محمد علي شمس الدين
تاريخ المقال: 24-05-2014 02:42 AM
1ـ لحظة «هل أتى…؟»
تتراكم أعضائي أمام عيني كريش العصافير. كان ثمة صياد أكيد يطلق عليّ النار طوال الوقت بلا هوادة، وحين كنت أحدث الرجل العارف بما أحس، كان يقفل عينيه ويخاطبني بصيغة الجماعة: أنتم تغرقون في أوهامكم، أو في أحلامكم، وتظنون اللاشيء شيئاً. وحين أشير إلى يدي ودمي وفمي في حقل القمـح، وهي مرمية بين السنابل، وأقول له: انظر يا شيخ.. انظر.. إنها لا تزال تنزف هناك، والقناص فوق التلة، وأنا أرتجـف مثل قصبة في الريح، كان يشمّر عن ثيابه، ويوجه وجهه نحو القبلـة، ويشرع في قراءة أوراده بصوته الشجي العميق… تتناهى إلى أذني آية «هل أتى على الإنسان حين من الدهر…»، وأستيقظ على حقل الرماية المجاور، وقد امتلأ بأصوات الرصاص، فيما الفجر واقف ببابي مثل طفل خائف.
2 ـ لحظة «ألا هبي»
ألف وخمسمئة عام تحملني فجأة إلى لحظة «ألا هبي…». المكان في جزيرة العرب. بدو وملوك وجنود وعبيد. جاهليون أقحاح. وقف الشاعر فوقهم جميعاً. ركز عينيه في عيني الملك الخائف، وأنشد: «ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تدعي خمور الأندرينا «ثم بدأت القوافي ترن كرنين السيوف، وجماجم الأعـداء تلقى في الساحة كأحمال الجمال أو كالحجارة. رفع عمرو بن كلثوم قبضته في هواء الصحراء وقال: «حديا الناس كلهم جميعاً مقارعة بينهم عن بنينا»، وارتعد المـلك الجـالس في زاوية الخيمة، حين بلغ الشاعر إلى قوله: «ألا لا يجهلن أحد عليـنا فنجـهل فوق جهل الجاهلينا»، حتى إذا وصل إلى بيته الأخير: «إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الممالك ساجدينا» كان قد انعقد في وسط الجزيرة. قوس قزح شديد البهاء، وكان الناس يعلقون عليه قصائدهم ونذورهم.
3 ـ لحظة «ولقد ذكرتك»
الرجل الجعد الأسود الغليظ الشفتين، الحاد النظرات، لم يكن له أن يكون حراً إلا إذا قاتل أو أحب أو مات. وكان يحلو له أن يجمع الأوقات الثلاثة هذه، في وقت واحد، ويقدمها إلى أجمل كائنات الوجود: امرأة كان أحبها، ابنة مالك. قال لها اسمعي يا ابنة مالك واسألي إن شئت عني الخيل، فأنا أتقدم إليك بأنني سمح أقبل من يخالفني الرأي، بشرط ألا يظلمني.. «فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل مرّ مذاقته كطعم العلقم»، فأنا لا أقاتل إلا إذا ظلمت، فإذا ظلمت فقتالي، دفاعاً عن حقي، مرّ كطعم العلقم. وأنا ذكرتك في لحظة لا تخطر ببال بشر: كان دمي يسيل على الرماح، والسيوف تقطر من دمي، فرغبت في قبلة الموت على حد السيف، لأنه لمع كثغرك البارق الجميل. أنا أموت من أجل فمك الجميل. علق عنترة هذه اللحظة المتوهجة، في عنق القصيدة، في الصحراء العربية، وتركنا نلوي لها بأعناقنا، كلما تشمّمنا ريح الصحراء الحرة.
4 ـ لحظة «حفر الحفرة»
يتقافز الزمن كالجندب، من الصحراء إلى بيروت. فقد حدثت في فجر الخامس من حزيران 1982 حادثة صيد غريبة. فقد أطلق خليل حاوي، من جفت الصيد الذي يملكه في منزله في رأس بيروت، النار على صدغه ومات، فيما كان هدير الدبابات الإسرائيلية، يملأ شوارع المدينة. وكان الشاعر بدأ يحفر حفرة لا قرار لها ويقول: «عمّق الحفرة يا حفار/ عمقها لقاع لا قرار». كانت القصائد العربية حوله مسجاة كأشلاء القتلى. وكانت النار بدأت تأكل جميع الأوراق.
5 ـ لحظة «هنا باقون»
غالباً ما كان الرجل الجميل، ذو الشعر الأملس، والنكهة الساخرة، الفلاح ابن الفلاح، ينام في حقول التبـغ الجـنوبية التي يعمل فيها والده.. وحين كنت أسأله لماذا يفعل ذلك، والصهاينة يجوسون كالذئاب في الحقول، والأفاعي والأشواك كثيرة، كان يبتسم ابتسامة شبيهة بابتسامة الرجل العارف، الذي كان يغلق عينيه ويخاطبني بصيغة الجماعة، ويقول: ليس أحد سوانا ليطـيب خـاطر هذا الغسق الجنوبي، إن لعنة من اللعنات ستلحق بنا إذا غادرنا هذه الحقول…. «تلعننا كروم التين والصبار والعنب». ويقول: أنا حارس هذا المكان. أمسح الغبار عن جبين الحجارة، والعرق المتحدر من زنود الفلاحين، وأنا مولج باستقبال أول النهار في هذه القرية الشرقية، وتوديعه حين يأتي المساء. قال موسى ذلك، وشرع ينشد:
« هنا باقون كالأزل/ نمد جذورنا لجذورنا الأول/ نعانق شوك هذي الأرض بالمقل/ ألم تخلق سوى الأفواه للقبل؟.» وكنت أنظر إلى عينيه الصافيتين الجميلتين، وأقول له ما قاله نيرودا لغارسيا لوركا حين قتل: ما أعظم ما أحببت وما أعظم ما عانيت.
6 ـ لحظة «الرحيل»
كنت أقول له: قد يفقد الشاعر المكان والزمان فيخرج إلى المنفى أو الغربة، وإن كان عميقاً إلى التيه. وكنت أسأله مثلاً: إذا كانت إقامة المتنبي في الرحيل، أفلم يكن للمتنبي وطن؟
– بلى
– وأين؟
– في غربة نفسه، على أرض غامضة في مجاهل كبريائه. في قصائده.
– هل تعني في لغته؟
– هذا هو تقريباً ما يحيرني.
7 ـ لحظة «كن/ فيكون»
حين حرّروا الأرض والناس في الخامس والعشرين من أيار 2000، كنت واقفاً على شرفة منزلي وأردّد الأشعار، مستمتعاً بهذا المرض من أجمل أمراضي.
محمد علي شمس الدين