كلمة الشاعر الياس لحود
أنا شاعر مقاوم؟!..
أمّي القصيدة وحبيبتي الأغلى
(1)
عبر الحرب العالمية الثانية ونهاياتها الممهورة بالنكبة الفلسطينية ولدت في جديدة مرجعيون. وكانت ولادتي، كما روت أمّي، قاسيةً هي الأخرى و.. سعيدة في بلدة الصنوبر والأحراج المسحورة بأبيات الشعر الأولى :
“تطلُّ على حرْجِ الصنوبرِ بلدتي وترفع في وجهِ النسيم سُدودا
وتّنكر أن تُملي عليك حدودها فتأخذُ من قاصي السماءِ حدودا”
ولادةٌ متلاطمة بصخبِ أحداثٍ في طقوس من التباشير والنذورات، والتخاطر عبر مرويّات معتقديّة شعبيّة..
في أرضِ أقصى الجنوب المقدّسة في مسامِّه ونبضاته.. عبر كدحه ومخاطره واحتفالات أعالي قممه ومنزلقاتها، ولدتُ. ولادةٌ قصيدةٌ من أقصى أعياده إلى فروسيّة عمّاله، وأبطاله وقدّيسيه الصخريّين ..
لا مفرَّ من تاريخيَ الضئيلِ الحافلِ بالمحاولاتِ المتلاحقة رغم التاريخ الأعظم المتلاطم في قرن التكنولوجيا والتطوّرات المذهلة. ولا محيد عن جغرافيتي المنحوتةِ بالقادوميّات والعرازيل رغم الجغرافيا العملاقة للكون النائي على امتداد مَراقبِ مطلاتِنا في كوكبه الأرضيّ وسكّانها المراهقين نحن، متسلّقين ومكتشفين، ونواطيرَ كرومٍ وحطّابين وقنّاصي ذئابٍ مسعورة.
أمّي القصيدةُ و.. حبيبتي وعشيقتي الأغلى منذ كلماتِها الأولى. هي الإنسان والأرض الموزونان للضرورة بأشهى إيقاعات الحرية وأناشيد ملاحمها المفتوحة.
القصيدةُ معلّمتي .. معلّمتي التي أطلّ على مستوى ركبتَيْها كانونٌ من جمرِ مرجعيونَ المقاومِ للأعاصير يرسم في لحمها المكافحِ تواشيحَ بطوليّة وموانئَ طفوليّة تعاشَقْتُها دون دراية منّي.
والقصيدة بيتي المقاومُ حتى الموت الليكيِّ والقيامة الملحمية الظافرة :
بيْتي في غابةِ أجراسٍ
يحملهُ البحرُ على كفّيهِ ويُودعُهُ أفقَ أقاحي
يرفعُهُ الصخرُ على الكتفينِ ولا ينزلُهُ
إلا والنخلُ على جنبيْهِ عناقيدٌ من أفراحِ ..
يعطيه التينُ إلى التفاحِ
فيُهديه التفّاحُ اللّوْزَ
ويُهديهِ اللوزُ الزيتونَ
ويتركُهُ يمشي .. يمشي
حتى يُوقفُه جنديُّ الحاجزِ :
– قِفْ
لا يتوقّفُ
– قِفْ مغلولاً
لا يتوقفُ
– قف ويداكَ على رأسِكَ..
يمشي .. يمشي ويُنادي
يَرميهِ الجنديُّ الأولُ
يرميهِ الجنديُّ الثاني …
يرميهِ كلُّ جنودِ الأرضِ
فيمشي .. يمشي حتى تقتلَهُ عيناهُ
فيسقطُ عن أسوارِ الدَّرْبِ
ويصرخُ من أعماقِ القلبِ :
بلادي .. بلادي . بلادي….. بلادي
(2)
ألتاريخ، قصصاً ورواياتٍ يشدّنا إلى “اليقين” حتى لو كان مروياتٍ للأقوى المنتصر، صارمةً أو هشَّةً. والشعر “هو الذي يترك للنصّ هذا الهامشَ من “اللايقين” الذي يلعبُ دوراً في برهنته”. وهنا : موندراغون الكاتب الحداثوي يُؤنّبنا :”ثمة علاقةٌ حسّاسة جداً ما بين الوظيفةا لشعرية للغة “وغير المحدود”. لست أنا من اخترع هذا التجديفَ، ولا مندراغون. ألا يكفي ان يجهر بهِ رومان جاكوبسون : الشعرُ تحدٍ للتاريخ خصوصاً لقداسته المعبودة” :
“شجرُ العشقِ والمصابيحِ يزفرُ ضلعاً فضلعا
ويشتدُّ في التربةِ النبضُ إن عانقَتْها رِئهْ
وإن عانق الجذعَ طفلٌ تناهت عروقُ الوصايا
مرّةً قيلَ للحنظليّ أعْجنِ الرملَ واخبزْهُ صدر امرأه
قال : خبز وماءٌ غفيرٌ ولكنّني مغرمٌ بارتشاف الشفاهْ
بيروتُ في لقمتي شوكةٌ
ودمشق امتداد بجُرحي
وبغدادُ بئرٌ جريحٌ بصوتي
وبوّابةٌ في فمي القاهرة
وعمّان سيفان في الخاصرهْ”.
ومن هنا استعرتْ مشكلتي الصعبةُ واللذيذة منذ خطواتي الأولى: هل صحيح أنّ التاريخ وسيرة الكاتب (الشاعر خصوصاً) لا يُزوّدانِنا بشيء خطير عن المؤلَّف والمؤلِّف. ما يُراد نسيانُه في رفضِ ما هو تاريخيٌّ بارتيٌّ وتفكيكُه أنّ العمل الأدبي (الشعري الْما بعد حداثوي بخاصة) قد كتبه إنسانٌ حيٌّ ذو جروح وقروح ويدين ومقاومة. ولم يستدعِه روبوت مصنّع: هل يكوِّنُ بِنْياتٍ شكليةً مُنْجردة من المحتوى والمقاصد intention أم يؤلّف لعبة مضامين تعبّر عن مؤلِّف لا سبيل إلى معرفته إلا في العمل الشعري ومن خلاله. أم كقارئ مقاوِم (كجزءٍ من النص أو هدفٍ له) يمارِسُ نشوةً، متعةً (جنسية حتى على طريقة جورج مولينيه).
هل ليَ الحقّ في قراءةٍ لما ناضلْتُه كتابةً شعرية : ما كتبته بمعاناةِ مقاومٍ كما دُعي منذ الستيّينات امتداداً على سبيل أنّ ما كتبه سواي عكسُهُ أو ضدّه؟!… هل قارئ نصوصه المقاومة ناقدُها الإيجابيّ أو السلبي كما لا يرغب غادامير؟.. بل هل القراءةُ هنا صحيحةٌ؟حقيقيّة، يتعيّن علينا تجديدُ بنائِها تاريخياً بعد مرور الفتراتِ وتبدّلها بالشعارات ذاتِها وبمقاصدَ مختلفةٍ كلما أصابت مداميكَها البنائيّةَ الشيخوخةُ النصوصيةُ، كما يحصل اليوم في عملية تركيد النصّ وتحريكِ الآخرَ بقوة إشهارية؟..
لا مفرّ من جرعة التاريخ مهما زاد منسوبُ رغبتِنا جميعاً أو أفراداً في إنكاره. ومعرفتُهُ التي تلابسه هي كالتالي : لا التاريخُ ولا اللاتاريخ .. بل كيف نفكّك شعرياً مخلخلين هذا الكون المفهوميَّ التاريخيَّ من خلال ما كان يدعى الواقع اللوكاتشي للمثقّف النوعي. كما لا مفرّ من التصدي بالنص لاحتكار المفاهيم وإسقاطها حيث : كلّ نصّ [شعري خصوصاً] هو ملتزم (بقضية) ومقاوم (على طريقته) والاختلاف هنا ببساطة هو عندما تصبح “القضية” “قضيّتنا” والطريقةُ على طريقتِنا” وحدها. والطريقُ هو الطريقُ والبيتُ يبقى البيت :
“لا أحدٌ في البيتْ …
حتى الوردةُ ليستْ في البيت
حتى التينةُ والزيتونةُ
حتى البَقْرةُ والبوابةُ
والمجلى وخزانتُه ليست في البيتْ
حتى البيتُ القابعُ مثلَ قصيدة أعشى
ليس هو الآخرُ في البيتْ
في البيتْ : حبّةُ زيتونٍ
بشّرها جدّي أن تعصرَ كل نهايةِ صيفٍ تنكةَ زيتْ”
(3)
أنا “الرجلُ المرأة” أو “المرأةُ الرجلُ” المغامرُ المسافر في التحدّي والتصدّي عبر كدح الأهل وكفاحاتِهم. الذي كتب نصوصَهُ باسم الياس لحود.. بتوقيعته وإمضائه.. ببصمته( كما يصرح بعنف جاك دريدا) التي كلّ تزوير لها جريمة موصوفة .. ولكن، مهلاً : من أين بدأتُ شاعراً مقاوماً ، كما سمّاني النقد؟ وكلّ شاعر مقاومٌ عملياً. من أي مادة جسدية روحية عموميّة حيث المؤلّف مؤلَّفاتٌ. كان مؤلفاتٍ وصار مؤلَّفاً عبر بناءٍ حيّ يملكُ قلقاً مقاوماً للسدود والحدود ولا يملك إيديولوجيا زجرية. كما يملكُ أفقاً تاريخيّاً نقيّاً شفّافاً وتحريضاً غيرَ محرّضٍ.. لكن كذلك : كانت تحدث المشكلةُ مع كلّ بدايةِ زحفٍ فوق الاستحكامات أو تحت شريطها الشائك، أو مع كلّ بدايةِ تحليقٍ جديدٍ لاختراق المواقع بالصراخ الشاهقِ : الحريةُ. الحريةُ . الحريةُ
– “للشمس زنبقةٌ وزنبقتانِ للقمرِ القتيلْ
– وحول قلبي ضمّتان من الجراح .. وشوكةٌ خضراءُ من سعفِ التخيلْ
– “وعباس قد كان .. تبذرهُ الريحُ عبر الذرى
– وعباس قد صار .. أنشودةً في شفاه الصبايا وتنهيدةً في صدور القرى
… وعباس يمشي أمام الجنازةِ يبصرنا ميّتينْ”…
هكذا حفرتُ في غابة الكلمات والأشياء كتابةً متحدّية حتى لذاتي صارت نصاً مدهشاً إثر نصّ : نصوصاً عبر فكاهيات بلباس الميدان وركاميات الصديق توماً بأيقوناتٍ ومراتٍ بازولينية في زخم ملاحم ما بعد حداثوية امتشقتْ بأبطالها مشهدياتِ الترابِ المقاوِم بالحب المقاوِم :
– “جميلٌ أنْ تغرقَ في حبكِ حتى الشفتينْ
وجميلٌ أن تتحدّث يوماً أنّ امرأةً كانت تهواكْ
تدفنُ رأسَكَ في احزان المقهى
وتبوحُ كطيرٍ في زاوية الصيْفِ
تبوحُ بأنّ اللقلاقَ الشتويّ يحرّكُ جثّتَهُ بالعشقِ
ويرقصها فوق الأشواكِ
تدوسُ أغانيكَ الأقدام
وتعوي في جلدِكَ أقوالُ الناسِ :
بسعْرِ الأوكازيونِ أخذتُ الفستانَ العسليَّ
مساءً في مقهى الإخوانِ أراكْ،
أرى أن نأخذَ تاكسي،
ونعالُ الأفئدةِ لها سِعرٌ مرتفعٌ،
كانونٌ يشكو من إسهالٍ هذا اليومْ،
هل أعجبكَ الشاري،
أعقدْتَ قِرانَ الشقّةِ،
إنّي أستأجرُ قبراً مفروشاً في حيّ الشّققِ المفروشة،
وأنا علّبْتُ امرأتي خشية أن تسرقها زمرٌ من نقطِ استفهامْ،
وتقول أخيراً : إنَّ امْرأةً كانتْ تهواكْ
وإنّ شراعَكَ في بحرِ الأيامْ !!”…
(4)
هبطنا أو تسلّقنا من الجنوب اللبناني كما يقول النقد عبر طريقٍ مأسوية طويلة على حدود مسنّنة منذ أواخر الستيّنيات بالمقاوِمة جمراً ولهباً، مقوَّضةٍ ومشيّدة في أضيق اللحظات دراميةً أو في أوسع مسارح الميلودرامات، من تاريخ مكتوب بالحقيقيّ أو بالوهم والحلم، بسوانا الأبعدين أو الأقربين، إلى قصائد أغلبها بناءاتٌ على أناشيدَ ما بعد لوركاوية. واليوم : لماذا هذه الوعورة المعقّدة في التعبير (تعبير المرحلة كلها)؟..ألأنّ القصيدةَ الآن مادةٌ شعرية حيّة بسيطة في مسالكَ وعرةٍ خطرة كما يقول بورخيس ويؤكد ريتزوس [مسالك دمارية معقدة في ما بعد التاريخيّ والواقعي والاحتمالي والافتراضي]…
القصيدة العربية الآن !.. بعد عجز الحداثة (الكثيرةِ التنظيرِ والقليلةِ التشعير) عن خلخلة المركزيات (الاجتماعية، الدينية، التربوية، الثقافية..) وفشلِها في اختراق التابوهات والمكدّس المعتقدي وحتى الثقافي الحضاري الشعري (بالذات). ألقصيدةُ العربية هي أكثر من نصّ وأقلّ من كتابة .. هي في الخلاصة العملية : تجميع قطع المصنّعات أو بقايا جزئيات من كائنات تحطّمت فوق جسدِ الأرضِ أو تتحطّم شظايا بسعادة في مجال طاقةٍ للإنسان وللجماعة .. للحضارة في الأراضي كلها.
هكذا يسعى النصّ إلى سهولته نحو القارئ المشارك في تأليفه من بعيد، إلى وضوحه عبر دمارات غامضة مجيّرة سعيدة لاحدّ لمجْدها وسعادتها.
وهكذا أكتب القصيدة عبر وعورة الواقع وتعقيده في ما يحدث وحدث وسيحدث للرجل الأنا والنحن، والكاتبِ أنا، والمؤلِّفِ أنا حيث أنا جميعُ من يعاصرونني بالماضي وبالحاضر ما لم أقل جميعي المستقبليّ بامتياز، مروراً بالأخر الذي هو الجزء الكبير الأساسي مني .. من إلى “وعبّاس يمشي أمام الجنازة يبصرنا ميّتين”. وهكذا امتدت مائدة شبه سوريالية شبيهة بمائدة دالي تحت يافطة أدب المقاومة، وخصوصاً بتسميةِ شعر المقاومة وشعراء المقاومة، جمعت أسماء وأسماء استهلكوا التسمية حيث لم تبقَ أمكنةٌ غيرُ مشغولة فيها تقريباً، نتاجاً ونقداً لهذا النتاج وإشهاراً له وفي سبيله، خصوصاً مع شعراء وكتّاب المراحل : الأنظمة وشعراؤها قفزوا إلى تحت التسمية أو فوقها وبعدهم أو قبلهم شعراءُ /كتّابُ الأحزاب، الجماعات، الحركات، الاتحادات، المجالس… فهل استُهلكت التسمية حتى النهاية في مرحلة الحرب الأهلية وأزمنة المقاومة الفلسطينية في الهوائيات والشاشات والصفحات والإعلام الموجّه “الملتزم” فلم يبقَ منها نافراً سوى الشعار وبعض الكتابات المتمّردة بعكس الرسمي المؤطّر سياسيّاً؟!
كل شيء حدث ويتمّ تذكّره بعُسْر ثقافي إبداعي يجعلنا نحطاط للشعرِ /السعادةِ مخافةَ سقوطه الجنائزي في قبور الشعارات والشعائر واليافطات الموسميّة :
“يُغدقُني إليكَ هذا المطرقُ الحارقُ
مطرُ الصيفِ الذي لمّا يمُتْ
والشتاءِ الباسطِ الكفّينِ
من نافذةِ الدارِ إلى زوبعةِ الدارِ
إلى الهبَّةِ الكوكبيّهْ
إذا الربيعُ مات
كفّنوهُ في جوار دلبةِ الطريقِ
وادْفنوهُ في مَحَارمِ الرجالِ
قالَ أحدُ الأساتذهْ
إذا الربيع مات …
تحبُّني .. أحبُّها
تحبّني .. أحبُّها
تحبّني أُحبُّ
هكذا أنهى حقولَ الأقحوان”
الياس لحود – بيروت