الدكتور وجيه فانوس
دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة أكسفورد
الأمين العام لاتِّحاد الكُتَّاب اللبنانيين
مستشار رئيس الجامعة الإسلامية في لبنان
رئيس قسم الدراسات العليا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة الإسلامية في لبنان
أستاذ محاضر في علوم المنهج والحضارة المعاصرة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية
—————-
أدب المقاومة ومواجهة “الحرب النَّاعمة”
ألقيت في افتتاح أعمال
“مؤتمر أدب المقاومة ومواجهة الحرب النَّاعمة”
يوم الإثنين الواقع فيه 19/5/2014
في قاعة الأونيسكو في بيروت
قد يتساءل المرء، في هذا المقام، عن مفهوم “الحرب النَّاعمة”؛ خاصَّةً وأنَّ للنُّعومة دلالات تُشيرُ إلى ما هو لطيف وجميل وجذَّاب! فهل ثمَّة حرب لطيفة وجميلة وجذَّابة؟ بل حتَّى أنَّ الأفعى، وهي ما قد يوصف بالنُّعومة بين الزَّواحف، لا تخوض حربها إلاَّ بأقسى عنفٍ تقدر عليه وحشيَّتها ضد فريستها!
الحربُ قتل للآخر وإلغاء لحقيقته وتدمير لوجوده؛ وليس في هذا أيَّة ممارسةٍ لما يمكن أن يتَّصف بـ”النُّعومة”، مثل الحوار أو الحِجاج أو حتَّى الجدال. وقد تَتَخذ الحرب ظاهراً واضحاً لا يخفى على من تحاربه؛ فيستعد لها، ويبذل في مقاومتها ما يمكنه من تحضير وقوة وعنف. كما للحرب أن لا تتخذ ظاهراً واضحاً، أو أي ظاهر على الإطلاق؛ فتتسربل بتمويهات قوامها الخديعة وعمادها التَّمويه وسلاحها الدَّجل، لِتُظْهِرَ ذاتها “ناعمةً” لمن يجهل حقيقتها وتنطلي عليه حيلها، فيقع في شباكها؛ وينهزم، تالياً، أمامها، فاقداً حياته أو خاسراً طبيعته أو متمرِّغاً في حطامٍ مُزرٍ لوجوده.
والعرب ما برحوا يواجهون حرباً ضروساً غاصبة غاشمة مجرمة يشنها عليهم ذلك الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين. ولقد استخدم هذا العدو في حربه لهم أسلحة متعددة ومتنوعة، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو مستتر. منها ما كان بالبندقية والمدفع واللغم والقنبلة والصاروخ والبارجة، ومنها ما كان بالقتل والتشريد والنَّفي والهدم والسجن، ومنها ما كان بالخديعة والمفاوضة والإعلامِ والإعلان، ومنها ما كان بالدَّعوة إلى التشكيك بالتاريخ والعاطفة والإحساس واللغة والتراث والقيم والمفاهيم.
وما برحنا نقاوم تلك الحرب بكل ما يمكن أن يمتلكه شعبنا العربي من قوى عسكرية وسياسية وفكرية وثقافية. وهي حرب طويلة طويلة طويلة، بدأت قبل أن يولد جيلنا الرَّاهن وتستمرُّ إلى أنَّ تكون نهاية يسترجع فيها العرب جميعاً، مع عرب فلسطين، الحقَّ في الأرض والحقَّ في العيش عليها والحقَّ بالتُّراث واللغةِ والقيم والمفاهيم التي هي هُويَّة وجودنا العربي وصنو حقيقته وعماد نهضته.
إذا ما كانت “الحرب النَّاعمة” هي تلك المساعي التي ينهض بها الصهاينة لهدم الشخصيَّة العربيَّة وتشويه تراثها وتهجين لغتها والتشكيك بدياناتها وتحقير قيمها والهزء من مصداقيَّة مفاهيمها والتَّأكيد على دونيَّة عيشها، فهذه حرب ليست بجديدة على الإطلاق. لقد بدأت قبل وعد بلفور، ولعلَّ جذورها تعود إلى أزمنة عريقة في القدم، وفي نصوص الإنجيل المقدَّسِ والقرآن الكريم ما يشهد عليها ويقود المواجهة ضدها. وهي حربٌ جنَّدت الصهيونيَّة لها، عبر قرون التاريخ كما عبر عقود الزَّمن الحاضر، قوى كبرى، تعتمد الفعل الثقافيَّ سلاحاً؛ وكان من بين هذه القوى، وللأسف، مفكرين يخونون حقيقة الفكر مع منظِّرين عملاء وأدباء منافقين وزمرٍ من الجواسيس والمندسين الكذبة. ومن هنا، فهي حرب مستترة مخاتلة مخادعة؛ ولذا فإنها، في قسوتها ووحشيتها وإجرامها، أشدَّ قسوة وأكثر ضراوة من حرب البندقية والمدفع والبارجة والصاروخ. إنها الإجرامُ بعينه وإنها الوحشيَّة في أقبح تجليَّاتها.
إن من يُسْجَن أو ينفى، قد يعود إلى ذويه وبلده؛ ومن يستشهد قد يولد من يتابع مسيرته الجهادية وممارساته النضاليَّة؛ وإنَّ ما يُهدم قد يُعاد بناؤه؛ أما ما يجري تشويهه، أو يُعمل على تغييره وتحويره من تراث، فلا يمكن إصلاحه؛ إذ يصبح أشبه بالحقيقة الواقعة. وإنَّ ما يُقطع التواصل به، عبر محو لغته، لن يمكن العودة إليه؛ إذ اللغةُ سرعان ما تقبل مجريات أمورها وتنساق في ركاب تلك المجريات. وإنَّ ما يحصل التَّشكيك به أو يُعَطَّل من قيمٍ ومفاهيمٍ، يقودُ إلى إقتلاعِ أصوله والحلول بتشوهاته مكانها.
إنها حرب، هي الإجرام بعينه والوحشيَّة بحقيقتها العارية؛ وهي حرب لا هوادة فيها ولا معها؛ وليس فيها، أبداً، ما هو لطيف وجميل وجذَّاب حتَّى نراها حرباً ناعمة! إنها حرب لا تكون مقاومتها إلاَّ بجيوش جرارة؛ جنودها أهل الوعي الصحيح من ناس الفكر والأدب والثقافة، وأسلحتها أقلام ومنشورات، وذخائرها أسلحتها ندوات وأبحاث وإبداعات أدب. إنها حربٌ ضروس لا بد من خوضها؛ وكم خاضها روَّاد وأعلامٌ، يشهد لهم التَّاريخ الفكري والأدبي العربي وقفات عزهم وأنوار وعيهم، ويعتبرهم الكون منارات هداية إلى الحق وسط ظلمات الغدر والخيانة، عبر أدغال الغصب، حيث مستنقعات الاحتلال وفجائع بربريَّات الغزو الثقافيِّ للصهيونيَّة.
التقدير، كل التقدير، لأعمال هذا المؤتمر التي ستتدارسون فيها واقع هذه المقاومة الثقافيَّة، في عالم الأدب وفنونه، وسبل تعزيزها ومناهج كشف المخادعين والمنافقين من سماسرة الصهيونيَّة وخدمها. والتحيَّة لكم، من اتحاد الكتَّاب اللبنانيين، بهيئتيه الإداريَّة والعامَّة؛ وكيف لا، وعدد كبير من المشاركين في أعمال هذا المؤتمر هم من أعضاء الإتحاد؟ والأمل كبير أن يصدر عن أعمالكم، في هذا المؤتمر، ما يؤكِّد فاعليَّة المقاومة ضد كل غصب واعتداء وإجرام يمارس ضدَّ ثقافتنا العربيَّة وحضارتنا العربيَّة.
كلمة أخيرة، وقد تكون مشروع توصية؛ تعالوا نمزج، بوعينا الموضوعي لحقِّنا، مقاومتنا الدفاعيَّة لهذه الحرب، عبر الأدب وفنونه، بمقاومة هجوميَّة؛ فما عند عدونا، مما ملأ به صفحات الكتب ووقائع المؤتمرات وأشرطة الأفلام وآفاق الفضائيَّات، ليس سوى افتراءات وتدجيلات وكذب صراح، ونحن الأَوْلى بمهاجمته ودحض تخرُّصاته وكشف بهتانه وهدم أركان ثقافته ومحاولات تثقيفه للعالم.
وجيه فانوس