عن الشعر والمقاومة – إطلالة على حافّة البئر / محمّد زينو شومان
ماذا يمكن أن يقدّم نصّي الشعري من نموذج للشعر المقاوم؟ ولكن قبل ذلك،ما علاقة شعري بالمقاومة؟ وما هي الأحكام القيميّة والمعايير النقديّة التي تحدّد ملامح النصّ المقاوم وطبيعته وانتماءه الفني وهويّته الابداعيّة وشرطه الانساني؟ ألسنا أمام سلسلة من الشروط المترابطة التي تجعل من مقاربة ثنائيّة الشعر والمقاومة عمليّة معقّدة وخطرة؟ إنّ هذه الثنائيّة تطرح إشكاليّتين مثيرتين للجدل والنقد: الأولى من حيث العلاقة بين النصّ الشعري والمقاومة، أمّا الثانية فأشدّ التباسا ؛لأنّها تتعلّق بصيغة القول،أو بكيفيّة التعبير تقنيّا عن هذه العلاقة.
والحقّ حين أتكلّم على المنحى المقاوم في قصيدتي ،أخشى أن يورّطني ذلك في استنتاجات مبتسرة لا تمتّ بصلة إلى مفهومي الحقيقي الخاصّ بالشعر،فيبدو مصطلح المقاومة معه وكأنّه رقعة في ثوب الشعر الرثّ. وما يغفر لي هو أنّني هنا لست مؤرّخا،ولا في بعثة نقديّة لتقصّي أحوال تجربتي الشعريّة . وليس لي من مجال أوسع لتقديم قراءة منهجيّة لهذه التجربة. فهذه كما تعلمون من اختصاص النقّاد ومن شأن الباحثين.أمّا إذا رغبتم في الاستزادة ،فأحيلكم على كتاب الباحث الأكاديمي والناقد الدكتور علي مهدي زيتون ” النصّ الشعري المقاوم في لبنان – البنية والدلالة” الذي تناول فيه نماذج من الشعر المقاوم لبعض الشعراء،ومن هذه النماذج قصيدتي ” يمامة الجنوب ” الواردة في مجموعتي الشعريّة “قمر التراب”. فهو أغنى في بابه وأوفى شرحا لمن يبغي أبعد من الاشارة والتلميح.
مقاوم؟ ثائر؟رافض؟ ساخط؟ ناقم؟…لندع المدلول الاكاديمي لهذا المصطلح ضنّا بالوقت واختصارا للكلام،ولأرجع وإياكم إلى القهقرى إلى مرحلة البدايات التي باتت بعيدة جدّا. فهي تستدعي هبوط سلّم طويل تجاوز عدد درجاته الستين- هو سلّم العمر والذكريات ومراحل التطوّر والنضج والصبر والكدّ.سأصحبكم إلى هناك في إطلالة قصيرة على حافّة البئر، البئر التي تحدّثت عنها قصيدة” أوان الاعتراف” من مجموعتي الشعريّة ” أهبط هذا الكون غريبا”،
والتي جاء فيها :
ورثت الأسى باكرا،وانكببت على الأرض.
أحفر بحثا عن السرّ
لم أكتشف غير بئر.
تدمدم في داخلي مثل قعر الجنوبْ
إنّها هي البئر نفسها- قعر الجنوب – التي اكتشفت باكرا أنّني وُلِدت فيها.أجل لقد كانت ولادتي الأولى والثانية(الولادة الشعريّة )في قاع بئر- في أسفل القعر الاجتماعي.فهل هناك أوضح من هذا المكان، بظروفه وأسبابه الماديّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، دلالة على ما أيقظه في داخلي، منذ إرهاصات الوعي الأولى، من نوازع التمرّد والغضب والعصيان والحنق والثورة؟
أتودّون تفاصيل أخرى عن البيئة التي احتضنتني؟ كان بودّي أن أحدّثكم عن العرق الأخضر الوحيد الذي كانت تنبته الأرض الجنوبيّة،ألا وهو شتلة التبغ، رمزا للصمود والصبر وإرادة البقاء وتعلّقا بالأرض والمنزل، بدل الحديث عن المساحات المقفرة دفعا للتشاؤم. ولكن ما حبسه لساني عنوة سال على لسان قلمي. فأيّ حياة هذه التي تأتينا من ثقب الإبرة أو بالقطّارة؟
هل بمقدوركم يا ترى تصوّر هذا الخطّ اللولبي لقطرة الحياة وهي تتلوّى وتترنّح في انحدارها البطيء المملّ نحو قاع فمِنا المفتوح على الجوع؟!وأيّ حياة هذه التي يتوقّف استمرارها على استمرار هذا الخيط الرفيع جدّا بين القطّارة وقطرتها الشحيحة! فمن بين شقوقي الإجتماعيّة والنفسيّة هذه، كان يطلّ الغضب برأسه وأنا بعدُ غضُّ الإهاب والعظم، ويتفاقم كلما ازداد إحساسي بغربتي الاجتماعيّة وتراءى لي شيئا فشيئا شفير الهاوية الطبقيّة كقعر الجحيم!
وماذا بعد؟
لعلّكم تعلمون أيضا أنّ مسقط رأسي هو إحدى قرى الجنوب،وأنّني أنتمي إلى أسرة فلّاحيّة كادحة ذاقت كما ذاقت عائلات جنوبيّة أخرى غيرها، في مرحلةِ هيمنةالاقطاع الزراعي والسياسي بوجهه القديم أنذاك وغيابِ الدولة ومؤسّساتها إلّا من جباة الضرائب وزوّار الليل، صنوفَ (مفعول ذاقت) القهر والاضطهاد فضلا عن غموض الوعي الطبقي ،إذ كان مقّدرا لهذه المنطقة المنسيّة من لبنان الكبير أن تبقى أسيرة الجهل والعمى والفقر هاجعة هجعة أهل الكهف إلى أمد غير معلوم، لاحراك ولا رمق من حياة فيها يشي ببادرة انتفاضة اجتماعيّة عاجلة أو آجلة. بلى من هنا يجب أن أبدأ مع بدء تسرّبمشاعر القهر الاجتماعي إلى داخلي
تسرّبا ما لبث أن انضمّت إليه روافد كثيرة راحت تتغلغل تدريجا في كياني النفسي وكيان قصيدتي،مؤلّفة فيما بينهما شبكة متلاحمة الخيوط من الأعصاب الثقافيّة والفكريّة وغيرها، حتّى منحت نصّي الشعري صفة الكائن العضوي وخصائصه الفنيّة واتجاهه أو طابعه الانساني المقاوم.
لقد كان اصطدامي المبكربجدار الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والمادي الحافز الأوّل على الثورة رفضا للظلم وللنظام اللبناني الطائفي الرأسمالي الجائر الذي كرّس ويكرّس عوامل التمييز الديني والمذهبي والمناطقي والفروق الطبقيّة السحيقة بين أفراد المجتمع الواحد،ويكبح الحراك الاجتماعي ويعطّل قوانين التطوّر والتحوّل والصيرورة خدمة لحراسه وزبانيّته من أمراء المذاهب والطوائف. هذا هو أوّل الخيط . ومن هنا يبدأ البحث عن جذور الحسّ المقاوم ومعطياته في قصيدتي. ومن هنا أيضا كان هاجس التجديد ورفض أساليب التعبير التقليديّة المستهلكة محورَ(خبر كان) رؤيتي الشعريّة والنقديّة والفكريّة التي يستطيع القارئ المتابع تلمسها في جميع أطوار تحوّلاتي الشعريّة . وإذ أدعوكم إلى وضع إصبع النقد على جرح تجربتي الشعريّة والحياتيّة على السواء، فلكي تتبيّنوا عمق العلاقة الجينولوجيّة بين حياتي وقصيدتي. على أنّ استحضار البعد الاجتماعي والذاتي لظاهرة المقاومة في نصّي الشعري، من دون البعد الفكري والانساني يبقى ناقصا أو واقفا على رجل واحدة؛لأنّهما بعدان مترابطان متداخلان ،وأيّ فصل بينهما يؤدّي إلى عمليّة بتر خطرة تهدّد حياة التوأمين معا.وإذا تحدّثت عن أثر البيئة الجنوبية في تكويني الثقافي والفكري وفي مصادر منحاي التعبيري المقاوم، فكيف أغفل أو أتغاضى عن أثر الجغرافيا والجوار والقربى والمصير الواحد وشريان الوجود المشترك بين الجنوب وفلسطين؟ كيف لا، والجنوب جسر الألم الفلسطيني ومعراج الهوى والنضال ؟ وهو الذي كان أوّل من فتح صدره على مصراعيه لاحتضان العمل الفدائي ولعبور أوّل بندقيّة مقاتلة مصوّبة إلى العدوّ الصهيوني المحتلّ؟
وكيف أنسى أو أغضّ الطرف عن آثار الهزيمة العربيّة وانفجار الغضب الشعبي العربي إذ كان لبنان ولا يزال ملتقى الصراعات المحليّة والإقليميّة والدوليّة،ونقطة الاستيراد والتصدير لخلافات العرب ومؤامراتهم،مثلما كان معبرا دائما لأسراب الأفكار المهاجرة الوافدة إليه باستمرار مع أسراب الطيور في رحلاتها الموسميّة من أقاصي الأرض؟ولقد كان لبنان مستقرّا وحاضنا للتيارات الحزبية والسياسية والأيديولوجية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وللحقيقة، فقد كان في نفسي من ذلك كلّه بقايا وندوب ورواسب لست في مختبر طبّيّ لتحليل عناصرها.
وأخيرا ، لعلّكم أيقنتم أنّني أتكلّم دائما على هويّة مركّبة. أساسها المزج الكيميائي بين عناصر مختلفة ،حتّى لتكتسب، بعد الامتزاج، طبيعة جديدة هي مركّب آخر نسميه نصّا شعريّا،أو نمطا آخر من أنماط التعبير الابداعي. وبذلك تتحقّق معادلة الشعر- المقاومة.وهذا ما يعني أنّ علاقة الشعر بأيّ شكل من أشكال الثورة،أو المقاومة ،أو النضال الاجتماعي والسياسي، هي علاقة تفاعل وتمازج باستمرار، وليس علاقة التابع بالمتبوع ،أو الجار بالمجرور،أو علاقة الوجه بالمرآة.إنّ مثل هذه المفاهيم المتخلّفة أو القاصرة أو المشوّهة ليست شيئا مذكورا في موازين النقد،وليست في الحسبان؛لأنّها بضاعة الزمن الرديء والثمن البخس،ومن حثالات التهافت الفكري والثقافي وموت الوعي واضطراب الحواسّ وفساد الأذواق والمقاييس والانحطاط والارتكاس.
لذلك فهي خارج الجدل.