كم نحن بحاجة في زمننا هذا إلى أمثالك! كم نحن بحاجة إلى الأستاذ الجامعي الذي لا يحصر عمله في إطار الوظيفة بل يحوله إلى رسالة، إلى أستاذ الأدب الذي يدرك أن المهمة الأولى له تكمن في صفة الناقد الأدبي الذي يطور قدرته على ممارسة القراءة المعمقة للنصوص الأدبية ثم يسعى إلى ايصال الوسائل التي تمكن طلابه من أن يحذوا حذوه. كم نحن بحاجة إلى الأستاذ الذي لا يرى في حصوله على شهادة الدكتوراه نهاية للمجهود العلمي الذي بذله، بل بداية رحلة استكشاف فكرية لا تنتهي، للباحث الذي كلما بلغ قمة تراءت له قمم أخرى… كم نحن بحاجة في زمننا هذا للشاب المسؤول، الذي يشبه من تكلم عليه الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري بقوله إنه يشعر، وهو يضع الحجر الصغير، أنه يساهم في بناء العالم. شاب يصدر وهو في بداية طريقه العملي كتاباً سادساً يكلل مجموعة كتاباته التي تتراوح مواضيعها بين الأدبي والوجداني والعلمي، ولكنها بمجملها مرتبطة بمسار فكري ونفسي واحد. شاب يجمع بين جدية المسؤولية العلمية وتواضع المثقف الحقيقي الذي يعرف مقدار ما تبقى أمامه من مخزون العلوم والأفكار ينهل منها مدى حياته.
والأهم من ذلك كله، كم نحن بحاجة، في هذا الزمن السيئ حيث يميل الكثيرون إلى الاستقالة من واجباتهم والتنكر للمبادئ، إلى الإنسان الواثق من النهج الفكري الذي اختاره المدرك لأهمية المدرسة التي انتمى إليها، يجاهر بها بثقة، لا يخشى الأحقاد الصغيرة التي يمكن أن تضع العراقيل في مساره العلمي أو المهني، يعتمد فقط على صفاء نفسه والصدق الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من شخصيته، يفرض الاحترام حتى على من يختلفون معه في الرأي بهدوئه واتزانه وباجتهاده الدائم في أكثر من مجال.
وقد كان انتساب الدكتور لؤي زيتوني إلى الملتقى الثقافي الجامعي جزءاً مكملاً لمسيرته الثقافية ولانخراطه ضمن العمل الثقافي الهادف، فالملتقى الثقافي نشأ بهدف تفعيل العمل الثقافي الملتزم بالقضايا الوطنية في مواجهة تيارات تعمل على هدم القيم التي نؤمن بها والتي تؤمن الخلاص لوطننا، فكان من أهم إنجازات الممر كتاب ضم مجموعة من الأبحاث في الرواية العربية المعاصرة، ومؤتمراً سنوياً للأدب المقاوم يشارك فيه، بالإضافة إلى أعضاء الملتقى، نقاد وأدباء من أرجاء العالم العربي.
أما الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه اليوم، فهو يشكل خلاصة قراءات مكثفة ومعمقة، في كل ما يتعلق بالحداثة وتحديداً النزعة التموزية في الشعر الحديث. شخصياً رأيت فيه دراسة قدمت لي رؤية واضحة وشاملة ركزت معلومات كانت مشتتة وبسطت مفاهيم كانت معقدة وجمعت معلومات غزيرة ولكنها في الوقت نفسه منظمة حول العديد من أعلام الفكر والأدب المعاصرين، فنحن للأسف، مضطرون في أكثر الأحيان لتحصيل المعلومات المتعلقة بالأدب المعاصر بشكل فردي إذ تتوقف المناهج في مدارسنا وجامعاتنا عند حدود بدايات القرن العشرين ولا تتعب نفسها بالتطرق إلى العصور اللاحقة. لذلك جاء كتاب “شعر الفداء والانبعاث” ليساهم في سد ثغرة في هذا المجال. بالإضافة إلى المقاربة التي اعتمدها الباحث في دراسته وهي مقاربة حديثة تحاكي القراءة الثقافية التي تأخذ في اعتبارها ثقافة الكاتب والنقد الجتماعي الذي يربط مضمون النص وشكله بالعوامل الإجتماعية والتاريخية التي نشأ فيها.
أخيراً أقول إن الأزمنة الصعبة، تلك التي تكون فيها روح الأمة مهددة، تستلزم أدباً يحمل معاني القوة والنهوض… وفي زمننا هذا، ربما أكثر من زمن الأدباء التموزيين الذين تناولهم كتاب الدكتور لؤي، في هذا الزمن السيء حيث تتجلى سياسات الدول المعادية في خطط تهدف إلى إشعال ما يسميه المفكر يوسف الأشقر بحرب المجتمع على نفسه، الحرب التي تعمل على تدمير المجتمع من الداخل، في حروب طائفية ومذهبية ونشر أفكار وممارسات تطيح بكل القيم وتزعزع أساسات المجتمع، تبرز أهمية كتاب “شعر الفداء والانبعاث” الذي يلقي الضوء على فترة ناصعة من تاريخ أدبنا، على مجموعة من الشعراء الذين تناسوا النرجسية والفردية، متمثلين بأنطون سعاده المفكر الذي بذل حياته في سبيل نهوض أمته الروحي والمادي، لينكبوا على التفكير العميق والمسؤول في شعر نهضوي يعبر عن نفسية الأمة التي يستنبطها من جذورها الحضارية ويساهم في عبور الثقافة نحو الحداثة، كما يضيء الكتاب على مضمون يساعد الفكر على التخلص من مخاطر الإحباط واليأس في شعر ينبض قوة وأملاً بالتجدد والقيامة.