الملتقى الثقافي الجامعي مجموعة من المشتغلين بالثقافة ، يحملون همّا وطنيّا إنسانيّا . وهم آتون من أجيال متعدّدة ، بدءا من شيخ كبير السنّ مثلي و… ، مرورا بصبايا وشبّان في ربيع العمر : هالة ، فاتن ، غسّان …. ، وصولا إلى أزاهير قيد التفتّح كفرح و … .وهم قد صاروا جماعة مخترقةً الطوائفَ ، والمناطق ، والحدود ،تريد لنفسها أن تقدّم الصورة الأمثل للمجتمع، أن تُري بالعين المجرّدة المجتمعَ القدوة ، والمجتمع المفترض.
جئنا اليوم نكرّم مَن تمثّل أنموذجَ توجّهِنا هذا . نكرّمها ، قدر الجهد ، وقدر الاستطاعة ، بصفتها الإنسانيّة من جهةٍ ، وبصفتها الروائيّة من جهة ثانية ، خصوصا أنّ روايتها ركيزة قويّة من ركائز الرواية العربيّة الحديثة .والمشهد الروائيّ العربيّ اليوم لن يكون مشهدا مكتملا إلّا بحضور رواية إميلي نصرالله .
والتفافنا اليوم ليس التفافا حول نصّ روائيّ محدّد لهذه السيّدة الفاضلة . التفافنا اليوم حول هذه السيّدة نفسها ؛ لما تمثّله من قيم إنسانيّة وأخلاقيّة ووطنيّة يشكّل الأدب صوتها الأقوى والأفعل.
وأنت حين تستمع إليها تحدّثك بأبسط الأحاديث ، أو تراقب سلوكها حيال مسألة عاديّة بسيطة جدّا ، لن تجد فيها سوى استغراقها في أخلاق القرية البريئة ، وقيمها المصفّاة . الكفير حاضرة
دائما وبوضوح في (أنا) السيّدة الجليلة إميلي نصرالله .
وحضور الكفير ليس حضورا سلطويّا متحكّما ، ولكنّه خيارٌ يتنافى مع ما ذهب إليه علم النفس بالنسبة إلى سلطة ( الأنا الأعلى ). تمثّل هذه القرية أنموذجا ترى فيه الثقافة الإنسانيّة تحقّقا طبيعيّا للحضور المعافى لأيّة قرية من القرى . وهل الثقافيّ سوى نتاجٍ للطبيعيّ ،وانفصالٍ عنه في آنٍ معا؟
وعلاقة إميلي نصرالله بقريتها ليست علاقة الابنة بأمّها فقط، هي علاقة مؤسّسة على رضاها عن تلك القرية ، ذلك الرضا الذي يبلغ حدّ الإعجاب؛ ولذلك صارت خيارَها المجتمعي . أديبتُنا تمثيل جيّد حيّ لولادة الثقافيّ الطيّب من الطبيعيّ النظيف . فالطبيعة إبداعٌ والثقافة إبداع على إبداع .
كانت إميلي نصرالله رهينة بيتها ،ولمدّة طويلة ، بسببٍ من ذلك التواشج القائم بين الطبيعة والثقافة في ذاتها. لم تغلّب موقعَها الأدبيّ الثقافيّ على موقعها الإنسانيّ داخل أسرة . كان الموقع الانسانيّ سلطة ، وكذلك الموقعُ الأدبيّ . ولقد استطاعت أن توائم بين الموقعين بنجاحٍ كبير ، بل كانت مبدعةً في ذلك . والحديث عن حضور القرية في سلوك أديبتنا يستدرجنا للحديث عن ثنائيّة ( القرية / المهجر) في روايتها . هل يعبّر حضور هذه الثنائيّة عن أزمة مجتمع ؟ وأزمة المجتمع هل هي تعبير عن أزمة ثقافة ؟ وأزمة الثقافة هل هي تعبير عن مأزق سياسيّ ؟ وبعد كلّ ذلك هل وقعت الذات المجتمعيّة فريسة ذلك المأزق ؟
لم يكن حضور هذه الثنائيّة إشارة إلى تعالي الروح الجمعيّة لابناء القرية اللبنانيّة على ذلك المأزق من خلال اجتراح الحلولِ، والحلولِ الصعبة والمرّة أحيانا كثيرة ، بقدر ما كان تمثيلا واضحا لارتقاء الخاصّ إلى العالميّ . وصدمة البساطة ، بساطةِ القرية ، في مواجهة الحضارة الغربيّة ليست سوى ارتقاءٍ بالأدب المحليّ ليكون أدبا إنسانيّا بامتياز . وليس كثيرا أن يكون أدب إميلي نصرالله أدبا إنسانيّا سامق المقام .
ولعلّ أوضح ما في هذا البعد الانسانيّ عند أديبتنا ، ما تجلّى في السؤال الجوهريّ الذي طرحته روايتها على ثقافة العصر . وهي لم تنتظر إجابة ؛لأنّ هذا السؤال ، ككلّ أسئلة أدبائنا الكبار، سؤال حرج ومحرج . كيف لا ، وعلاقة أدبنا الجيّد بالثقافة التي تظلّله علاقة مشكليّة، وعلاقة مواجهة ، لا علاقة انضواءٍ تحت سقفها كحال الأدب الغربيّ ؟ الثقافة الغربيّة نتجت عن حاجات المجتمع الغربيّ المعرفيّة ، فأنتجت أدبها . أمّا ثقافتنا فهي ثقافة عالقة داخل موقفنا المتعدّد والمضطرب من الثقافة الغربيّة ؛ لأنّنا لم ننتج ، بعدُ ، ثقافةً تحدّد معالمَها حاجاتُ مجتمعنا المعرفيّة المبنيّة على حاجاته الحقيقيّة العامة . ويصل بنا كلّ ذلك إلى القول : إنّ أدبا ينتجه أدباؤنا الكبار هو أدب متعال على المناهج النقديّة الوافدة إلينا من الغرب ؛ لأنّها مناهج اقتضتها الحياة الثقافيّة الغربيّة الطبيعيّة . أمّا أدبنا ،وهو نتاج ظروف ثقافيّة بالغة التعقيد، عاش معه أديبنا علاقة مشكليّة مع الثقافة القائمة، فإنّه يحتاج إلى منهج واحد قادر على الكشف عن أسرار جماليّاته ، هو المنهج الثقافيّ الذي ينطلق من رؤية الأديب إلى العالم . هذا المنهج الذي ينظر إلى بعض المناهج الغربيّة من بنيويّة ، وأسلوبيّة ، وسيمائيّة على أنّها مجرّد تقنيّات يستخدمها المنهج الثقافيّ في تعرّف ما كشفته رؤية الأديب من العالم المرجعيّ باللغة ؛ لأنّ ما اكتُشف هو عين الأدبيّة . والأدب ، شعرا كان أم نثرا ، لا تستطيع أن تحكمه نظريّتا الانعكاس والانكسار الغربيّتان . فهما عاجزتان عن فهم الحقيقة الأدبيّة . نظريّة الكشف وحدها هي النظريّة التي يمكنها الامساك بالحقيقة الأدبيّة .