مناقشة في رواية ( دا ) للكاتبة زهراء حسيني .
كتابة : نبال رعد*
- تعريف بالرواية :
هي ذكريات السيدة زهراء حسيني ، تدوين السيدة أعظم حسيني، إصدار دار المعارف الإسلامية الثقافيّة ، بيروت 2018، كتب مترجم إلى اللغة العربيّة من قبل مركز المعارف للتّرجمة ، صدر ضمن سلسلة سادة القافلة تحت رقم 21. يتألّف الكتاب من جزئين الجزء الأوّل 560 صفحة ، والجزء الثّاني 554 صفحة .
- انطباع عام .
” دا” عنوان هو أوّل ما يجذب القارئ، فيقوده الفضول إلى معرفة ما أو من هي “دا”. وما إن تعرف من هي دا ومن الصفحات الأولى للرواية، ترتسم في مخيّلتك أحداث سرعان ما يتبيّن لك عدم صوابيتها، أو لنقل بعدها عن أحداث الرواية.
تفتح أبواب الرواية بجزئها الأوّل فصلا بعد فصل، وتدخل في دوّامة من الحيرة، أتتابع أم تتوقّف، فالمشاهد التي تقدمها الرواية مفعمة بالموت والجثث، تشعرك وكأنّك تقلّبها، تغرق في برودتها وتحاول الهرب من الأشلاء ومن ما يخلقه النّصّ في خيالك من أجواء وصور وما تشتمه من رائحة نتنة. لكن وبرغم كلّ ذلك سحرٌ يدفعك للمتابعة، متخطيا كلّ ما يجول في خاطرك من استنكار ورفض لدقّة التّصوير ولذكر تفاصيل الموت والأموات.
ولعلّ الذي يدفع للمتابعة، بعض العاطفة التي تحملك لمعرفة تفاصيل الحرب العراقيّة الإيرانية على لسان من عاشها وعانى من ويلاتها. خاصة أن أحداث هذه الحرب جرت والثورة الإسلامية في بداية انتصارها على نظام الشاه، والحس القومي العربي ملتف حول صدام حسين ، والحق والباطل في أذهان العامة يشوبهما ضباب وعدم وضوح في الرؤية عند الكثيرين.
ثم ما يدفع للمتابعة ، الصدق والبساطة والسلاسة التي غلفت عبارات الرواية، ما منح السرد مرونة وانسيابية . لقد بدت زهراء حسيني وهي تسرد الوقائع كأنّها كميرا، وثّقت الأحداث، ونقلت التفاصيل فأثارت فينا الرفض ، القلق، الاسشمئزاز ، التعاطف، الضحك، خلقت فينا الخوف وتسارع دقات القلب رغم بعدنا الزماني والمكاني عن الأحداث. وفوق كلّ ذلك استطاعت هذه الرواية أن تضخّ فينا جرعة كبيرة من الشّجاعة والجرأة.
إن رواية ” دا”، وإن كانت تحمل اسم امي ، إلا أنها كانت بعيدة عن حرفيّة الاسم ومعناه القريب، فقد حمل اسم دا ” الأم ” في هذه الرواية معاني الوطن ، القضية، الانتماء ، المنزل، الحي، جنّة آباد .. لقد اتسعت كلمة أمي لتشمل كلّ شيء، وما يؤكّد هذا الإدعاء، حضور الأمّ الخجول نسبيّا بين طيّات الرّواية، فقد غاب دورها حتّى عند شهادة ولدها. ولم يكن لها تأثير مباشر على سير الأحداث وتسلسلها.
إنّ القارئ المهتمّ بالسياسة الإيرانيّة وبثورة الإمام الخميني العظيم وانتصار الثورة وتأثيرها على العلاقات الدّوليّة، لا بدّ ستشكّل له دا ملاذا شيقا ومصدرا لا يستهان به لكثير من الأسماء والشّخصيّات ، الأحداث والتواريخ، المسارات السياسيّة والعسكريّة والأمنية للحرب.
والملفت أنّه عند وصولي الى نهاية الرواية، شعرت بالحاجة الى إعادة القراءة، وكلّي أمل أن أكون مخطئة في عدد الصفحات، فلكم تمنيت لو أنّ زهراء حسيني تابعت بوحها،ولم توقف دفق الذكريات، لأتابع معها ألفا ثانية من الصفحات التي سافرت بي الى خرمشهر فصرت أعرف أهلها وعاداتهم، ومعاناتهم، لقد انتابني فضول كبير لأعرف ماذا حلّ ببعض الشخصيات.
حملتني ” دا” على متن صدق الحرف، وسلامة العقيدة، وجمال الصبر إلى حقبة زمنية ضجّت بالوطنيّة والأمل وصوابيّة الخيار كما ضجّت بالحرب والموت والتهجير والقتل.
- دراسة شخصيّة زهراء حسيني
بطلة الرّواية زهراء حسيني، إيرانيّة ولدت وعاشت في العراق مدّة من الزمن لتترك العراق وبيت جدها وأخوالها قسرا عائدة مع أمها إلى إيران.
منذ طفولتها الأولى عرفت الدّلال ، دلال الأب والجد ، الخالة والأم. إلا أنها أيضا بدأت باكرا بتلقي الصّدمات. حيث كانت الصّدمة الأولى اختطاف والدها وزجّه في السّجن بتهمة تعاطي السياسة. ولم تكن تلك الصدمة لتمر بسلام، فقد رافقت زهراء أمها لزيارة والدها في سجنه بعد معاناة ومرارة للحصول على طلب الاذن فإذا بها ترى بدنا هزيلا، وظهرا محنيا، ووجها حزينا شاحبا، ما جعلها تشعر بالألم كلما حضرت هذه الصورة في بالها.
بعدها تطالعنا زهراء حسيني، طفلة بلغت سن التكليف، وهي ابنة السادة، قد تمكت بحجابها، والتزمت صلاتها، سائرة على خطى جدها.
لتقدم لنا نفسها بعد ذلك، بنتا أختا تمارس هذا الدور بأفضل ما يمكن، تهتم بإخوتها تعمل على تلبية احتياجاتهم بكل حب وود، تحرص على تعليمهم، ترتاد المدرسة ، يحدوها شغف التعلم، لقد قدمت نفسها فتاة واعية، ذكية، عنيدة، مقاومة، وصبورة. صفات تكرّست مع تطوّر الأحداث فأعطتها اليقين بصوابية ما تقوم به وبجدواه.
لقد تبنّت زهراء موقف والدها من الأحداث، فراحت تصنّف الناس وفق منظوره، وأخذت موقعها تبعا لموقعه. حتى اذا وقعت الحرب ومنذ أيامها الأولى، اختارت زهراء وبكل وعي وإرادة أن تكون في جنة آباد، تساعد في تغسيل شهداء الحرب، وفي البداية كان الظّنّ أن الخيار هذا كان لمعطيات منها، قربه من منزلها، حاجة العاملين في جنة آباد للمساعدة، أو لربما كان هذا العمل هو الممر الإلزامي للشّهداء في رحلتهم الأبدية. أو ربّما أنّه المكان الوحيد الذي يتفّه الحياة الدنيا ويُخرج حبّها من قلب المرء، ويجعله أكثر زهدا بها، أو لربما لأن زهراء حسيني وهي في السابعة عشر من عمرها، لم تكن تعرف ما الذي يمكنها القيام به غير ذلك لنصرة وطنها، ومساعدة أهلها على الصمود. واعتقد كقارئة أن كل ما ذكر مجتمعا يدعو إلى الجدل ، ويثير الاستغراب ويدعو للتفكير.
لقد تمبزت شخصيّة زهراء حسيني بقوّة عجيبة، ومعاندة للنّفس نتجت في كثير من الأحيان عن كبرياء فارغ وغير مبرر، وفي أحيان أخرى عن اعتياد على مشاهد الموتى والجثث. إنّ الوحشة والغربة والخوف ، وأنس زهراء بالقبور وبالشهداء لهو من المؤكّد أمر نادر الحدوث، ولو لم أقرأ هذه الرّواية لما خطر لي مطلقا وجود فتاة حدثة تقوم بما قامت به زهراء حسيني ومهما كانت الدّوافع.
ومما يُلفت في شخصية زهراء حسيني، وعيها وتكريسها لمبدأ مهم جدا في الحياة وهو مبدأ المبادرة. فالتطوع والمساعدة لا تحتاج الى دعوة من أحد، والتكليف يصدر أولا عن الذات وعن وضوح الرؤية، ليتبع بعد ذلك بالتوجيه السليم من قبل قيادة واثقة حكيمة وعادلة.
الأمر الآخر الملفت، هو تلك الجرأة غير المعهودة على حمل السلاح، رمي القنابل، تقطيب الجروح، مواجهة القيادات العسكرية وغيرها.
ثم تقف بكل احترام عند زهراء حسيني، الشديدة الالتزام بعباءتها وحجابها في جميع ظروفها ومواقفها.
لقد قدمت زهراء حسيني نفسها في هذه الرواية إنسانة واعية ذات بصيرة، وثقت بصوابية مواقف والدها السياسية وخياراته، وفهمت عمق أهداف الثورة الإسلامية، وتشرّبت أبعادها العقائديّة، وأخذت تتحرّك في إطار هذه المعطيات، وتحت سقف الالتزام الديني والأسي بآل البيت ع وخاصة السيدة زينب ع.
زهراء حسيني، الابنة المتمرّدة بأدب، التي تمتلك حسّا قياديا، وقدرة على تحمّل المسؤوليّة، المقاومة التي ساوت نفسها بالرّجال الرجال، ورأت في نفسها العزيمة والإصرار على العمل المقاوم وخدمة الوطن في أي ميدان متاح.
زهراء، الأم التي أنجبت أربعة أولاد، ولم يحدث أن أشعرتنا بتعبها، أو كللها ومللها. بل جعلتنا نتلمس سوء حالها من خلال شكرها لكل من قدم لها المساعدة ومد لها العون.
ثم زهراء المحللة السياسية والمتحدثة التي لا تخشى في قول الحق لومة لائم. بل تصدح بالحق مهما كان الثمن، ومهما غلت التضحيات. ولم تكن تظهر ذلك تهوّرا بل اتكالا صادقا على الله تعالى، وإيمانا منها أن الله ينصر من نصره.
زهراء حسيني شخصية شكلت في ” دا” نموذجا للفتاة المؤمنة المقاومة القادرة على التّواجد في مختلف الميادين، القادرة على تقديم الفائدة الماديّة والمعنويّة لكلّ من يحتاجها. وحيثما وجدت، لم تكن عبئا بل، فردا ميسّرا غير معسّر، محفّزا غير محبط ، مؤمنا يشعّ أملا وتفاؤلا بالنصر الآتي.
- المناخ العقائدي.
تعكس رواية ” دا” مناخا عقائديا واضحا، وهو مفهوم الإمامة والولاية، وجوهريّة التّمسّك بها. ” إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا” هذا المفهوم الذي ارتكز عليه الإمام الخميني العظيم في ثورته . وأعلن أنّ كل ما لدينا من عاشوراء وفق مبدأ امتداد الولاية، واستمرار أو لنقل تجدّد الثورة الحسينيّة التي كان شعارها الإصلاح في الأمة ” إني لم أخرج أشرا ولا بطرا إنما خرجت لطلب الإصلاح في امّة جدي أريد أن آمر بالمعروف وانهى عن المنكر “.
ولا يخفى على متابع، أنّ السّياسة التي كان ينتهجها الشّاه، سياسة بعيدة عن الارتباط بالاسلام المحمدي الأصيل، وبنهج آل البيت ع . لقد كانت سياسة علمانية ليبرلية، مادية ، تابعة للغرب ولأمريكا ما تسبب بضعف وتراجع الكثير من مرافق البلاد الحيوية، ومقدراته الاقتصادية، اتي تشكل دعامة الاقتصاد الايراني.
في ظل هذه الظروف، من الاستسلام للغرب، والتنازل عن ثروات البلاد، خرج الإمام الخميني العظيم، حاملا مشروعا تميّز بعدّة أمور ، لعلّ أبرزها البصيرة ووضوح الرؤيا، بالاضافة الى خطّة تهدف الى تنفيذ المشروع الإلهي في دولة الإسلام . ولنجاح هذا المسعى ، عمل على غرس هذه المبادئ في أذهان الشباب وجعل الحوزات العلميّة مراكز انطلاق لثورته وأهدافه. فأسس حركة اسلامية شعبيّة أساسها الثقة بقيادته، والاستناد الى الموروث الثقافي والجهادي لمدرسة أهل البيت ع .
لقد برزت تجليات هذا المناخ في ذكريات زهراء حسيني ، حيث ومن السطور الأولى أشارت الى نسبها الهاشمي ، ولتكرارها لذكر مصائب أهل البيت ع وإحياء أمرهم ، وأداء الصلاة في أول وقتها، وفي الاقبال على الجهاد والشهادة كالامام الحسين ع ، وفي لبس الصبر كزينب ع. لقد ضجّت ” دا” بالصّور والأحداث والمفردات التي تبيّن هذا الفكرالعقائدي ، والّتمسّك به، دون الاشارة المباشرة اليه، ما جعل هذا الفكر أكثر حضورا وقوة وأكثر تأثيرا في نفس القارئ، بل أتصوّر أنّ السياق الذي ظهر فيه هذا المناخ سيجعل كلّ من يقرأ ” دا” يطرح الكثير من الأسئلة وخاصة إن لم يكن من نفس المدرسة العقائدية.
أخيرا، لعل “دا” ليست رواية وتوثيقا تاريخيا فقط، بل ربما هي للمخالفين سبيل هداية، وللموافقين فرصة لمزيد من اليقين وتثبيتا من الزيغ.