بسم الله الرحمن الرحيم
ليكون القائد قائدا حقيقيّا يجب أن يكون قائدا تاريخيّا . والقائد التاريخيّ ، فضلا عن سمة الشجاعة التي تسمه ، هو إنسان متملّك ثقافة المرحلة التي يتفيّأ تحت ظلالها، مستوعب حركة التاريخ ، مدرك سيرورتها ، قادر على إرشاد الجماعة إلى خلاصها. وكتاب ” الوليّ المجدّد ” يصلنا بمستويين من مستويات القيادة التاريخيّة : القيادة الموجِّهة عبر مؤسّسة الوليّ الفقيه، والقيادة الميدانيّة المتمثّلة ،في لبنان ،بقيادة المقاومة الاسلاميّة. ولا تكون وظيفة أيٍّ من المستويين متحقّقة تحقّقا فاعلا بمعزل عن الأخرى. ما كان لقيادة المقاومة أن تنجح النجاح الأوفى الذي حقّقته لولا استرشادُها بتوجيهات الوليّ الفقيه. وما كان لتوجيهات الوليّ الفقيه أن تأخذ تحقّقها الأمثل من دون وجود قيادات ميدانيّة كقيادة المقاومة الاسلاميّة .
وسماحة الشيخ نعيم قاسم ، ومن خلال موقعه داخل قيادة المقاومة، يمتلك من الصفات المشتركة التي يتحلّى بها رجال القيادة الجمعيّة ، بقدر ما يمتلك من الفرادة التي تجعل من موقعه خصوصيّة تتآزر مع خصوصيّات سائر المواقع في إنتاج القرار الحكيم ،وفي تحقيق هذا الابداع الخلّاق الذي انتقل بمقاومتنا من نصرٍ إلى نصرٍ أرقى، ومن مستوى قوّةٍ إلى مستوى قوّةٍ أفعل. وما كان للمقاومة أن تكتسب هذا الوهج الذي يراه العالم لها ،لولا المشتركُ الجامع لقياديّي مقاومتنا في ظلّ ولاية الفقيه من جهة ، ولولا الخصوصيّات المتعاونة على مراكمة الانجازات لحظة لحظة. ولا يتصوّرنّ أحدٌ أنّ مقاومة استطاعت أن تستنفر ضدَّها جميع مستكبري العالم ، بسببٍ من جدّيتها وقدرتها على مواجهة الظلم ، ولا تعيش حركةَ التاريخ لحظة لحظة .إنّ عين المقاومة التي ترقبُها عيون المستكبرين قاطبة ، هي عينٌ لا تنام. فهي مكلّفة بالاعداد والاستعداد ، وبشكل دائم ، للمواجهة الآتية لا محالة . مشروع المقاومة من الجذريّة بما لايسمح بهدنة .مشروعها تاريخيٌّ يحدّد انتصارُه النهائيّ نهاية التاريخ، وفاق التصوّر الاسلاميّ. ولذلك فإنّه يستنفر كلَّ المتضرّرين منه إلى معركة حاسمة قد تكون آخر المعارك .
والتمهيد الذي تحدّث عنه سماحته للظهور المبارك، لا يتجلّى بإنجازات الثورة الاسلاميّة الايرانيّة الداخليّة وحدها،مع محوريّة هذه الانجازات،ولكنّه يتجلّى بالمقاومة الاسلاميّة أيضا ، تلك المقاومة التي يتعدّى مشروعها تحرير فلسطين . وأن تكون هذه هي وظيفة المقاومة الاسلاميّة ،وهذا أفقها ،وأن تكون قيادتها عينا لا تغفل، يعني أنّ هذه الوظيفة ،وذلك الدور هما مفتاحا التعريف بسماحة الشيخ نعيم قاسم. ولن نفي نظرتنا إليه حقّها إذا لم ننطلق من هذا المنطلق في تقديمه.
ولا نلتقي اليوم على مائدة سماحته ليحدّثنا بالسياسة عن دور الحزب في هذه الساحة أو تلك،ولا عن المكائد التي تحاك ضدّه ،أو تلك الأقلام المتورّمة التي تنفث أحقادا وسموما مع أهميّة هذه الأحاديث . نلتقي اليوم بفرادة الشيخ ، بخصوصيّةٍ من خصوصيّات سماحته . نلتقي به مثقّفا مفكّرا . ولعلّ السؤال الأوّل الذي يتبادر إلى الذهن : من أين تأتّى لهذا الشيخ القائد وقت ليكتب ،وليؤلّف كتبا في قضايا مشكليّة دقيقة ؟
لم تقعده مشاغله التي تبدأ بأحمال القيادة وهمومها ، ولا تنتهي بالأمن الشخصي في ظروف شديدة التعقيد عن إعطاء الكتابة محلّا وارفا بين همومه ومشاغله الكثيرة . وصفحة كتاب “الوليّ المجدّد” الأخيرة الموسومة بعنوان (صدر للمؤلّف) تواجهنا بقائمة من خمسة عشر كتابا تمثّل بمعظمها قراءة جديدة للثقافة الاسلاميّة من جهة، وإعادة توظيف لهذه الثقافة بما يتناسب مع حاجات المرحلة من جهة أخرى. ومن يتتبّع طبعات هذه الكتب يجد أنّ بعضها قد أعيد طبعه تسع مرّات مثلا. ولئن دلّ هذا على شيء إنّما يدلّ على حساسة ما تقدّمه هذه الكتب، وعلى مقدار الحاجة إليها.
ويلفت ،في تلك القائمة، امتداد شرح سماحته “رسالةَ الحقوق” للإمام زين العابدين (ع) إلى سبعة أجزاء .وإذا أومأت هذه الأجزاء السبعة إلى تبحّر بالعلم ،فإنّها تشير إلى قدرته على الاستنباط، وإلى سعة أفقه وأفق الهموم الثقافيّة التي يتصدّى لأعبائها أيضا . وكتابه ،موضوع لقائنا هذا: “الوليّ المجدّد” لا يعدّ تمثيلا واقعيّا واضحا لسرّ نجاح الجمهوريّة الاسلاميّة وتقدّمها وتفوّقها فحسب، ولكنّه تعبير عن دقّة استيعاب قيادة المقاومة لدور قائدها ووظيفته، وتسويغٍ واضح لشدّة إيمانها به أيضا .
وإذا شكّل وصف الوليّ بالمجدّد إشارة إلى الاجتهاد الذي يعدّ معلما من معالم المدرسة الشيعيّة، فإنّه يحمل إشارتين أخريين أيضا : تشير الأولى إلى أنّ السيّد الخامنئي ، بوصفه وليّا فقيها،لم يتوقّف عند حدود ما وصلت إليه تجربة أستاذه الإمام الخميني(قده)،ولكنّه نمّى تلك الثروة في ضوء المستجدّات التي طرأت على الحياة ، أمّا الثانية فإنّها تومئ إلى مدرسة شهدت ولادتها على يد السيّد الخميني (قده)،فكان السيّد الخامنئي تلميذا نجيبا فيها ، ثمّ ما لبث أت صار أستاذها الأوّل.ولا يعطي عنوان ” الوليّ المجدّد” السيّد الخامنئي حقّه فقط، ولكنّه يشير إلى حيويّة الثورة الاسلاميّة الايرانيّة وحركيّتها المرتكزة إلى قاعدة الوليّ الفقيه أيضا . وإذا كان العنوان فاعلا قويّا في استدراج القارئ إلى دخول عالم الكتاب ،فإنّ عناوين الفصول الستّة تمثّل مرحلة ثانية في استثارة ذلك القارئ للتعامل مع التفاصيل التي يضمّها الكتاب. عنوان الفصل الأوّل “إحياء الدين” عنوان يذكّرنا بعنوان كتاب ” إحياء علوم الدين ” للغزالي المتوفّى العام 505 للهجرة من جهة،ويدفعنا إلى مستوى من مستويات الموازنة بين العنوانين من جهة أخرى.فإذا شهد (إحياء) الغزالي حضوره نهاية القرن الخامس،قرن الذروة في الحياة الثقافيّة العربيّة الاسلاميّة القديمة، بما يوحي أنّ علوم الدين وأموره في ظلّ الدولتين الأمويّة والعبّاسيّة لم يكونا على ما يرام مع ازدهار الثقافة في ظلّ تينك الدولتين ،فإنّ (إحياء) الثورة الاسلاميّة الايرانيّة للدين كما تجلّى في كتاب سماحته هو إحياء لا يُصلح ما أفسده الأمويّون والعبّاسيّون من أمور الدين فحسب ، ولكنّه يتصدّى لانحطاط إضافيّ أيضا . يتمثّل بتعطّل العقل العربي الاسلامي مع بداية القرن السادس ،قرن الفرنجة،حتّى عصرنا الحاضر ، خصوصا أنّ وضعا غيرَ طبيعيّ قد ساد الحياة الثقافيّة الشيعيّة بعد غيبة الإمام (عج).ويعني ذلك أنّ إحياء الدين قد بات حاجة ماسّة وصعبة في آن معا . تتطلّب شجاعة وموقفا بقدر ما تتطلّب إعادة إنتاج للثقافة الاسلاميّة. ولعلّ صفة( المجدّد) التي وُسم بها( الوليّ) شديدة التعبير عن هذه الحاجة،وعن الجهود المطلوبة في مسيرة شديد الطول والوعورة .
ولا يترك الكتاب مجالا من مجالات التجديد التي قام بها السيّد الخامنئي من دون أن يعالجه. خصّص الفصل الثاني للتخطيط الاستراتيجي ،والثالث للسيادة الشعبيّة ،والرابع لمواجهة الحرب الناعمة،وعالج السادس قضايا مهمّة من مثل : الوحدة الاسلاميّة،والقضيّة الفلسطينيّة،وجهاديّة حزب الله. وكتاب يهدف إلى إبراز حيويّة مؤسّسة الوليّ الفقيه في مواجهة كلّ ما يستجدّ ، بناء على نظرة ثاقبة إلى المستقبل،مؤسّسة على الثقافة الاسلاميّة ، في مرحلة محدّدة،إنّما يفتح الباب أمام سلسلة من الكتب التي تؤرّخ لسيرورة التهيئة التي تفرضها ثقافة الانتظار الايجابي. وأن يكون هذا الكتاب بقلم قائد معنيّ بهذه السيرورة يسهم من موقعه ،في قيادتها، يعني أنّه كتاب مسؤول؛لأنّ الكلمة التي تخطّها يد هذا القائد هي كلمة حمّالة هموم، منتمية إلى سياق ثقافيّ تاريخيّ يعرف ما يريد ولا يتوانى في السير إلى ما يريد.
د. علي مهدي زيتون