سلمان زين الدين*
تشكّل مسيرة عبد الرحمن منيف الروائية علامة فارقة في تاريخ السرد العربي لاسيّما في محطّات ثلاث منها؛ الأولى هي “شرق المتوسّط” ويرصد فيها التعذيب الذي تمارسه الأنظمة الشمولية العربية على السجناء، والثانية هي “مدن الملح” ويرصد فيها التحوّلات الناجمة عن اكتشاف البترول في الخليج العربي، والثالثة هي “أرض السواد” ويرصد فيها تفاعلات الشخصية العراقية مع الأحداث التاريخية في القرن التاسع عشر. ولعلّ هذه المحطّات المفصلية الثلاث هي ما يمنح تلك العلامة فارقيّتها، ويجعل صاحبها جديرًا بالدراسة والبحث. بهذا المعنى، تضيف دراسة أعماله قيمة إلى الدرس النقدي حتّى من قبل أن يبدأ، فكيف إذا امتلك الدارس مهارات الدرس واستخدم الأدوات المنهجية المناسبة، كما هي الحال مع الدكتورة سميّة طليس في بحثها: “بناء العالم الروائي عند عبد الرحمن منيف”؟
“سباق المسافات الطويلة”، الرواية التي تتّخذها الباحثة أنموذجًا تبني عليه بحثها، وقد كتبها صاحبها بين العامين 1974 و1978، وصدرت منذ أربعين عامًا، هي الحلقة السادسة في سلسلة منيف الروائية المؤلّفة من ثلاثٍ وعشرين رواية. وفيها يرصد الصراع البريطاني الأميركي على النفط العربي، الذي اندلع خلال السبعينيات من القرن الماضي، واستُخدِمَتْ فيه أسلحةٌ استعمارية شتّى، وانجلى عن فوز الأميركي في نهاية السباق. ومع الأسف، ما يزال السباق مستمرًّا والعرب يغطّون في سباتٍ عميق، ويغرقون في انقساماتهم التي لا تنتهي.
في بحثها تحاول طليس الإجابة عن سؤالين اثنين هما مدار أيّ عمل نقدي يتوخّى تقديم معرفة جديدة بموضوعه. “والنقد ما لم يكتشف عمقًا دلاليًّا غير مكتشَفٍ ليس نقدًا”، على حدّ تعبير الدكتور علي زيتون. السؤال الأوّل هو: ماذا يروي عبد الرحمن منيف في “سباق المسافات الطويلة”؟ والثاني: كيف يفعل ذلك؟ فتُفرد الباب الأوّل من البحث للإجابة عن السؤال الأوّل، والباب الثاني منه للإجابة عن السؤال الثاني. ولا يعني ذلك استواء السؤالين في الأهمّية، في الدرس النقدي، فالأرجحيّة هي للثاني. ومع هذا، لا بدّ من الأوّل للوصول إلى الثاني. ذلك أنّ الكيفية، في النقد كما في الأدب، تتقدّم على الماهيّة.
بالدخول إلى البحث من الباب الأوّل، المتعلّق بالحكاية، نشير إلى الجهد الكبير الذي بذلته الباحثة في عملها، ولعلّ قيامها بتفكيك النصّ إلى مئات الوحدات السردية، في إطار الدراسة، يعكس حقيقة هذا الجهد. فإذا كان عبد الرحمن منيف قد وضع روايته في خمسة أقسام وواحدٍ وخمسين فصلاً بحيث يتراوح عدد الفصول في القسم الواحد بين ستّة فصول، في الحدّ الأدنى، كما في الخامس، وسبعة عشر فصلاً، في الحدّ الأقصى، كما في الثالث، فإنّ سمية طليس تفكّك الفصول الواحد والخمسين إلى ثلاثمئة وثمانين وحدة سردية صغيرة بحيث يتراوح عدد الوحدات في الفصل الواحد بين وحدتين اثنتين، في الحدّ الأدنى، كما في الفصل الثالث عشر من القسم الرابع، وستّ عشرة وحدة، في الحدّ الأقصى، كما في الفصل العاشر من القسم نفسه. وإذا ما علمنا أنّ الباحثة تقوم، بعد تحديد الوحدات، بتعيين دلالاتها، وأنّ بعضها أحادي الدلالة، وبعضها الآخر متعدّدها، ما ينجم عنه مئات الدلالات إن لم يكن أكثر، وأنّها تقوم، بعد ذلك، بتحليل الدلالات واكتشاف العلاقات فيما بينها داخل الفصل الواحد، ورصد العلاقات بين الفصول داخل القسم الواحد، بما يؤدّي إلى وصف البنية السردية ووظائفها، سواء ضمن الفصل الوحد، أو بين الفصول المختلفة، لأدركنا عندها أيّ جهدٍ بذلت الباحثة، وأيّ نَفَسٍ طويل لديها. إنّها عمليّة تفكيكية ـ تركيبية بامتياز.
وعلى الرَّغم من الجهد المبذول في تحديد الوحدات السردية وتعيين دلالاتها، فإنّ نتائج هذه العملية المزدوجة تتّخذ طابَعًا أفقيًّا، تراكميًّا، ولا تخضع لآلية إحصائية معيّنة، نصل من خلالها، إلى تحديد الدلالات الغالبة على النصّ الروائي، وتحديد الحقل الدلالي الأوسع فيه، ما يحول دون الاستثمار الأمثل للجهد المبذول.
بالدخول إلى البحث من الباب الثاني، المتعلّق بالخطاب، تقوم الباحثة بدراسة الشخصيات الرئيسية في الرواية، في ضوء العوامل الستّة التي يقترحها أ. ج. غريماس، وتخلصُ بنتيجة الدراسة إلى سيطرة العامل المناوئ على معظمها ما يحول دون تحقيق برامجها السردية. ثمّ تقوم بدراسة هويات الشحصيات، وتخلص إلى انتمائها إلى الطبقة البرجوازية التي تغلّب المصالح على المبادئ، وتُعلي المنافع على القيم، وتبرّر غاياتها الوسائل. ومن خلال هذه الدراسة المزدوجة، تبرز الباحثة الصراع القديم الجديد على الشرق بأدواته، وغاياته، ونتائجه.
وفي السياق نفسه، تتناول الباحثة السرد في “سباق المسافات الطويلة”، من خلال مكوّنات: الزمن، الراوي، والمنظور الروائي. تدرس الزمن، في ضوء علاقات الترتيب والديمومة والتردّد التي خلص إليها الناقد والمنظّر الفرنسي جيرار جينيت، والتقنيات المستخدمة في كلٍّ منها، ووظائف كل تقنية، ضاربةً الأمثلة النصية على كلٍّ منها، ما يضفي على الدراسة طابعًا إجرائيًّا، تعليميٍّا، ويجنّبها الغرق الغرق في التجريد النقدي. وتدرس الراوي في موقعه من المروي، وفي علاقته بالشخصيات الروائية، وفي تعدّده النوعي. وتدرس المنظور الروائي في مستوياته الأيديولوجية، والنفسية، والتعبيرية. وغنيٌّ عن البيان الجهد الذي تستلزمه مثل هذه الدراسة المثلّثة.
ولا يكتملُ بناءُ العالمِ الروائي في “سباقِ المسافاتِ الطويلة” ما لم يتمَّ التوقّفُ عندَ مكوّنِ المكان. وفي هذا السياق، تدرسُ الباحثةُ دوائرَ المكان، تقاطباتِهِ، أنواعَهُ، وظائفَهُ وعَلاقاتِه. وتخلُصُ، بنتيجةِ الدراسة، إلى اتساعِ الدوائر، حدّةِ الاستقطاب، تعدّدِ الأنواع، تنوّعِ الوظائف، وتشعّبِ العلاقاتِ بالمكوّناتِ السرديةِ الأخرى.
وبعد، استطاعَتْ سميّة طليس، بالذائقةِ المرهفة، والرؤيةِ الثاقبة، والمنهجيةِ المناسبة، والنَّفَسِ الطويل، والقراءةِ النقدية، أن تقدّمَ معرفةً بموضوعِ بحثِها، فأضاءَتْ رؤيةَ الكاتب، منظورَهُ الروائي، العالمَ المرجعيَّ الذي يَمْتَحُ منْهُ ويُحيلُ إليه، والعالمَ الروائيَّ الذي بناه، ما يجعلُها تَعِدُ بمستقبلٍ زاهرٍ كما توسّمَ فيها الدكتور علي زيتون.
*الأستاذ سلمان زين الدين: أديب، شاعر، ناقد ومفتش تربوي. صدر له: كتابان في الأدب الريفي. خمس مجموعات شعرية. وخمسة كتب في النقد الروائي.
حاز جائزة سعيد عقل للشعر من جامعة سيدة اللويزة عام ٢٠١٥ وجائزة سعيد فياض للإبداع الشعري عام ٢٠١٦. دخلت نصوصه الأدبية مناهج التعليم في القطاعين العام والخاص وشارك في تأليف كتاب التربية الوطنية الصادر عن المركز التربوي للبحوث والإنماء. يكتب حاليا في مجلة العربي وإندبندنت عربية.