لا يرتوي الورق إلا بالحبر، ولا ترتوي الأرض العطشى للحرية إلا من دمِ الشهداء، ولا يتكامل الفعل الوجودي في الحياة إلا بممارسة كلٍّ من الرجل والمرأة الدور في سبيل الهدف الإنساني؛ عندها يسمو ويتألق، وعندها تنقل عربات الحياة الأفكار إلى أهراءات الإنسانية. ولعل القضية الفلسطينية التي استحوذت على جانبٍ كبير من حركة الإبداع الأدبي، ولمّا تزل، غنيةٌ بمفردات النهوض، والحياة والدروس والعبر. فما تزال تشكّل المحور الأساس لاهتمام العالمين العربي والإنساني بها. إذ انتقلت من خلال الأحداث، والممارسات اليومية، من بعدها العربي، إلى بعدها الإنساني على حد قول الشاعر محمود نون في إضاءته على الرواية.
لقد انبرى الكثير من أصحاب الأقلام يتدارسون القضية، ويكتبون عنها، وعن أحداثها ويومياتها، وعن الممارسات العنصرية على أرضها. ومن هؤلاء الروائية الدكتورة راغدة المصري، في روايتها “رحلة القهر”. فعندما تبدأ بقراءة الرواية، عليك أن تتوضأ بعطر الإنسانية الزاهي المتصاعد من الحروف، التي أوجعتها القضية. وراغدة المصري في روايتها تعصرُ قلمها حتى الوجع، وتبوح بكل ما ينتابها في أعماقها، لكنها لا تسمح لهذا البوح بالحضور إلا من خلال معاناةِ مناضلةٍ فلسطينية داخل سجن الاحتلال. السجن الذي فرّق بينها وبين أولادها وعائلتها ومتابعةِ درب قضيتها. لذا نراها تهدي عملها إلى كلِّ أسير يرزح وراء جدران السجن، وإلى الأرواح العاشثقة للحرية، والأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، إيمانًا منها بعظمة هؤلاء، ودورهم في إظهار قضيتهم، وفي نقل منظومة القيم المفقودة لهؤلاء من العدالة والحرية والتحرر إلى العالم أجمع، فلو نطقت جدران الزنازين التي يقبعُ فيها هؤلاء الأسرى لصرخت حزنًا وألمًا، لتقول للعالم: كفى صمتًا… أمام موتنا البطيء، داخل غرف لا تصلحُ زرائب للحيوانات. حين تشاطرنا فيها الحشرات والصراصير الحياة البائسة. لقد بيّنت راغدة أساليب القهر والعدوان غير المشهودة كالتي مارستها قوات الاحتلال الصهيوني، وما زالت، وهي عدّت ذلك اعتداءً سافرًا على القيم الإنسانية، والتي يناضل من أجلها الإنسان، أنّى كان. كما أنها استفادت من خلال ثقافتها التاريخية والأدبية، في تبيان نضالات الشعب الفلسطيني، عانى أكثر من قرنٍ من الزمن، للدفاع ليس فقط عن القضية وحدها، وإنما عن منظومةِ القيم الإنسانية، وهذا شكّل عالمها المرجعي في روايتها، من الخاص إلى العام، من خلال ذكر الأمكنة، وتواريخِ الأحداث بدقةٍ تبعًا لنضال “قاهرة” بطلة روايتها، فبدا حضور قاهرة من خلال فعلها الإنساني، إيمانًا بالقضية، وحبًّا بالحرية، وإظهارًا لقدرة المرأة في الثبات والنضال، والمقاومة، ومقارعة الأعداء. فالشخصية المحورية في الرواية شخصية نسوية. فهل كان لاختيار شخصية نسوية لدى راغدة هدف ما، تلبية لرغبة كاتبة الرواية، أم الأمر يتعلق بخصوصيات المرأة التي تميزها عن الرجل؟ على حد قول الناقد الدكتور علي زيتون في تقديمه للرواية.
لقد استطاعت راغدة، أن تكشف لنا عن عمق رحلة القهر، فالرحلة تكون عادة للتخلص من القهر، والعذاب، طلبًا للراحة والهدوء، لكن رحلة القهر عند راغدة رحلة في التاريخ إلى كتاب التلمود، كتاب اليهود، الذي ينفي صفة الإنسان عن غير اليهود، وبالتالي تصبح الأموال والدماء والأرض حقًّا لهم – حسب زعمهم- لأن شعبًا بلا أرض يحتاج لأرض بلا شعب. بذلك تكون راغدة قد حملت رسالتها إلى الآخرين بضرورة الإيمان بالإنسان، وما يحمل من قيم. وهي رؤيةٌ أخلاقيةٌ تقوم على تقديم منظومة القيم إلى العالم. وعندها يكون الصهاينة قد جرّدوا عن أنفسهم انتماءهم الإنساني.
ولا نقف عند هذا الحد من رسالة راغدة، بل نلمس في حنايا روايتها قضيةً جوهريةً تمثّلت بالدور الجهادي، الذي لعبته (المرأة/ قاهرة) والذي لم يعد حكرًا على الرجل، واستطاعت أن تؤديه على أكمل وجه. فكلّفها بذلك السجن، والقيد، والبعد، والحرمان من الحرية. وبما أن راغدة امرأة فقد امتلكت القدرة على تقديم خصوصية رؤيتها للمناضلة الفلسطينية بوصفها امرأة، وأظهرت حضورها في التوغل داخل عالم المرأة، والتعبير عن مشاعرها، وما اعتراها من غصّة رافقتها عندما خرجت “قاهرة” من السجن بصفقة تبادل الأسرى، فشعرت “قاهرة” كأنها ولدت من جديد، كانت محكومة ثلاث مؤبدات، وها هي تستنشق من جديد هواء الحرية، وستعود إلى أولادها، لكن غصة رفيقاتها في السجن وتألمها عليهن ينمّ عن فهم عميق لمعنى المقاومة، والتضامن الإنساني.
راغدة المصري، حملت قلمًا لا بندقية، وحبرُ القلمِ يمزّق كالرصاصة، ويفصل بين الحق والباطل. راغدة تحمل فكرًا لتنيرَ عتمة الظلم، وتبدّد أغلال السجن، وهي بذلك تفاعلت مع شخصيتها، وتعاطت مع أحداث روايتها، ببعد إنساني رفيع، لا يتمثّل حصرًا بإظهار دور المرأة المقاومة، بل في النضال من أجل منظومة القيم الإنسانية، من خلال اختبار موقف لشخصية فلسطينية قهرت أحكام الاحتلال ومؤبداته، وأعطت الأمل لبقية الأسرى الذين ينتظرون هدية جديدة، من المقاومة، وربما جلعاد جديد.