دراسة الدكتورة شاها يوسف* حول رواية “والهة على درب زينب”
الوجودية في رواية “والهةٌ على درب زينب(ع)” للكاتبة ماجدة ريّا.
في دراستنا، عمدنا الى تسليط الضوء على البعد الوجودي في بعض موضوعات رواية السيدة ماجدة ريا “والهةٌ على درب زينب(ع)”.
بدايةً ،اسمحوا لي أن أقدِّم تعريفًا مُبسَّطًا عن المقصود بالبعد الوجودي وماهيَّته.
الوجودية أسلوبٌ أو طريقة في التّفلسف اهتمّت بالوجود الإنساني واتّخذته موضوعًا لها، من خلال تفكيره وأفعاله ومشاعره، أي أنّها ترتبط بالإنسان كفردٍ حيّ، وتقول أنّ كلُّ فردٍ له الحقّ في الحريّة الكاملة في اختيار الحياة التي يرغَب، والهدف الذي يسعى له ويعيش من أجله.
وبالعودة الى الرواية نجد الكثير الكثير من موضوعات الوجودية.
نبدأ من مشعل النور الذي بثَّ بذرة الهداية في نفس سلوى رسلان بطلة روايتنا، بظهور ليلة القدر عليها وهي ابنةُ قماني سنوات، ليلة استيقاظها في إحدى ليالي شهر رمضان وهي تقول:” قوموا شوفوا النور، شوفوا الشجر كيف ساجد! “، هذه الليلة التي يعمل ويجِدُّ فيها كلُّ مسلمٍ طمعًا في نَيْلِ فُيوضات رحمة الله ورضاه، نالتها سلوى.
وكأنّ الباري سبحانه اختارها لأمرٍ جَلَل، واختزنها لمشروعٍ معيّن، أراد أن يتحقّق من خلالها ” فالإنسان ليس قبل كلِّ شيء إلاّ مشروعًا ” على حدِّ تعبير جان بول سارتر، وكانت سلوى هي مشروع الله عزّ وجلّ في مسيرها على درب زينب(ع). فكانت مسؤولةً عن ذاتها، وعن المجتمع كَكُلّ، ومجتمعها الضيّق فيما بعد – بلدتها كيفون -. ودأبت فيهما تبليغًا لعلوم الدين وإحيائهِ، إضافةً الى نشر روح المقاومة التي كانت تكبُر في صدرها يومًا بعد يوم حتى باتت عشقها المقدّس؛ دَأَبَت، كما لو أنّ الباري فوَّضها وكلَّفها هذه الأعمال سعةَ نفسها.
وبدت حاملةً لواء المقاومة وأمانَةَ التّبليغ الديني، حيث حوّلت منزلها في كيفون بعد عودتها من إيران، مرتعًا لعلوم الدين والشريعة وطلاّبها، إضافةً الى الدّعوة لمقاومة العدوان الإسرائيلي حسب الراوية.
ثمّ كان لها النّصيب الأوفر في إعداد فِرَق كشّاف الإمام المهدي(عج)، وكانت “فترة النهوض الذهبية ” على قول سلوى. وطبعًا، أولادها كانوا أوّل المُنضَوين في عداد الكشّاف.
لقد كان لهوسها في طلب العلم والمعرفة في علوم الدين وعشقها للثورة والمقاومة، الأثرَ الكبير في تهيأتها لتكون امرأةً فريدةً بين النساء، فكانت مسؤولةً عن ذاتها وعن المجتمع، وحقّقت رغبتها وباتت حقائق متغلغلةً في المجتمع.
والرّغبات واحدةٌ من موضوعات الوجوديّة، وقد تحقّقت في وصول سلوى الى هدفها الذي عزمت أن تكون عليه. والعزم هنا، هو الإرادة التي كانت واعيةً بارتمائها في اتجاه المستقبل الذي رسمته، وأبدعَت في اختيارها صورتَها، التي أرادت أن تكون وكانت، كما اختيارها صورة مجتمعها.
وعمدت الراوية الى المقاومة عشق سلوى الذي تأكد في مشاركتها ومساعدتها للمجاهدين، إذ جعلت منزلها في منطقة الرَّوشة آنذاك مكان اجتماعاتهم السّرّي، وساعدتهم في مراقبة أحد العملاء الخطيرين، ومراقبة الفرقاتة الاسرائيلية في البحر قُبالة منزلها… الخ. وهذا كله بطلبٍ من سلفها علي الذي أدرَك الخلود – هدفه الاسمى – بشهادته.
وتجلّت الوجوديّة هنا في تماهي سلوى مع مجاهدي المقاومة الإسلاميّة، فماثلت في خصائصها وصفاتها، خصائص وصفات أولئك الشباب، وكانت نموذجًا للمرأة المجاهدة. ومن خلال هذا التماهي، خقّقت سلوى جزءًا من هُويّتها التي أرادت.
وفي صفوف هذه المقاومة أيضًا، كان ابنها الأكبر – جعفر – يومًا مجاهدًا بدعم والدته وتربيتها وتوجيهها ومساندتها إيّاه، وهو ما فصَّلته لنا الراوية في طيّات روايتها مُظهرَةً طموح سلوى في مواساة الامام الحسين (ع) بابنها، فتقدّمه شهيدًا في سبيل الله عزّ وجلّ كما فعل الإمام (ع) بابنه علي الأكبر(ع)، وقد فعلت بعد أن ساندته في تحقيق الحلم – الجهاد في سبيل الله.
كيف لا يكون حلمه الجهاد وقد كبر في كَنِف أمٍّ مؤمنة مجاهدةٍ عاشقةٍ للمقاومة والشهادة، حيث قالت ذات يوم لسلفها علي بكلِّ عزمٍ وتصميم :” أشعرُ بعشقٍ غريب للاستشهاد، إذا اقتنص الأمر ذلك، أنا لا أتأخّر “.
اذًا، جعفر كان مشروع سلوى في تحقيق طموحها، والشهادة كانت مشروعه في تحقيق الحلم؛ وكلاهما عمل صراحةً لتحقيق هدفه وهو ما تقول به الوجودية نقيضَةُ الخُمول والتّعب، فإرادة كلٍّ منهما كانت تعمل في تطابُقٍ مع إرادة الآخر، كأنّها إرادةٌ واحدة تُدرَك بوسام الشهادة.
وذكرت الراوية أنّ سلوى قد عانت الكثير من الصعوبات والآلام لتحقيق رغبتها ونجاح مشروعها.
لقد عانت الغربة في سفرها الى إيران، وعانت الفقر وعاشته، إضافةً الى معاناتها في تحصيلها المعرفي – الديني، والخوف من العدوان الإسرائيلي او أن يَحيد أحدُ أولادها الثلاثة عن طريق الله سبحانه وقلقها عليهم؛ ولكنّها في المقابل كانت إمرأةً مؤمنةً وذات يقينٍ بعطاءات الله.
العطاءات التي اعتبرتها هدايا إلهية، كان أوّلها زواجها من الشيخ يوسف داغر، وثانيها لقةءُ الحبيب في زيارتها لمقام الإمام الرضا(ع) في مشهد، أما الثالثة فهي بشارة حملها بطفلها الأول جعفر، وأخيرًا كانت هدية الله سبحانه من نوع آخر وهي خبر استشهاد جعفر في الرابع عشر من أيار 2013، وعند سماعها هذا الخبر خرَّت ساجدةً وهي تُتَمتِمُ :” الحمدلله أن الشهيد جعفر وليس الحاج بلال (وكان سلفها)… الحمدلله… جعفر… يا صاحب الزمان أعثني… يا صاحب الزمان أدركني”، وسطّرت بصبرها وحمدها لله على ما نزل بها أجمل صور الإيمان والتسليم لقضاء الله وقدر.
أمّا فرحتها بالشهادة فتجلّت في توزيعها الحلوى على المهنّئين، قائلةً :” اليوم هو عريس”.
كان إيمانها مطلقًا، فمشروعها الوجودي الذي سعت جاهدةً في الوصول اليه، تحقّق باستشهاد ابنها وواست الزهراء(ع). وبتجلُّدها وصبرها على فَقْدِ ابنها سارت بحق على درب زينب(ع).
إنّ تهيأة الانسان لنفسه لمثل هذا الموقف، أمرٌ يتطلّبُ الكثير الكثير من الجهد والتّعب من أحل المحافظة على الأمور الشّرعيّة، وعليه أن يروِّض نفسه لتكون في إمرَة الخالق وحده، وهو ما طبّقته سلوى بكلِّ جوارحها حتى استحقّت بجدارة الدرجة الرفيعة، وكانت المكافأة لقب ” أمّ الشهيد”، هُويّتها الكلّيّة وهدفها الأسمى.
لقد كان لإيمانها المطلق وقعًا جيّدًا في حياتها، حيث جعلها دائمة التفاؤل أنّها ستصل يومًا الى درجةٍ عُليا تشعرُها بالفخر.
وتَعتبر الوجودية أنّ مصير الإنسان مَوكولٌ اليه هو ذاته، مُعلِنَةً أنّ الشيء الوحيد الذي يسمحُ للإنسان بالحياة هو الفعل، أضف الى ذلك قولها أنّ الإنسان يختار نفسه مُتأثّرًا بالغير، وسلوى في وجودها تأثّرت بواقعة كربلاء تأثُّرًا شديدًا، وتأثّرت بالسيّدة زينب(ع) في صبرها على كلّ ما نزل بها، ورغم هذا بقيت ثابتة الإيمان، حاملةً لواء الجهاد والمقاومة. وتأثّرت بأمّهات الشهداء، اللواتي كانت تستشعرُ منهنَّ الفخر والعزّة والكرامة.
أمّا شهادة جعفر، كانت دليلاً واضحًا على ثنائيّة (الحياة / الموت) مُعضلَةَ الانسانيّة الأولى، إلاّ أنّه اختصرها في جعله الحياة الدنيا – الفانية – وسيلته للوصول الى الحياة الأخرى، حياة الخلود – الباقية -، وكان لقاء الحبيب بحبيبه بابتسامةٍ عريضةٍ، ارتسمت على وجهه اثتاءَ لَحْدِه في جبّانة البلدة – كيفون.
ورآه أكقر من شخص في منامه يجيب عن سبب الابتسامة، كان يقول مرّةً : “رأيتُ الأنوار الخمسة”، وأخرى : ” رأيت أهل البيت بانتظاري، وقد مدّوا أيديهم ليتَلقّوني”.
وكانت وجوديّة جعفر في أنّه حقّق وجوده الإنساني، ب” امتلاكه موهبة التساؤل”، فسأل نفسه عن الخلود ووجده في الشهادة التي حقّقت طموحه في نَيلِهِ الدّرجة الرّفيعة عند الله، والخلود الأبدي، وأجابت عن تطلُّعاته.
وأخيرًا، أتوّجه الى الراوية السيدة ماجدة ريا وأقول لها: سدّظ الله خطاكِ في سلوك طريق الحقّ، طريق المقاومة التي عرفناها كمسلمين منذ بعثة الرسول الأكرم(ص)، وصولًا الى كربلاء الإمام الحسين(ع) مدرسة الإباء والخلود؛ المقاومة التي ستبقى الى حين ظهور الإمام المهدي(عج)، ليملأ الأرض قِسطًا وعدلًا ويُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
مباركة روايتك ” والهة على درب زينب(ع) “، وجعلها الله أُولى خطواتك في طريق النجاح.
د. شاها جعفر يوسف
حائزة على اجازة وماستر ودكتوراه في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية
لي بحثان الاول تحت عنوان: “الصورة ودلالاتها في “جزء تبارك” من القرآن الكريم” _ دار العودة_ ٢.١٧.
والثاني: قصيدة “تموز والأفعى”لمحمود درويش دراسة اسلوبية سيمائية_ الملتقى الثقافي الجامعي _٢.١٧