قراءة للدكتورة والروائية فاتن المر في كتاب “الأدب اللبناني باللغة الفرنسية” لزينب طحان
ألقتها في حفل التوقيع الذي أقامه له الملتقى الثقافي الجامعي في اليونسكو بتاريخ 16 كانون الثاني 2014 .
أعادتني قراءة كتاب الباحثة زينب طحان إلى زمن البدايات، بدايات الكتابة، فقد بدأت بكتابة القصص القصيرة ورواية واحدة باللغة الفرنسية، وكانت الفرنسية لغة ميسرة بالنسبة إلي لأنني كنت أستعملها طوال أكثر ساعات النهار في التعليم وساعات الليل في القراءة وكتابة الأبحاث وأطروحة الدوكتوراه. ولكنني، مع تعمقي في دراسة الأدب الفرنكوفوني أو ما درج على تسميته بالأدب الناطق بالفرنسية الذي أصبح مادة اختصاصي، رحت أتوصل إلى نتائج متطابقة مع الإشكالية التي طرحتها الباحثة زينب طحان، ألا وهي اختلال مفهوم الهوية، أو على الأقل عدم وضوحه بالنسبة إلى الكتاب الذين اختاروا التعبير بالفرنسية. فكرت بالأمر بجدية، وحاولت إقصاء كل الأحكام المسبقة، ووصلت إلى قناعة في أن الكتابة شأن حميم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالهوية، أي باللغة الأم، أما علاقتي باللغة الفرنسية وبالأدب الفرنسي الذي أقرأه بشغف وإعجاب فهي علاقة صداقة أكتسب من خلالها الكثير من الغنى والانفتاح الفكري الناتج عن تلاقح الثقافات. لهذا كان خياري بالتحول إلى كتابة الرواية باللغة العربية.
أما مسالة الهوية وعدم وضوحها في فكر أبناء شعبنا، فهي التي لا تنفك تجلب المصائب على أمتنا، بشكل عام كما تؤثر سلباً في شخصيتنا وتصرفاتنا الفردية. وهي لا تعني الكتاب الفرنكوفونيين فحسب، بل المجتمع بكامله. لقد سلط أحد الإعلانات على شاشات التلفزة الضوء على الاختلال في مفهوم الهوية لدى اللبنانيين فسئل الفرنسي عن هويته فأجاب أنا فرنسي والمصري قال أنا مصري… إلخ، أما اللبنانيون فاختلفت أجوبتهم باختلاف انتماءاتهم الطائفية أو المذهبية… فكان لهذا الإعلان دلالة واضحة على التضارب في المعرفة التي يجب أن تكون موحدة عند أبناء الشعب الواحد. تلك الاختلافات في النظرة إلى الهوية لا تتوقف عند حدود المذهب بل هي تشمل العائلة والعشيرة والمنطقة وقد تصل أو لا تصل بعدها إلى الوطن. أما اللغة، فهي تعبير واضح عن هذا التشتت، كذلك الأدب بشكل عام.
وضعت زينب طحان في كتابها الإصبع على جرح سيظل ينزف إلى أن نعي خطورته وندأب على مداواته بالطريقة الناجعة، تلك التي تعمل على المدى البعيد تلافياً للكوارث التي ما فتئت تحل علينا من جرائه، فتنشئ جيلاً جديداً واعياً لهويته الواحدة، نابذاً للانقسامات المصطنعة. وكانت قراءة طحان للمراحل التاريخية التي مر بها الأدب اللبناني الناطق بالفرنسية قراءة ثقافية عميقة لا تكتفي بعرض وقائع هذا النتاج الأدبي والفكري بل تبحث عن الأسباب البعيدة التي أثرت على خياراته واتجاهاته الفكرية. تبدأ زينب طحان بمقدمة تعرض فيها إشكالية تصنيف الأدب اللبناني باللغة الفرنسية لدى الكاتب نفسه ولدى المتلقي طارحة موضوعاً يرتبط بالنقد الإجتماعي في أوجهه الثلاثة من دراسة الواقع الذي نشأ فيه الكتاب إلى تجلي صورة المجتمع في النص إلى نظرية التلقي la réception. وتعبر عن تلك الإشكالية من خلال مقاربة تسمية الأدب الفرنكوفوني التي اختلف حولها الكتاب أنفسهم إذ رأى فيها البعض تكريساً للهيمنة الكولونيالية الفرنسية وراى البعض الآخر تهميشاً لهذا الأدب وإبعاداً له عن المركز، فكان أن اختار بعض الكتاب المعاصرين تسمية “الناطق بالفرنسية” تجنباً للمعاني الملحقة بتسمية فرنكوفونية ولجأ قسم آخر إلى مصطلح “أدب العالم”.
في “المدخل التاريخي” درست الكاتبة تأثير الإرساليات الأجنبية في نشر اللغة الفرنسية وفي تنمية ثقافة مرتبطة برؤيتها الدينية وبخطط تخدم مصالح سياسية وهي في العمق اقتصادية بحتة. وتصل في نهاية المدخل التاريخي إلى عنوان يلخص ماساتنا الماضية ويشبه حالتنا الحاضرة وقد يشكل عنواناً لمستقبلنا إذا ما عجزنا عن تلافي مسبباته وهو: “الفتنة الطائفية بين الوجود الفرنسي والتفكك العثماني”… أما خلاصة هذا المدخل، فتتجلى بقولها إن الفرنكوفونية لم تكن إلا سلاحاً لاحتواء المستعمرات الفرنسية السابقة ثقافياً تمهيداً لاحتواء سياسي واقتصادي.
في الفصل الأول، تدرس طحان نشأة وتطور مصطلح الفرنكوفونية، كما تستعرض مراحل تاريخ الأدب اللبناني باللغة الفرنسية، رابطة تلك المراحل بخيط يسير البحث في اتجاه الإجابة عن الإشكالية التي طرحتها في مطلع دراستها وهي إشكالية الهوية. ولعل هذا الترابط بالأفكار التي لا تضيع مسارها على غزارة المعلومات هو أبرز ما يميز هذا الكتاب القيم. وتعرف بالكتاب اللبنانيين الذين كتبوا بالفرنسية من ميشال ميسك، صاحب أول ديوان شعري معروف باللغة الفرنسية، لتصل إلى الكتاب المعاصرين أمثال أمين معلوف وألكسندر نجار ورامي الزين وفينوس خوري غاتا وهنا أشير إلى إغفال الكاتبة ذكر كاتب لبناني شاب تنال حالياً رواياته وكتاباته المسرحية رواجاً كبيراً على الساحة العالمية نظراً لقيمتها الأدبية وطابعها المتميز وهو الكاتب اللبناني وجدي معوض الذي استقبلته بيروت خلال الصيف الماضي وخصصت له أسبوعاً ثقافياً.
ويشكل الفصل الثاني من الكتاب استرجاعاً مركزاً لمسألة أزمة الهوية الوطنية للأدب اللبناني باللغة الفرنسية تعرض فيها زينب طحان بموضوعية مختلف النظريات التي قدمها الكتاب الذين اختاروا الفرنسية لغة لكتابتهم، وهنا أشير إلى أن إدراكهم العميق لخلل ما في مفهوم الهوية هو الذي ما فتئ يدفعهم إلى عرض مسوغات لخيارهم في العديد من كتاباتهم، كما في المقالات والمقابلات الصحافية. تعرض زينب طحان إذاً رؤيتهم عرضاً علمياً دقيقاً، ولكن الدقة لا تمنعها من إبداء وجهة نظرها في تشظي الهوية لهذا الادب وارتباطه بمرحلة ما بعد الكولونيالية. ولكنها تبقي بحثها العلمي مفتوحاً على الحوار الثقافي الذي لا يطلق الأحكام النهائية، والدليل على ذلك ما كتبنه في خاتمة الكتاب: “إننا بكل بساطة وبالكثير من التعقيد معاً لا يمكن أن نؤدي وظيفتنا النقدية بقول نهائي وحاسم، لمعنى هذه النصوص الأدبية اللبنانية المكتوبة بالفرنسية وهويتها.” وتشير زينب إلى التطور والاستمرارية اللذين يميزان الأدب بشكل عام وتختم بعبارة للمفكر إدوار سعيد: “إن فعل الكتابة وظيفة لا تستنفد أبداً بإكمال قطعة منها.”
لكنني سأشير إلى ما رأيت فيه نقطة الضعف في الكتاب وهو قراءة للمصادر مترجمة إلى العربية وليس في اللغة التي كتبت فيها أي الفرنسية مما أدى إلى بعض الإلتباس. سأركز في تعليقي على مثال دراسة نتاج أمين معلوف. في معرض الحديث عن رواية “صخرة طانيوس”، تقول الكاتبة إن معلوف “وقع في حيرة لترجمة الأسماء والألفاظ إلى الفرنسية التي يكتب بها فتركها على حالها في بعض الأحيان بلا دلالات”، مما يدفعها إلى الإستنتاج أنه كتب لأبناء بلده الذين يقرأون بالفرنسية. أقول: لو كان الأمر كذلك لما وصلت الرواية إلى مصاف الأدب العالمي، فإدخال كلمات بلغة غريبة عن اللغة التي تكتب فيها الرواية تقنية كثر استعمالها في الرواية المعاصرة على اختلاف اللغة التي كتبت بها، حتى بتنا نكاد لا نلحظ وجودها، خاصة في الروايات التي تدور أحداثها في بلاد غريبة عن ثقافات البلد الذي تكتب الرواية بلغته، إذ يمنحها ذلك بعداً جمالياً مميزاً وطابعاً محلياً couleur locale وقد تدرج ترجمة هذه العبارات في النص الروائي، مباشرة بعد ورودها، أي في نفس الجملة وقد لا تترجم ، وعندها لا يكون معناها حاملاً لفكرة أساسية في الحكاية، وإنما تكون موجودة لإضفاء مناخ ثقافي مميز على النص. أما بالنسبة إلى كتاب “بدايات” لأمين معلوف، فقد أغفلت الكاتبة أمراً أساسياً يتعلق بمسألة الهوية ألا السؤال الذي يجب أن نطرحه إثر قراءتنا إعلان معلوف عن ارتباطه بعائلته كما أعلن في “الهويات القاتلة” انتماءه إلى العالم، والسؤال هو التالي: بين الانتماء إلى العائلة والانتماء إلى العالم هناك مرحلة أغفلها معلوف في كتابيه هذين كما في روايته الجديدة “التائهون” وهو الانتماء إلى الوطن، فمن العائلة إلى العالم يقفز معلوف فوق الوطن متغافلاً عن مشاكله الكثيرة وجراحه العميقة ويجد المسوغات للهروب من مأازقه ناسياً أن المرء إن لم يكن حراً من أمة حرة فحريات الأمم تكون عاراً عليه.
هكذا تصبح الإشكالية ليس التنافر بين الماضي والحاضر اللذين يبدوان منسجمين في فكر معلوف إذ بنى على هذا الانسجام سياق روايته التاريخية التي تفسر الحاضر وفق معطيات الماضي، بل هو التنافر بين الهوية الوطنية وهوية هجينة تمزج بين الانتماء للعائلة والانتماء للوطن.
مع ذلك يمكن أن نقول إن ما وصلت إليه زينب طحان بعد دراسة جادة وبحث معمق هو كتاب جدير بأن يشكل مرجعاً مهماً لمن يريد الاطلاع على كل ما يتعلق بالأدب اللبناني الناطق بالفرنسية، ولا ابالغ إن قلت إن دراسة كهذه قد لا تتوفر بهذه الشمولية في اللغة الفرنسية نفسها. شكراً لك زينب على المجهود الذي بذلته والذي ينبئ بولادة باحثة جادة ستتبوأ مكانة فعالة في مجال النقد الأدبي.