هؤلاء تبدي لنا أنّهم لم يضلّوا طريق التفكيكيّة التي ادّعوا امتلاكها،ضلّوا طريق البنيويّة أيضا، حين
مكثوا داخل دائرة التنظير والاحصاء ،ولم يحسنوا الافلات منها .
وتجد بين هؤلاء الذين تضخّمت رؤوسهم مَن يحرّم الربط بين الموضوعيّ والبنيويّ فقط ؛ لأنّهم لم يقوموا ،هم، بمثل هذا الربط في دراساتهم. ومخر لؤيّ عباب اليمّ من غير تهيّب . خذ نموذجا تحليلَه قصيدة “حبّ وجلجلة ” لخليل حاوي .إنّ أهميّة ما وصل إليه باحثنا لا تنحصر في الدراسة العلميّة لإيقاعيّة القصيدة وحدها ، ولكن في قدرته على الربط بين حركة الايقاع وثنائيّة ( الموت/الانبعاث) التي راقب حاوي العالم من خلالها.
وكان إبداع لؤيّ النقديّ أكثر وضوحا حين استطاع أن يأخذ بيدنا لنتبيّن العلاقة الوطيدة بين تلك الثنائيّة ومعجم القصيدة نفسها . رأى أنّ حركة القصيدة قد جرت ضمن الصراع القائم داخل هذه الثنائيّة . وهذا ما أدّى، بنظره، إلى حضور حقلين معجميّين أساسيّين : حقل الموت وحقل الحياة الذي تعالى بسبب حضور حقل ثالث هو حقل الانبعاث.
ولا يشير مثل هذا التحليل إلى أهميّة هذه الدراسة ، وإلى خطورة ما قدّمته من منهج نقديّ فحسب ،ولكنّه يمثّل نبوءة بباحث واعد أيضا، تجاوز الكثيرين ممّن يتعجّبون كيف تدخل رؤوسهم من الأبواب.
ويبقى أنّ لؤيّا ناجح ؛ لأنّه متبحّر بالعلم ،متّصفٌ بالأمانة العلميّة ، متمسّكٌ بالقيم الأخلاقيّة إلى أبعد الحدود .
ومهما يكن من أمر ، فإنّني أزفّ إلى مجتمعنا ، وإلى الثقافة ، ومن خلال هذا اللقاء الثقافيّ الرائع والمتواضع في آن ، لؤيّ زيتوني مثقّفا صاعدا مشتغلا على نفسه . وإنّي لأرى بعين الغيب قلما ملتزما الحقيقةَ العلميّة ، مؤمنا بالإنسان والوطن ، قادرا على إنتاج المعرفة وإغناء الثقافة ، وإن كانت الحاجة ماسّة إلى مؤسّسات تثمّر جهود الأفراد المبدعين وتقنّنها في مواجهة التحديات العاصفة بمجتمعنا وأمّتنا .
علي مهدي زيتون