دراسة حول رواية “ومن ذريتي” للدكتورة هالة أبو حمدان*
ومن ذريتي…
المقاومة فطرة تولد مع الإنسان، تتلازم مع توقه للحرية والكرامة ومحاربة الظلم. وأدب المقاومة هو التعبير من خلال اللغة التي تستحيل منصة لمواجهة التعدي والاحتلال والظلم. إذ يكون النص في هذه الحالة إبداعياً يجمع بين المتعة والقضية. والالتزام في الأدب يجعل النص معبّراً عن وعي ايديولوجي، حاملاً لقضية معينة، مدافعاً عن رؤى وأفكارٍ ينتمي إليها المتكلّم من خلال هذا النص. فالأدب في هذه الحالة ليس لعبة جمالية خالصة، بل يكمن الإبداع فيه في جمعه بين الجمال والرؤية الفكرية الايديولوجية للكاتب.
والأدب المقاوم يواكب العمل العسكري في الدفاع عن الوطن والأرض والإنسان، وفي مواجهة الحرب الثقافية التي تهدف إلى تحوير الذاكرة ومحوها، وفي تشكيل الوعي الجمعي وتحويلِه إلى طاقة قادرة على المساهمة في مواجهة المحتل، وفي تصويب وتعزيز الانتماء والهوية والسعي إلى الحرية. ويعدّ الأدب وسيلة ناجعة وقادرة على مواجهة العدوان الثقافي وكشف ما يرسله من أفكارٍ لتشويه صورة المقاومين.
في لبنان، ومع انطلاق المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، برزت أسماءُ لامعةٌ في مضمار الأدب المقاوم، من الشعرإلى السرد والرواية. عبّرت هذه الكتابات عن القهر والألم والموت والدمار المعجون بالفرح المنبعث مع كل عبوة تنفجر بدورية للمحتل والفخرِ مع ارتقاء كل شهيد مساهماً في تسطير مجد الانتصار وافتتاح مرحلة مجيدة من أيام أمتنا. هذه الأعمال أضاءت على مقاومين ومقاوماتٍ شجعان آمنوا بربّهم وبوطنهم، لم يكونوا وحدهم بل كان خلفهم آباءٌ وأمهاتٌ شوامخ وعائلاتٌ مضحية. حرّروا العقل الجمعيَّ من مفاهيم الهزيمة والضعف والاستسلام.
أدب المقاومة هو مقاومة بالقلم. وهكذا امتشقت الصديقة المبدعة نبال رعد قلمها مسهمة في حفظ تاريخ المجد الذي سطره المقاومون، وفي تشييد الذاكرة والوعي لحفظهما للأجيال القادمة. وكما أُشير على غلاف كتابها، في قول لسماحة السيد نصر الله، لا بدّ من التأريخ لهؤلاء الأبطال ولعوائلهم، لحفظ إنجازاتهم من غبار الزمن، ومن الكتّاب المزوّرين الذين قد يحوّلونهم مع مرور الزمن إلى قطاع طرق ومقامرين. إن العمل الأدبي الذي يؤرخ لهذه الحقبة المجيدة لا يقلّ أهمية عن العمل العسكري.
ركّزت الكاتبة على أهمية الإيمان في تحفيز المقاومين على فعل الجهاد والمقاومة، وعلى تمنّي الشهادة باعتبارها سبيلاً لملاقاة الباري عز وجل، ونيلِ مرضاته. استقت عنوان كتابها من آيات القرآن الكريم، “رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ” (سورة ابراهيم الآية 40) دليلاً على الرفعة التي نالتها بطلةُ روايتها بسبب ذريتها الصالحة كونها أمَّ الشهيد المؤمنةَ الصابرةَ المحتسبة. أرادت نبال أن تخلّد “سعاد” أنموذجاً للأم التي تربّي أولادها على الطاعة والولاية. ولدت في قرية شعث في البقاع الذي شكّل خزاناً للمقاومة ونشأت في بيت يملؤه الايمان وتزوجت من ابن عمتها الحاجِ ابراهيم المؤمنِ هو أيضاً والسائرِ على نهج الولاية والاستقامة. هذه هي العائلة التي كانت تتمتع بلذة العبادة وجمال الإخلاص لله تعالى والتي ولد وتربى فيها الشهيد أحمد شمص.
تعرف أحمد باكراً إلى خط المقاومة، وتأثر بنهج الإمام الخميني، وشارك في التدريبات الأمنية والعسكرية. أما أمّه، ورَغم مخاوف قلبها على ولدها، إلا أنها اقتنعت بأن ما يقوم به هو امتداد لثورة الإمام الحسين (ع)، وأن الدم الحسيني يجري في عروقه هو ورفاقِه المقاومين الذين تشربوا تعاليم الثورة الإسلامية. وقد شاركت الحاجة سعاد، كمثيلاتها من أمهات المقاومين، في دعم المجاهدين عن طريق استقبالهم في بيتها، وتحضيرِ الطعام لهم، وتشجيعِهم على المضيّ في خط الجهاد والمقاومة، والحرصِ عليهم بكل ما يتطلبه الأمن من تكتّم وسرّية، داعية الله أن يحفظهم ويرجع ولدها لها سالماً. كانت تصبر على القلق الذي يعتريها عند غيابه ورفاقِه مقتدية بالسيدة زينب (ع) وبآل بيت الرسول. تلقت خبر استشهاده بقوة إيمان من تأصل فكر عاشوراء في روحها ووجدانها، رَغم احتجاز جثته لدى العدو الصهيوني. كانت فخورة بشجاعته وايمانه وفوزه بالشهادة برضى الله تعالى حتى صار اسمه منبعاً من منابع العزّة.
أسلوب الكاتبة سلس ومتين، اتبعت طريقة سردية متقطعة، تُبعِد عن القارئ الملل. في كل فصل من فصول الرواية حدث أو استرجاع، فيه ما يشدّ القارئ ليتابع القراءة رَغم معرفته المسبقة بمآل الأحداث. وقد أغنت نبال نصها بتفاصيلَ دقيقةٍ لحياة الشهيد وعائلته. ورَغم تخلّل السياق آياتٌ من القرآن الكريم وأدعيةٌ وأقوالٌ إلا أنها لم تغرق في الخطابة والوعظ. بل ظلّ السرد هو الطاغي، وكل صفحة تحمل مفاجأةً تحثك على التساؤل عمّا سوف تحمله الصفحات اللاحقة لها.
لقد أرادت الصديقة نبال توثيق تلك المرحلة من الصراع مع العدو من خلال التركيز على الدور الفذّ الذي أدّته المرأة المقاومة التي شكّلت مثلاً أعلى يحتذى، مستوحية موقف النساء في كربلاء. لقد كانت المرأة – أُمّاً وأختاً وزوجة – في طليعة الثائرين المناضلين، المضحين الباذلين لضريبة الدم، مقدمة الولد والزوج مستبشرة، مؤمنة. كذلك اللواتي لا تربطهن بالمقاومين رابطةُ دم، ولكن تربطهنّ بهم رابطةُ مبدأ، ورابطة عقيدة.
في كتابها، بيّنت نبال الخلفيات الفكرية والتربوية والجذورَ التي تشكّلت فيها عقول المجاهدين وأرواحُهم. أتت المقاومة من رحم الفكر الحسيني المجاهد، الرافض للذلّة، المقاوم للظلم. يندر أن تخلو إحدى صفحات الكتاب من هذا اللون المشرق من الأخلاق، هذه الأخلاق الإسلامية العالية بكل صفائها ونقائها وهذا النموذجُ الباهر من السلوك الذي كتبوه بدمائهم وحياتهم، حيث اختاروا الموت استشهاداً، على رغد الحياة. لقد كانت روح كربلاء تلهب السطور، تلك الروح التي لا تعطي إعطاء الذليل ولا تقرّ إقرار العبيد.
عزيزتي نبال… يوم تعرفت إليك أعجبت بثقافتك ووعيك وطموحك ومثابرتك. واليوم، بعد قراءتي كتابَك هذا أعجبت أيضاً بقلمك. قلم واعد، وكتابة عميقة ملتزمة تحمل همّ قضية كبيرة هي قضية كل مؤمن ثائر من مدرسة محمد وعلي والحسن والحسين عليهم أفضل الصلاة والسلام. أتمنى أن تغني مكتبتنا بمزيد من عطاءاتك. وشكرا.
د. هالة أبو حمدان: دكتورة في القانونِ العام، رئيسةُ قسم القانون العام في كليّة الحقوق والعلوم السّياسيّة في الجامعة اللّبنانيّة، أستاذة محاضرة في الجامعة الإسلاميّة، محكّمة علميّة في مجلة الباحث العربيّ، وفي مجلة وميض الفكر، رئيسةُ جمعية دعم الأ”سرة الريفية” منذ العام 1995. وهي من الأعضاء المؤسسين في الملتقى الثّقافيّ الجامعيّ. شاركتْ في العديد من المؤتمرات العلميّة، وكتبت عشرات المقالات القانونيّة والأدبيّة