الشخصيّة في الرواية الفلسطينيَّة
د. عائشة شكر
مدخل:
يمتاز الوعي بكونه كائناً أسطوريّاً يحتاج إلى من يحرّكه إذا سكن رماد التخلّف، مثلما يحتاج إلى من يبعثه إذا اختفى في ظلام الجهل( ). ومن غير العظام الملتزمين أهلاً لتحريكه بغية الانتقال من مرحلة التأمّل إلى مرحلة الوعي بوساطة التفكير؟! من مثلهم قادر على مساءلة الماضي والحاضر والمستقبل من أجل صناعة الحرّية والإنسان؟!
خمسٌة وستون عاماً على نكبة فلسطين، خمسة وستون عاماً ولا يزال الجرحُ نازفاً، يطرحُ علينا أسئلته المحرجة. كبارٌ حملوا مشعل الحرّية، ومشوا على درب الجلجلة النضاليّة، فكانت المقاومة، وكنّا، لكنّ الطريق إلى تحقيق الحلم الكبير المسمّى فلسطين ما زال بعيداً بعيداً.
ولا شكّ في أن المقاومة صراع بين ثقافتين، وعلى صعيدين: عسكريّ ومدنيّ. والعمل العسكريّ واحد من تجليّات ذلك الصراع، ثقافة المسيطر المستبد ولها لغتها، وثقافة الرافض المقاوم ولها لغتها، يعني ذلك أن الصراع بين ثقافتين معيّنتين هو صراع بين لغتين معبّرتين عن تينك الثقافتين( ). لذلك دخل الأدب بعامّة، والرواية الفلسطينيّة بخاصّة، معترك النضال، لتبحث هذه الأخيرة عن مستقبل شعب يقاوم محاولات محوه من الذاكرة، فحملت هموم الوطن ورفعت لواء قضاياه، وتبنّت معاناته بعد الخيبات التي مُني بها، خصوصاً بعد الانفصال، وبعدهزيمةالعام 67 إذ حتّمت عليه هذه الصدمات العودة إلى الذات، وحوّلت حركة المدّ الفلسطينيّ في الاتجاه المعاكس، فمن القضايا القومية إلى القضايا الفلسطينية، ومن العام إلى الخاص، ومن روايات الزمن الضائع التي تبكي الماضي وترثيه إلى روايات التساؤل والرفض والمواجهة.
هذا كلّه أعاد طرح الأسئلة، وجعل الرواية طرفاً في المعركة، وصنو العمل المسلّح، يوازي القنبلة والمدفع.
وإذا كانت مراجعة الواقع تؤكّد أنه حتى هزيمة67 (قرابة العشرين عاماً) لم تكن نكبة فلسطين قد نالت الأهمية الكافيةبعد؛ لأنّ الخطاب القومي الرسميّ والروائيّ لم يتجاوز بعض المقولات العاطفيّة والوجدانيّة المرتبطة باللغة والتاريخ والمصير( )، فإن الرواية الفلسطينيّة سوف تكتسب فعاليّة بعد هذا التاريخ، فتغضب، وتثور، وتمارس العمل الفدائي، وتؤدّي دوراً في تعبئة الجماهير، لتثبت أن الروائي الفلسطيني شريك في صنع القرار، وفي صنع التاريخ. فقد تبدّل دوره فلم يعد محايداً بالمعنى المطلق للكلمة، إذ إن وظيفته ليست البكاء على ما كان، إنما المشاركة في صنع ما سيكون.
وقد برز في هذه المرحلة غسان كنفاني، الذي أعاد تشكيل الواقع الفلسطيني في رواياته، متجاوزاً الصدمة، متخلّصاً من الانفعالية البكائيّة، فراح يصطدم بالواقع الأليم، يسائله، وعاد إلى الماضي يستلهمه، ويجعله منطلقاً لرسم الحاضر والمستقبل. فقدّم روايتين هما (رجال في الشمس، العام 1963م) و (ما تبقّى لكم، العام 1966م) وقد مثّلا صياغة نجحت للمرّة الأولى في امتلاك الواقع، وامتلاك الأداة الفنّية وتضافرهما الجدلي على صعيد الرواية الفلسطينيّة. فالعمل الروائي الأوّل لغسان كنفاني (رجال في الشمس) تضمن رؤية فنّية وأيديولوجيّة من خلال صياغة متقدّمة جعلت هذا العمل البداية الحقيقية للرواية الفلسطينية المقاومة تحديداً، والعربية عموماً( ). فكان جذراً أولاً للروايات، تنامت على امتداداته محاولات فلسطينية أخرى لاحقة في هذا الحقل، وكان إيذاناً للانتقال من زمن الخطابة إلى زمن الكتابة في العام 1965م( ).
وقد عاد غسان ليكمل بعد النكسة ما كان قد بدأه، رافضاً الهزيمة والاستسلام، والموت المجانيّ، فشارك في الإجابة عن أسئلة الهزيمة من خلال روايتيه (عائد إلى حيفا، العام 1969م، وأم سعد، العام 1969م)، وفيهما تتطوّر المقاومة في رواياته من الهروب والسلبيّة إلى الممانعة والرفض والتشبّث بالأرض والدفاع عنها( ). فرواية أم سعد مثّلت ملحمة الجماهير الفلسطينية بأناسها البسطاء الذين ينتمون إلى الطبقات الفقيرة الكادحة بمعاناتهم وهمومهم وبحثهم المضني عن لقمة العيش( ). فهم ضمير الأمّة، والمادة الأولى لأي عمل روائي. فأم سعد تحاول إثبات الذات ضد من يريد تحطيمها وإلغاء وجودها، فتسجّل أنموذجاً للمقاومة الفاعلة التي تختزن في داخلها إمكانيّة نصرها وانتصار الجماهير بها( )، وهكذا نستطيع ان نقول أن غسان قد أعاد طرح الأسئلة من مرحلة إلى أخرى. فمن مرحلة (لماذا؟) في روايته (رجال في الشمس) إلى مرحلة (كيف؟) في روايتيه المذكورتين (عائد إلى حيفا) و(أم سعد)( ). فقد أدرك غسان أن الخروج من المأساة لا يكون بانتظار وحدة عربيّة، إنما يكون بالولوج إلى الفدائيّين( ). لذلك أعلن الطلاق النهائي مع الماضي الذي خدّر وجدان الفلسطيني، مقابل الالتحام الكامل بالمستقبل/ الثورة التي تشكّل القطب الموجب الموازي للقطب السالب/ الماضي( ).
هكذا أصبح واضحاً أن الرواية الفلسطينية قد غادرت طريق الحلم( ) إلى طريق النضال والثورة، فواكبت الأحداث التي كانت تعصف بفلسطين، وتتناول محطاتها وتفاصيلها، فعرّجت على انتفاضة العام 1987 وصولاً إلى اتفاق أوسلو العام 1992 وما شكّله من منعطف خطير، وعكست الانقسامات الحادّة حوله، والمفاجأة التي أصابت بعض المعترضين لأنهم أدركوا أن هذا الاتفاق ليس الحلم الذي ناضلوا من أجله، فحاولت تفسير المواقف المتناقضة التي رافقته، ثم حطّت رحالها عند الانتفاضة الثانية في العام (2000) ولا تزال تكمل الطريق.
هكذا سار الخطاب الروائي بشكلٍ متوازٍ مع خط الثورة والأحداث التي تعصف بالمنطقة، إذ برز روائيّون كبار، يواكبون هموم الفلسطيني بخاصّة، والعربي بعامّة، ويخوضون معارك بأقلامهم لا تقلّ أهمية عن المعارك التي تخوضها الجيوش. فهي الحرب الناعمة التي تؤسّس لمعادلات جديدة ومراحل متقدّمة.
ومن هؤلاء الروائيّين إبراهيم نصرالله، الروائي والشاعر الملتزم بقضايا الإنسان، فقد ظلّ وفياً لفكرة التحرير والعودة، ومؤمناً بالقضيّة. يقدّم في رواياته متتاليات سرديّة فلسطينيّة تحكي حكاية أرض، وتشرّع نوافذ الذاكرة، وتقلّب صفحاتها، لترينا حقائق مجتمع راسخ، أصيل، له تقاليده، وقيمه، وأعرافه، وحكّامه، وشعبه… وتثبت أن علاقة الفلسطيني بأرضه ليست طارئة، إنما ضاربة في الجذور، إذ يبدوان معاً متكاملين، لا يستقيم أحدهما دون الآخر. وقد عُدّت روايته الأولى (براري الحمى) واحدة من أهم عشر روايات كتبت في العالم، وقد أنجز بعدها الكاتب عدداً من الروايات التي نالت اهتماماً كبيراً، وخصوصاً تجربته في الملهاة الفلسطينية التي عُدّت أول مشروع روائيّ لتأمّل القضيّة الفلسطينيّة على مدى 125 عاماً. وفي روايته الأخيرة (قناديل ملك الجليل)، يعتمد نصرالله على 15% من الحدث التاريخي، ليصوغ ملحمة روائيّة، ترصد الظواهر التي أدت إلى هزيمة بطل عربيّ اسمه ظاهر العمر الزيداني. فالكاتب يستعيد التاريخ، ليوسّع له مكاناً في الذاكرة الروائيّة التي تصونه من السقوط( ). يقول: في مرحلة من المراحل عاش الوطنيّ على حساب الإنسانيّ، ولكن جاء الوقت ليوسّع الوطني الإنسانيّ… فالأدب ينشد التغيير ويسعى إليه.
وسوف ندخل معاً عالمه، ونتعرّف شخصياته، بعد أن نعرّج على عالم غسّان كنفاني وذلك كله من خلال منهج أسلوبيّ بنيويّ قوامه دراسة الأدبيّة في مكوّناتها الكلاميّة والشكليّة( )، إذ يعدّ النص بنية كلّية ذات قوانين تحكم نظامها، وتدرس هذه القوانين والنظم، ليس بوصفها وحدات جزئيّة متنافرة، ولكن بوصفها عناصر، تحكمها علاقات، تحقّق لها نظامها وتشكّل بنيتها الكلّية( ). ويؤازره المنهج الثقافي التكويني الذي يرى أن جماليّة نتاج الأديب، نتاج ثقافته المنتمية إلى النّص الثقافي الأعلى الخاص بالمرحلة الزمنيّة التي تفيّأ هذا الكاتب أو ذاك تحت ظلالها( ). كما ستشكل السرديّة بجزئها الخاص بالشخصيّات منهجاً مناسباً يُعتمد عليه في بعض جوانب الدراسة. وقد بدأت بدراسة الشخصيّة الرئيسيّة عند غسان كنفاني ثم انتقلت إلى دراسة الشخصيّة الرئيسيّة عند إبراهيم نصرالله في روايته (قناديل ملك الجليل)، ورمزيّة كل من هاتين الشخصيّتين ثم أنهيت بحثي بخاتمة عقدت فيها موازنة بينهما، وأشرت إلى دلالة كل منهما على العصر، وعلاقتهما بكلا الكاتبين.
المبحث الأول: الشخصيّة الرئيسيّة (الهُويّة) في رواية «أم سعد»:
علم السياسة هو علم الدولة، فمنذ الإغريق حتى يومنا هذا، كانت الدولة ولا تزال محور الأبحاث السياسيّة، ثم ما لبثت أن غزت الإصدارات الأدبيّة، انطلاقاً من افتراض تلازم الدولة والأمة بثقافتها المتنوّعة. وإذا كان “دي فيلنيف” De Villeneuve قد أطلق تسميته Statologie أي علم الدولة على علم السياسة، فإنّ هذا العلم لم يعد وقفاً على السياسة، إنما دخل بقوّة في إطار الأدب، آخذاً دفعاً جديداً تحت تأثير نموّ التيارات القوميّة في العالم العربيّ، وبروز دولة إسرائيل إذ دخل معترك الحرب وبناء الأوطان، حتى أضحى في أحيان كثيرة، أداة سياسية لديها القدرة على تحويل المجتمعات إلى دول قادرة ذات فعالية.
وخصوصية العلاقة هذه، تجعل الأدب مشاركاً في العملية السياسيّة، وفي تحديث المجتمعات، لكونه قدرة فاعلة، باعثة على الوعي. وإذا كان جوهر القدرة في علم السياسة قائماً على الأمر، Le commandement كما يقول برتران دي جوفنيل B. de Jouvenel لأنّ أصحابها يفرضون طاعتهم على المجموعات البشريّة، وبفعل قوّتهم تتوحّد الجماعات، وتتحوّل إلى أمّة( )، فإن جوهر قدرة الأدباء يقوم على الأمر غير المباشر عبر بثّهم الوعي وإضاءة الطريق أمام الشعوب السائرة على دروب الحرّية والتحرّر، فيحدث التناغم بين دور الأديب ورسالته في المجتمع.
والكلام على الأدب الرسالي والملتزم، يقودنا إلى الكلام على روايات غسان كنفاني، التي نادراً ما ابتعدت عن السياسة، خصوصاً في روايته «أم سعد» التي سندخل معاً عالمها، لدراسة المكوّنات الرئيسيّة للشخصيّة عنده التي رسمها من أجل نصرة قضيّته الأساسيّة ألا وهي فلسطين.
أ- مكوّنات الشخصيّة الرئيسيّة عند غسان كنفاني:
كتب غسان كنفاني روايته «أم سعد» في العام 1969 أي بعد سنتين من هزيمة حزيران 1967، وجسّد فيها الأم الفلسطينيّة التي فُجعتْ بسبب هذه النكسة التي أودت إلى احتلال القدس والضفّة والجولان. فأم سعد امرأة فلسطينيّة تسكن المخيّم، وتعاني ما تعانيه من قساوة وحرمان وقهر وظلم، ولكنّها تشتقّ من ذلك كلّه أملاً وقوّة، لتواجه محاولات سلب الحياة التي تتعرّض لها يومياً في المخيّم، فتصبح رمزاً للمرأة المقاومة الباحثة عن دروب الحرّية، والتي تجابه قساوة القدر باللحم والدم، وتنازع من أجل رسم أقدارها، دافعة بفلذة كبدها، ابنها سعد، إلى العمل المسلّح، ليكتب بدمه حكاية شعب يرفض الاستسلام، ويشتقّ من اليأس أملاً، ومن الإحباط ثورة، ومن الهزيمة نصراً.
تخطّ أم سعد لنفسها وللأجيال القادمة لغة واحدة هي لغة المقاومة، فإذا بها مجموعة شخصيات في امرأة واحدة: الأم، المقاومة، السياسيّة، العاملة، الزوج… فطبعها الهادئ المتوازن، وقدرتها على التماسك، يشيران إلى الانتقال من المناخ الانفعالي الذي أصاب الشارع الفلسطيني إلى مناخ الثقة بقدراته على التحكّم بمجريات الأمور، والانتقال من مرحلة تلقّي الضربات إلى مرحلة الهجوم. وهويّة أم سعد، لا تتّسم بالبساطة، على بساطتها، إنما بالتعقيد، لأنها امرأة بعيدة الغور، قد حوّلت كلامها إلى رسائل لها أبعاد دلاليّة، وأفعالها إلى مواقف، وتبرّأت من المنافقين المتاجرين بالقضيّة حتى لو كانوا أخوة لها في الهويّة.
فما هي مميّزات هذه الشخصيّة؟
1- الهويّة الإنسانيّة:
يشكّل الإنسان محوراً أساسيّاً في رواية أم سعد. فرواية لا يكون هدفها الإنسان قبل أي شيء آخر، هي رواية غير أخلاقيّة. والإنسانيّة نفسها كرامة dignité إذ لا يجوز أبداً استخدام الإنسان بوصفه وسيلة، إنما يجب أن يعدّ دائماً غاية( ). لذلك اتّسمت تصرفات بطلة الرواية بالمشروعيّة الأخلاقيّة، فالتزمت بواجبها تجاه نفسها وتجاه الآخرين. أما واجبات الإنسان نحو ذاته، فتقوم في شكل اتفاق قواعد إرادته على مكانة الإنسانيّة في شخصه، أي امتياز الحرّية الباطنة، والامتناع عن أن يكون ألعوبة في يد الأهواء والميول( ). وهذا ما حدا بأم سعد إلى رفض واقعها في المخيّم والتفتيش عن عالم بديل: «لا أريد أن أموت هنا في الوحل ووسخ المطابخ»( ). هنا يتقاطب المخيّم مع فلسطين/الحلم والحرية. وهذا التقاطب وإن كانت له أبعاد اجتماعيّة تخالطه أبعاد إنسانيّة، إلا أن طابعه الأساسي سياسيّ لأن الانتقال إلى واقع أفضل مرهون باتفاقات دوليّة وبثقافة تهميشيّة تعمل على قمع أحلام الفلسطينيّين السياسيّة.
فتعبير «لا أريد» يضمر موقفاً ويحمل إرهاصاً بالمستقبل، إنه الخطوة الأساس التي تسبق رحلة الألف ميل. فالانتقال من مرحلة الإحباط والاستسلام إلى مرحلة النضج الإنساني لاستحضار العالم البديل، قائم في هذا الموقف الذي يحمل بذور المواجهة. وما حضور الاسم المجرور «الوحل» والمعطوف عليه «وسخ المطابخ» إلا لتفسير الواقع المزري الذي يعيشه فلسطينيّو المخيّمات، «اهترأ عمري في المخيّم»( ). ففعل «اهترأ» لا يدلّ على الفقر بقدر ما يدلّ على الاستراتيجيّة المتبعة للسيطرة على الإنسان الفلسطيني، وإذا كانت أبعاد الاهتراء زمنيّة، تشير إلى أن زمن العودة قد طال، فإنها أيضاً تشير إلى أن الإنسان الفلسطيني لا يحظى بحدٍّ أدنى من مقوّمات الحياة. ولكن عامل الاهتراء / السلبي سيتحوّل إلى فاعل إيجابي، فيدفع باتجاه «درجة متقدّمة من التحدّي الواعي، القادر على تحويل العذاب إلى حافز ثوري»( )، وهو سيحفّز أم سعد على رفع التحدّيات وربط أحلامها بأهداف استراتيجيّة: «طاف المخيّم في الليل… الله يقطع هالعيشة… أنا لا أبكي يا ابن عمّي. أودّ لو أستطيع. لقد بكينا كثيراً. كثيراً. أنت تعرف. بكينا أكثر مما طافت المياه في المخيّم ليلة أمس… لا أحد يبكي الآن… أمضيت كل الليل غارقة في الوحل والماء. عشرون سنة( ).
فأم سعد ليست امرأة بكائيّة، تنوح على ما كان، إنما هي امرأة تنظر إلى ما سيكون «أنا لا أبكي» أو «لا أحد يبكي الآن». فقد أيقنت أن الأحلام الأيديولوجيّة لا تتحقّق إلاّ بالقطيعة مع الإحباط النفسي، وأن البكاء لا يقلّ خطورة عن الاحتلال نفسه، وأنّ قوّة الفلسطينيّين في ذاتهم، وفي إخلاصهم لقضيّتهم، وفي خروجهم على الواقع بقوّة العنف المسمّى ثورة.
فالمخيّم أشبه بعالم كابوسيّ، يعكس رؤية سياسيّة، تستهين بحياة الآخر، وتماهي بين الصديق والعدوّ. وهذا التماهي مرفوض، أخلاقيّاً وإنسانيّاً وسياسيّاً، لكنّ واقع الأنظمة العربيّة أثبت أنّها لا تقلّ خطورة على الفلسطينيّ من العدوّ الصهيوني. هذا الواقع راح يحفر عميقاً في وجدان أم سعد، إذ راحت تبحث عن واقع إنسانيّ نقيض، فكان الخيار الوحيد التمرّد وقلب الطاولة على الجميع، بالعمل الفدائيّ؛ لأنّه الطريق الوحيد إلى الوطن والإنسانيّة. فراحت تحاول تحقيق ذاتها، بعدما فهمت أنّ الإفقار آلة سياسيّة بديلة للآليّة العسكريّة تمعن قتلاً بالفلسطيني، وقد خاضت كلتاهما حربها الضروس ضدّه، لذلك راحت أم سعد تساعد الآخرين وتتفانى في سبيل هذا، لأن الإنسان الواعي وعياً سليماً يدرك أهمية أن يعيش بتفاعل إيجابي مع أخيه الآخر، وعكس ذلك يشير إلى خلل وينتج وعياً قاصراً( ). فقد مدّت هذه المرأة يد العون لغيرها، وبثّت الأفكار الثوريّة أينما حلّت: «جئتُ إليك لأقول شيئاً، أنا التي كنتُ أنظّف هذا الدرج ثلاث مرات في الأسبوع، وقبل شهر وثلاثة أيام جاء الخواجا فقال لي مع السلامة… كم يعطونك؟…
– وجعلوني انا أقطع رزقك. الله يقطع رزقهم!… يختي، والله لم أكن أعرف»( ).
هذه المشهديّة ببعدها الإنساني، ترينا أن الفلسطيني صار عنواناً للظلم، فقد تآمر عليه الخارج والداخل اللذان استغلاّه وتلاعبا به، غير آبهين بما يعاني. وقد وعت أم سعد هذا كلّه، فراحت تقدّم أمثولة رائعة في مساعدة الإنسان لأخيه الإنسان، وكان عملها يتطابق مع قول سارتر الذي يرى أنّ الآخر «ما هو إلا أنا آخر، أي كأنا مماثل لأناي»( ). فالعلاقة مع الآخر ببعدها الأيديولوجي السليم تشكّل إمكانيّة للخروج من الأزمة، عكس العلاقة السلبيّة التي لا يرى فيها الفرد إلاّ كيانه الخاص، عندها يفقد الصفات التي تؤهّله لأن يكون فرداً اجتماعيّاً، فيعاني من خلل في شخصيّته وفي إنسانيّته، ويكون دوره أخطر من دور الاحتلال والآلة العسكريّة القمعيّة. ويمكن القول أنّ العلاقة مع الآخر تولد من رحم المخزون الثقافي قبل أن تظهر في وعي الفرد وقبل أن تبحث لها عن المسوّغات الذهنيّة. ومخزوننا الثقافيّ العربيّ عابق بالإنسانيّة التي ولدت من روح المجتمع والدين. فالفلسطيني مطالب قبل أي شيء، أن يفعّل إنسانيّته لأنّها مدخل إلى الحلّ وخطوة أولى تجاه تحقيق حلمه الكبير «ماذا نفعل في المخيّم غير التمشّي في ذلك الحبس العجيب؟»( ).
هذه الوضعيّة المقلقة تومئ إلى أننا بحاجة إلى تثقيف الإنسان العربيّ وإلى قطيعة مع الأنظمة البائدة التي لا تقيم وزناً للإنسان ولا تعدّه من أولويّات عملها السياسيّ. كثيرة هي المواقف التي تظهر شخصيّة أم سعد ببعدها الإنسانيّ، ولكن أكثر موقف تتجلّى فيه إنسانيّتها هو سعيها إلى تحرير الوطن والمواطن؛ لأنّه سعي إنسانيّ قبل أي شيء آخر. ففي سعيها إلى تحقيق ذاتها موقف إنسانيّ وأخلاقيّ، وفي مواقفها مع الآخر بعد وطني يختصر الأبعاد كلّها.
وهكذا ظهرت أنّها لا تقلّ أهميّة عن المثقّف العربيّ الذي طالما صوّر نفسه سابقاً لمجتمعه «والذي طالما طاب له أن يتصوّر أنّ مهمّته التاريخيّة هي على وجه التحديد أن يتقدّم مجتمعه لينير له أقوم المسالك إلى التقدّم»( ). لكنّه في كثير من الأحيان لم يكن غير منظّر عن بعد، في حين أنّ أم سعد ابتعدت عن الهرطقة الكلاميّة، وتقدّمت بنفسها لتشقّ الطريق، وأمام الانشطار بين البكاء والصمود، والانهيار والتماسك، والقول والعمل، كانت خياراتها واضحة، مؤمنة أنّ الصياح لا يحرّر الأوطان، وأنّ الخوف لا يردّ كرامة، فسارت بأقدامٍ ثابتة نحو تحقيق أحلامها الوطنيّة والإنسانيّة. فكان الخيار الأجمل الذي يجعل النّفس آتوناً للثورة المسلّحة، فكأنّها تقول إن لم أحترق أنا وتحترق أنت، فمن سيشعل السّاحة لهيباً وناراً على الإسرائيليّ؟!
2- الهويّة الدينيّة:
ليس كل إنسان قادراً على إدراك المشكلة ووعي حلّها، وحسب رؤية هوسرل إن الأشياء أحياناً تبقى موجودة بذاتها لكنها قد تكون بالنسبة إلينا غير موجودة في الوقت نفسه، أي أننا نعي الأشياء حسب إدراكاتنا لها( )، وبالتالي يختلف الحلّ.
فبعض الناس قدريّون، يشعرون أن المآسي قدرهم، وأنهم غير قادرين على مواجهتها أو محاولة الخروج من أحكامها التي تجعلهم مهزومين( ). وبعضهم الآخر يؤمنون أن إحداث تغييرات في حياتهم لا يكون بالتسليم إنما بالعمل والمواجهة. ومن ناحية دينيّة هناك توفيق بين التوكّل والعمل. فالتوكّل على الله عبادة الصادقين: «وعلى الله فليتوكّل المؤمنون»، لكنّ التوكّل يستوجب أخذ الأسباب.
وأم سعد التي «تلفّ شالها الأبيض حول رأسها»( ) أيقنت أنّ الإتكال على النّفس محور التغيير؛ لأنه الفاعل الحقيقيّ «كلّ مساء أقول يا ربّ وكلّ صباح أقول يا رب! وها قد مرّت عشرون سنة، وإن لم يذهب سعد، فمن سيذهب؟( ).
إن تكرار كلمة «كلّ» وما يصاحبها من كلمات زمنيّة «صباح، مساء» يضمر إحباطاً وقنوطاً، فاللجوء إلى الدّين لم يشكّل مخرجاً للقضيّة، والدعاء التسليميّ لم يوازِ العمل المسلّح. فجملة «إن لم يذهب سعد فمن سيذهب؟» هي بديل حقيقي لعشرين سنة من الدعاء. وهذا البديل العقلاني يعوّل عليه للخروج من مأزق لا تشكّل الغيبيّات فيه جزءاً من الحلّ. فقداسة القضيّة لم تمنع تلويثها، وقدسيّة القدس لم تمنع تدنيسها، والدعاء لم يسترجع ذرّة واحدة من ترابها. فالدور إذاً للواقعيّة المسلّحة التي ستترجم على الأرض، وتتولّى قيادة مقاومة قد تتّجه اتجاهاً علمانيّاً أو دينيّاً ولكنّها في كلّ الأحوال ستحوّل المعركة إلى واقع ملموس، وفلسطين إلى شعار تعبويّ، يستقطب كلّ من يؤمن بها بوصفها قضيّة القضايا العربيّة.
وإذا كان الجهاد باباً من أبواب الجنّة، فإنّه باب يفضي إلى الحرّية وتحرير الأوطان، لأنّه كفاح من أجل البقاء أرضاً وشعباً. وهو وإن كان سعياً للحياة، إلا أنّه قد يحمل في طيّاته الموت. وأم سعد لا تبتعد كثيراً عن الله، الذي يحتلّ مكانة في وعيها، فتعوّل عليه في حماية ابنها «الله يكون معك ويحميك»( ). فأن يكون الله معه «معك» هذا يطمئنها، ولكن لا تكتفي بذلك إنّما تريد منه أن يحميه «يحميك». فهي ككلّ أم عربيّة، تريد أن يتوازى خطّان: الوطن، والأمومة،من دون أن يتعارضا. فهي واضحة الرؤيا تعلم أنّ انتصار المقاومين لا يكون إلاّ بالدم، وأنّ نجاحّ القضايا الوطنيّة أطرافها اثنان: الإنسان المؤمن بالقضيّة، والسلاح الذي يترجم هذا الإيمان واقعاً.
ولا شكّ في أن أم سعد رمز للأم الفلسطينية المفعمة بالقوّة والإيمان والتي ما زالت مستعدّة للفعل، وللتضحية، ولتغيير مجريات الأمور، إذ تجاوزت الصدمة ودخلت عمق الأزمة، وراحت تقوم بدورها محاولةً بناء عالمها المنشود، متيقّنة أن جرح الوطن هو جرحها، وأن لا شيئاً مستحيل، وأنّ الله معها «بشّر الصابرين». وإن كانت قد تضعف أحياناً، لأنّها أم في النهاية، وضعفها هذا لا يقدّمها مستسلمة، بقدر ما يقدّمها أم حقيقيّة، تحاول التوفيق بين واجبها الوطنيّ والأموميّ، فتحتاج إلى الله في محاولتها الصعبة.
3- الهويّة السياسيّة والمقاومة:
الجهاد ليس معناه دائماً الحرب، إنما كلّ سعي جدّي من أجل تحقيق الأهداف المقدّسة، فالجهاد قد يكون علميّاً أو اقتصاديّاً أو ثقافيّاً… والمسلم الحقيقيّ لا ينعزل عن الحياة، إنّما يخوض غمارها، ساعياً إلى التحرّر من الاستبداد والجهل والظلم.
وقد قال رسول الله (صلعم): «من ترك الجهاد ألبسه الله ذُلاًّ وفقراً في معيشته، ومحقّاً في دينه، إنّ الله تبارك وتعالى أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها»( ).
أما من وجهة نظر فلسفيّة، فإن الحرية الإنسانية بالنسبة إلى كيركجورد، تمثّل «دعامة الوجود البشريّ، فليس الإنسان إلاّ حرّية، ولا يعد وجوداً حقيقياً قبل قراره الحرّ، وقبل تكوين ذاته بذاته»( ). لذلك صار لزاماً على كل إنسان أن يجاهد في سبيلها، ويبذل الغالي والرخيص من أجلها. ولا عجب إذاً إن رأينا أم سعد تنتقل من مرحلة الانفعال إلى مرحلة الفعل: «إن لم يذهب سعد فمن سيذهب؟».
فالاستفهام هنا لا يسعى إلى مجرّد إخبارنا بذهاب سعد إلى الجهاد، إنما جاء ليشير إلى توازن الفعل والانفعال وتواكبهما. فالانفعال أدّى إلى الفعل/ المقاومة التي بدأت من الذات لتنتهي بالآخر، وبين الإيمان العميق بالوطن والإيمان السطحي، يظهر دائماً رجال مستعدّون لمواجهة الموت وبذل النفس من أجل القضايا. وسعد ظهر في الرواية أنّه من هؤلاء الرجال الذين لا يمتلكون قرار ولادتهم ولكنّهم يقرّرون توقيت موتهم.
والإنسان الذي يمتلك قرار موته بهذا القدر، ويمتلك ذاته بهذا المستوى، هو إنسان اليقظة والرؤية والمعرفة والخصب( ) الذي يعوّل عليه في بناء الأوطان. فقد أيقن أنّ الأخلاق الوطنيّة ليست محاكاة، إنّما قرار ذاتي، والأمثلة لا تفيد إلا في تشجيعنا، وذلك بأن تبيّن لنا أن تحقيق المثل الأعلى والواجب ليس أمراً مستحيلاً( ).
وتتحوّل الثورة عند أم سعد إلى هويّة، إذ صارت الأساس الذي يربطها بالوجود، وينظّم علاقاتها وأحاديثها مع الناس أينما كانت وكانوا. فلم تعد ثورة عادية إنما صارت أسلوب حياة بل صارت هي الحياة. فوجدت أم سعد نفسها أمام علاقات جديدة تدور حول هذا الفعل الثوريّ، وأعادت تصنيف الناس حسب هذه الرؤية إلى العالم: «قلت للمرأة التي جلست إلى جانبي في الباص، أنّ ولدي أضحى مقاتلاً… أتعتقد أنّهم سيعطونه رشاشاً»( ). فردّ فعل أم سعد ثقافة ذاتيّة اصطدمت بالواقع الأليم لتكشف قساوته. هذا ما حدا بها إلى العودة إلى الذات تستلهمها قوّة وصبراً وإقداماً.
ولا شكّ في أنّ حضور الباص هنا يشير إلى أنّ العمل المقاوم قد صار مناخاً يستقطب النّاس وأحاديثهم أينما وُجدوا. فالباص، الشارع، البيت، العمل… كلّها صارت أمكنة ثورة، وقد أخذت هويّات جديدة ودخلت ميدان المعركة بعد أن أعادت أم سعد إنتاجها بما يتلاءم مع همومها ورؤيتها. وهي غير غافلة عن قطبي المعركة اللذين يؤسّسان لنجاحها، فهي أمّنت القطب الأوّل أي الإنسان المؤمن بالقضيّة، وبقي على الآخر أن يؤمّن القطب الثاني / السلاح.
والاستفهام يعكس قلقها من أن يتقاعس المسؤولون عن تأمين أداة إنتاج النّصر وتحقيقه، كما يعكس لغة عقلانيّة هي لغة المقاومة الحقيقيّة وما يستتبعها من تنسيق عسكريّ وتسليح يضمن حدّاً أدنى من نجاحها.
فأم سعد ليست امرأة موهومة، إنّما تقوم بمحاولة واعية لتفرض واقعاً يعيد التوازن على الأرض، هو توازن الرعب، الذي يغيّر المعادلات، ومن أقدر من المقاومين وسلاحهم على فرض هذا الواقع؟!! وعلى أيّ حال، إنّ تعبير «قلت لها أنّ ولدي أضحى مقاتلاً» يعكس ويؤكّد أن الفلسطينيين قد استفاقوا من وهمهم العميق بعد الجرح المؤلم الذي مُنيوا به، فصارت الماوقف التي يتخذونها تترجم عمليّاً على الأرض «أنا لا أعرف الكتابة، ولكن أرسلتُ ابني إلى هناك… قلت بذلك ما تقوله أنت»( ). فجملة «أرسلتُ ابني» صارت مساوية لفعل «قلت» الذي أصبح شيفرة دالّة على موقف، أكثر من دلالته على الكلام، فلا أهمّية لهذا الفعل من دون الفعل «أرسلت» لأنّه يشكّل جوهر المقاومة الناجحة. وإذا كانت أم سعد أمّيّة «أنا لا أعرف الكتابة»، فإنّ الثقافة التي تتفيّأ تحت ظلالها أي مقاومة العدوّ أعادت إنتاجها رؤية، وثقافة، وحضوراً، وحكمةً، وقدّمتها مثقّفة تضاهي كبار المتعلّمين برؤيتها إلى العالم. فالبارودة عندها «مثل الحصبة تعدي، وعندنا بالفلح كانوا يقولون إن الحصبة إذا أصابت الولد فهذا يعني أنه بدأ العيش وأنه صار مضموناً»( ).
تتحوّل البارودة هنا إلى فعل ولادة، ومرهصة بالمستقبل الجميل، وما جملة «بدأ العيش» إلاّ إشارة واضحة إلى الحياة، وإلى المناخ التفاؤلي الذي يشيعه العمل المسلّح، فتشبيهها بالحصبة لم يأخذ منها بقدر ما أعطاها هويّة جديدة، إنها إكسير حياة الشعوب والمهيئة لموسم حصادها، بها يتحوّل الانكسار إلى انتصار، واليأس إلى أمل، إنها بوابة العبور إلى الحياة الأكيدة.
4- أم سعد / المرأة والأم:بم يختلف هذا العنوان عن الهويّة الانسانيّة؟
حين تغزو القلب عاطفة حبّ عميقة تنشأ في الوقت نفسه رغبة رخيّة في الموت… لعلّ السبب في ذلك أن الوجود يبدو حينئذٍ مقفراً وكأنه العدم إذا لم يعمره الحبّ العميق( ). وحبّ الوطن نوع من أنواع الحبّ الذي يغزو القلب، ويتملّكه، ويداخله الموت. وقد ذاع بين الناس أن العاطفة والفكر لا يلتئمان؛ لأنّ بينهما خصومة ولا سبيل إلى تنمية الواحد إلاّ على حساب الآخر( )، خصوصاً عند المرأة. ويسوقون للدلالة على هذا الرأي أقوالاً ترتدّ كلّها إلى اشتراط النزاهة والوضوح في الفكر، والعاطفة بمنأى عن كليهما. فهي ذاتية تصدر عن الذات الخاصة، وتلتبس أحوالها فلا تستطيع بالتالي أن تخلق ذلك الانفصال الضروريّ الذي يسمح وحده بإدراك الموضوع عارياً عن كل ما يخالط الذات من أحوال لا تنتسب إلى الموضوع( ).
وأم سعد امرأة مفعمة بحبّ الوطن، تعيد تشكيل العلاقة مع ابنها، لتجعل العاطفة متكأ للعبور إلى العقل، وبين هذين القطبين يربض الوطن، قابضاً على طرفي المعادلة، فتختلط الهويّات.
هذا ما أنتج علاقة جديدة تربط الأم بابنها. فإذا بها تدفعه إلى طريق مضرّج بالدم قد يوصل إلى الموت أو الحياة. إنها أم تتعالى لتصبح محرّكة الأجيال نحو المواجهة والتصدّي.
فحبّ الوطن ليس مجرّد أفكار، إنما أفعال تعبّر عن التعلّق به وتصل إلى مرحلة التضحية بالنفس من أجله. فصحيح أن أم سعد تحبّ ابنها، والمقاومة قد تحرمها منه، إلا أن حبّ الوطن يحوّل هذين الاسمين «سعد» و«الوطن» إلى مسمّى واحد، فيتساويان، ويمسيان ترادفاً. وهذه إشارة قويّة إلى إيمان هذه المرأة، وتصميمها على مواجهة الظلامية، والجريمة التي ارتكبت بحقّ الشعب الفلسطيني، «هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيّين، هي تخلّف وفلسطين تأخذ»( ). تعدّت وظيفة الأم هنا من ولادة الأطفال إلى ولادة الفدائيّين، فتحوّلت إلى ما يشبه الأسطورة، ففعل «تخلّف» يقابله فعل «تأخذ» يعني أننا أمام روحيّة التضحية والقوّة والعزيمة،إذ تحوّل الأفعال «تلد» و«تخلّف» المرأة إلى قوّة كونيّة عليا بها تحيا الأوطان، وبدونها لن ينتظم الوجود. فكما هي قادرة على أن تكون أمّاً وزوجاً تشيع روح الحبّ في الكون بأكمله، فإنها علامة انتصار وقوّة، تؤمن أن العالم لا يمكن خلقه بالخيال أو تغييره بالقول إنما بالنضال والرفض والغضب والثورة. لذلك راحت تخلّف الفدائيّين الذين يشكلون المقوّمات الأولى لكل هذه الأفكار.
فأم سعد حوّلت حبّ الوطن إلى عبادة، فصار مذبحاً تقدّم القرابين على أدراجه ليحيا، دافعة به إلى أقدس مرتبة في الوجود. فقد امتلكت حسّاً رسوليّاً جعلها تتعدّى مجرّد العيش، إلى حمل رسالة إنسانية ووطنية سامية.
ولكن هذه المرأة وإن غيبت العاطفة إلا أن حبّها ابنها لا يلبث أن يطلّ علينا في أحيان كثيرة في الرواية، ليرينا الأم بضعفها وقوّتها، وصراعها بين عقلها وقلبها، وليخبرنا أن أم سعد الأسطورية هي امرأة واقعية أيضاً، وذلك من خلال الجمل «أنا لستُ قلقة عليه. لا. هذا ليس صحيحاً. قلقة وغير قلقة»( )، «يا نور عينيّ أمّه! أودّ لو كان قريباً فأحمل له كلّ يوم طعامه من صنع يديّ»( )، «دير بالك على سعد، الله يخليلك أولادك»( ). هذه الأمّ المتصفة بالثبات، تضعف أمام علاقتها الروحيّة بابنها هذا ما يؤشّر إلى علاقة إنسانيّة، ويدلّ على خصوصيّة الحدث وعمقه الذي يجمع بين ثنائيّات ضدّية صعبة الاختيار فيما بينها «الموت/ الحياة» و«الابن/ الوطن». هذه الحقيقة النازفة تحتّم على الأم إعادة ترتيب العالم حسب رؤيتها الجديدة. «قلت لها إنني أحبّه وسأشتاق إليه، ولكنه جاء ابن أمه»( ).
نحن هنا أمام ثنائية العاطفة/ العقل. وكل طرف من طرفيها يحاول فرض معادلته، فيتجاذبان إلى أن ينتصر العقل، وكأنّ قدر الفلسطيني أن يكون أمام الخيارات الصعبة. ولقد كان لكل طرف معجمه الخاص، فالعاطفة (أحبه/ أشتاق إليه)، أما العقل (جاء ابن أمّه) وكأن المعجم الأول يدخل في علاقة ضدّية مع المعجم الثاني لكونه دليل ضعف بينما الآخر دليل قوّة. وهذا ما تؤكّده أداة الاستدراك «لكنّ» التي تحسم المعركة لصالح العمل المقاوم فكان من الممكن استبدال «لأن» بها، فتبدو الجدليّة السياسيّة أوضح.
فأن تحبّ فلسطين، يعني أن تجعلها عائلتك وقلبك وهواك. فيتحوّل هذا الحبّ إلى حبّ قابض على الخوف والضعف، فتتجاوز الحدود وتتعالى، وينتصر العقل على العاطفة، ويحدث التماهي معها «يا نور عيني أمّه» فلا تعود تعي بما تفديها أبالروح أو الأولاد أو المال أو بكلّ هذا معاً؟!!
هذا الحب الجامع للعقل والعاطفة يجسّد تطلّعات أمّة بأكملها، وقد صار عنوان مرحلة. فمن المكان/ المخيّم إلى المطلق المستقل عن أي زمان ومكان، ومن الخاص إلى العام. هذه الرؤيا العميقة بمفرداتها أنتجت العلامة الجديدة لبذرة الانتصار/ سعد «جاء ابن أمّه» مثل الدالية التي برعمت بعد طول انتظار «قطعته من دالية صادفتني في الطريق، سأزرعه لك على الباب، وفي أعوام قليلة تأكل عنباً»( ) «برعمت الدالية يا ابن العم برعمت»( ). فالثورة جزء من ثقافتنا العربية وهي مشحونة «بالخصوبة والإخصاب»( ). وعندما تسرّبت إلى ذات أم سعد، لم تعد مجرّد أم إنما ارتقت بها لتكون رمزاً ثقافياً وحضارياً وإنسانياً ووطنياً، يتوقف عليها مستقبل الأمّة العربيّة بأكملها.يمكن جمع ما كتب مع الهوية الانسانية
ب- رمزيّة شخصيّة أم سعد ودلالتها:
فكرة الواجب بعامّة تفترض واجب الإنسان تجاه ذاته كما تفترض واجبه تجاه الآخرين، وهذا ما يؤلّف جوهر الأخلاق. ومن أهم واجبات الإنسان تجاه نفسه معرفتها لأنّها منطلق للتطوّر الاجتماعيّ. وهي ثقافة لم تعرفها مجتمعاتنا العربيّة، ومشكليّة لا تزال تواجهنا بأسئلتها المعقّدة، فلا نقدّم أجوبة بقدر ما نهرب لنلقي اللوم على الآخرين، مدركين أن الأجوبة لها مستلزماتها، وأننا غير مستعدّين لها. وأم سعد سيّدة عرفت واجباتها، فصارت مسؤولة عن حياتها، فمن الأفق المسدود راحت تفتح آفاقاً سياسيّة واجتماعيّة… تعزّز الإحساس بأنّ بعض البشر ما زالوا يستطيعون تغيير أجزاء في هذا العالم. وبطبيعة الحال إن عدداً من التجارب الفاشلة، كهزيمة 67، لن تدفع هؤلاء إلى الانعزال والاستسلام والهروب. بل على العكس من ذلك تماماً، فهي ستشكل حافزاً أكبر نحو المواجهة والتحدّي.
وإذا كان المخيّم حيّزاً غير قابل للحياة، فإن السؤال الذي يطرح هو: لِمَ لا يحاول سكّانه تحويله إلى عالم يتحدّى الافتراءات السياسيّة والاجتماعيّة ويجابه كل محاولات إخضاعه، ليثبتوا للعالم بأسره أن الضمائر لا يمكن توطينها، فالحرّية تضحية ومسؤولية، هذا ما يريد الكاتب أن يقوله.
إذا كان الخوف من الحرية ملازماً لها، من حيث هي مقاومة ومجابهة للمخاطر وتضحية ومسؤولية( )، فإن أم سعد تجاوزت مرحلة الخوف، لتثبت أن الإنسان يستطيع أن يفرض ما يشاء. فالعقليّة المستسلمة لا تلبّي حوائج ولا تحقّق طموحات. والأوطان موضوع بناء واستحقاق وجهاد وصراع، لكنّ المتخاذلين يرون أنّها عبء كبير، فيهربون للتخلّص من مستلزماتها، وهذه العاملة الفقيرة المجاهدة ينيط بها غسان كنفاني قيادة المجتمع ولا عجب في ذلك ما دام العمّال في الماركسيّة «قد أنيطت بطبقتهم مهمّة قيادة المجتمع»( ). وقد أحضرها غسان كنفاني من الواقع وأطلقها على مسرح الأحداث، وتركها تعلّم الناس رجالاً ونساءً دروساً في المقاومة وحبّ الأوطان، فقد أثبت أن المرأة ليست آلة إنجاب، إنما هي القضية والوطن بأسره، وهي أساس التقدّم الثقافي والسياسي والحضاري والوطني، ودورها منوط به بناء العالم الإنساني الجديد وفق مبادئ الخير والعدل والحبّ والحريّة.
ولا عجب في أن تأخذ المرأة هذا الدور ما دامت النساء منذ العالم القديم قد أخذن دورهن في المجتمع من الفيثاغورية المبكرة “تيانو” و”مييا” و”كليوباترا” مروراً بالعالم الإسلامي مع أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية والسيدة زينب وغيرهما، إلى العالم الحديث مع كريستينا مازا وسوزان لانجر ولولا عبود، ليثبتن جدارتهنّ في الميادين كافة، بعيداً من الفكرة الأروسطيّة المتخلّفة التي تقول إن «جنس الذكر أصلح للرئاسة من جنس الأنثى». فعظمة الحرّية لا تنادي الرجال من دون النساء، بل «تنادي الناس جميعهم، وإن اختلفت استعداداتهم للاستجابة لندائها»( ).
وإذا كان جورج طرابيشي يقول إنّ المثقّف هو ملح السلطة، وإذا فسد الحلم، فبماذا يُملّح؟( ). فإن الرواية هنا قد أثبتت أنّ الجماهير المقاومة هي السلطة الحقيقيّة وأي سلطة تعلوها هي مجرّد وهم؛ لأنها تحوّل الأيديولوجيّات إلى حقيقة واقعة. ولا شكّ في أنّ التفاؤل ثقافة عالمية تدخل في صلب المقوّمات الحيويّة للمقاومات، وأنّ عمق الصراع العربي/ الإسرائيلي قائم على جدل نزعتين: الإحباط/ التفاؤل. وأم سعد قد أثبتت أن المجتمعات الفلسطينية ما زالت مهيّأة لظهور مقاومة متفائلة لديها القدرة على تغيير الخريطة السياسية للعالم. هذا كلّه يجعلنا نتساءل إن كانت أم سعد ناطقة بلسان غسان كنفاني أم بلسانها، وهي المرأة البسيطة التي تعلّم دروساً في الأيديولوجيّات. فهل هي مبعوثة الكاتب إلى العالم لتقول عنه أن المقاومة طاقة للحياة؟! وإنها واجب ملزم وليس خياراً ؟! فلنستمع إلى ما تقول: أتحسب أنّنا لا نعيش في الحبس؟… الحبوس أنواع يا ابن العمّ ! أنواع ! المخيّم حبس، وبيتك حبس، والجريدة حبس… أعمارنا حبس… تتكلّم أنت على المحبوس؟ طول عمرك محبوس… أنت توهم نفسك يا ابن العم بأن قضبان الحبس الذي تعيش فيه مزهريّات؟… أنت نفسك حبس… من منكم آدميّ، كلّكم وقعتم هذه الأوراق بطريقة أو بأخرى ومع ذلك فإنتم محبوسون، اسمع.. أنا أعرف أن سعد سيخرج من الحبس، الحبس كلّه أتفهم؟( ). «أعرف، ولكنني يا ابن العمّ لا أستطيع أن أثق برجل ترك سيارته في عرض الطريق، تسدّ الدرب، وهرب… في لحظة مثل تلك اللحظة… لا لا أستطيع أن أثق!»( ).
ربّما تكون أم سعد ناطقة بلسانها أو مجرّد ناطقة برؤية الكاتب، لكنّ الأكيد أنّ غسان كنفاني قد استحضرها لأدلجة الشارع الفلسطينيّ ولإحياء الامل فيه، فقدّم هذه المرأة التي مازجت بين الأميّة والإطار الفلسفيّ والمعرفيّ فإذا بها أنموذج ناجح يهيّئ الأرضيّة المثاليّة للثورة الناجحة.
المبحث الثاني: الشخصيّة الرئيسيّة (الهُويّة) في رواية «قناديل ملك الجليل»:
أ- مكوّنات الشخصيّة الرئيسيّة عند إبراهيم نصرالله:
ظاهر العمر الزيداني، البطل الرئيسي في رواية «قناديل ملك الجليل»، هو أحد حكام فلسطين في زمن الحكم العثماني (1695-1775م) عيّن حاكماً على عكا في العام 1705 وعمل على تقوية مركزه، فأعاد تحصين بلاده ضدّ أمراء الدروز. وفي العام 1742م تمكّن من احتلال طبريّة وأصبح حاكماً على صفد والجليل وتحوّل إلى مركز ثقل على الساحة السوريّة إذ سعى إلى الاستقلال عن السلطات العثمانيّة، والانتقال من مفهوم التبعيّة السياسيّة إلى مفهوم الدولة القويّة المستقلّة، فتحالف مع علي بك الكبير شيخ البلاد في مصر، وساعده على غزو بلاد الشام ثم تحالف مع الأمير يوسف الدرزي وتمكّن بمساعدة الأسطول الروسيّ من الاستيلاء على بيروت وطرد حاكمها أحمد باشا الجزّار.
حاولت الدولة العثمانيّة مرات عديدة القضاء عليه لكنها فشلت، ثم أرسلت أسطولاً لدحره، فاحتلّ الأسطول حيفا وعكّا، وحاول ظاهر الفرار لكن جنوده المرتزقة قتلوه في أواخر العام 1775م. وقد أدخله إبراهيم نصرالله في روايته، بعدما أعاد إحياءه في الرواية، ليستعيد من الذاكرة، قصة بطل أسطوريّ حاول أن يصنع تاريخنا الفلسطيني/العربي لكنه فشل. فما هي مكوّنات شخصيّته؟ وما المزايا التي تمتّع بها ليحتلّ هذه المرتبة العالية في ثنايا التاريخ العربي؟
1- الهويّة الإنسانية الخاصّة بظاهر العمر:
احترم ظاهر القانون الإنساني، وأعطاه الأولويّة، مرتقياً به إلى مرتبة الواجب، بعض النظر عمّا يترتب عليه من نتائج. فالحروب التي خاضها، والتحالفات التي أرساها، كانت تحمل أبعاداً إنسانيّة وتحاول إرساء مملكة الإنسان، إذ عدّه كائناً ذا كرامة، ولا تنفصل عمليّة تحرّره من الذلّ والإذلال عن عملية تحرير الأرض وبناء الدولة: «نحن لا نريد أكثر من أن نكون بشراً»( ). وإن دلّ كلام ظاهر هذا على تعسّف العثماني وحرمانه الآخر من حقوقه فإنه يدلّ أيضاً على موقف صارم تجاهه، قائم على استيلاد الإنسانيّة من رحم الظلم والاستيلاب. فالمعركة إذاً بين طرفين: الأول يسلب مقوّمات الحياة كلّها، والثاني طامع في استردادها، ولا يأتي المفعول به «أكثر» ليدلّ على الزيادة بقدر من يدلّ على النقصان في الحقوق الأساسيّة للإنسان والتي يجب عليه العمل على استعادتها لكي تتحقّق ماهيّته «هذه الحرب فرضت علينا ولم نخضها لكي نكون أبطالاً، بل خضناها لكي نكون بشراً»( ). وقد سعى ظاهر إلى تشييد عالم جديد، بإطلاق قوى الحرّية والكرامة والعقل، بعيداً من الإحباط والخوف والذلّ. فحوّل «أنسنة» البشر إلى موضوع للتفكير، ثم للتطبيق. إذ عمل على إعادة بناء حقل الإنسان، بما لا يتنافر مع مبدأ السلطة. فبحث عن الإنسان في بحثه عن الوطن، ووضع خطاً أحمر للتعامل مع الآخر حتى أعدائه.
فها هو يخاطب بشراً بعد أن هزموا جيش أحمد الحسين، وأسروا بعض جنوده «لا تهزم مهزوماً مرّة أخرى يا بشر، ففي الأولى يفهم أنك هزمته كجنديّ، أما في الثانية فإنك ستهزمه كإنسان، وبهذا لن يغفر لك».
فصيغة النهي «لا تهزم» المتبوعة بالمفعول به «مهزوماً» هي صيغة جازمة تدلّ بشكلٍ قاطع على أن الإنسان قيمة مطلقة، غير قابلة للتفاوض أو المساومة. وهذا ما يدلّ عليه تعبير «مرّة أخرى» الذي ارتبط ارتباطاً كبيراً بكرامة الفرد من ناحيتين: المنتصر والمهزوم، ذلك أن إذلال الآخر مرفوض، إذ يرفضه الإنسان بمقدار شعوره بكرامته واحترام كرامة الآخرين «فمبدأ الكرامة، المشترك بين الناس كلّهم هو ما نشتق منه طبيعة رفض الذلّ ووجوبيّة الامتناع عن الإذلال»( ) وهذا ما يعدّه الفيلسوف رورني من السمات الرئيسية للفرد الليبرالي( ). وفي هذا المجال يفرّق ظاهر بين ما هو حق للدولة وحقّ للمواطن «حق الدولة أن تأخذ الميري أما إذلال الناس وتمريغ كراماتهم في الوحل، فليس من حق الدولة؛ لأن الكرامة التي وهبنا إياها ربّنا ليست ملكاً للدولة»( ).
ولا نستغرب إن رأينا «ظاهر» يحترم الآخرين حتى أعدائه، ويدافع عن كرامة الإنسان ويضحّي بحياته من أجلها؛ لأنه يعدّ أن الموت في سبيل الأوطان ليس أشرف من الموت في سبيل الإنسان.
«طاف يتفقّد الجميع، وفجأة سألهم السؤال الذي لا يعرفون إجابته. أين عيشة؟ ولم ينتظر إجابتهم، استدار بفرسه نحو نجمة، رأته، فعرفت أنه اكتشف غيابها… كان الرمل يتطاير حول الحصان الذي يتقدّم مثل موجة عاتية. صوّب الدنكزلي، وأطلق النار، وذخّر بندقيته من جديد»( ). هنا يرسم الكاتب لوحة تتجلّى فيها إنسانيّة ظاهر في أبهى مظاهرها، إذ يدافع عن عيشة، بوصفها إنساناً، مع كونها جارية أُهديت إليه، وإن كان قد أحبّها.
وهذا يمثّل ظاهرة، لم تكن تعرفها تلك المجتمعات، وثقافة متقدّمة تتجاوزها إلى أفق إنساني كوني شامل، كما يمثّل وعياً نافذاً إلى أعماق البشريّة، واحتراماً للإنسان متماهياً مع المفاهيم الدينيّة إلى حدٍّ كبير مفاده أننا كلّما اقتربنا من الإنسان اقتربنا من الله. فمبدأ التلازم بين الإنسان وحقوقه، نقطة ينطلق منها ظاهر في معاملاته جميعها، وهي نقطة إيجابية، ساعدته على إشاعة مناخ ثقة، وقدّمته قائداً حقيقيّاً، أهلاً لأن يبايعه الناس، كونه حاملاً همّين: همَّ الإنسان، وهمَّ الوطن، فيعبر به من الإحباط إلى الانتصار، ومن الغياب إلى الحضور، فكانت إنسانيته خلاّقة بعيداً من الإنسانيّة التي يعدّها كانط «وفاقاً سلبيّاً وذلك عندما لا يحاول المرء أن يساعد قدر ما يستطيع في تحقيق غايات الآخرين»( ).
2- الهويّة الدينيّة:
امتلك ظاهر ثقافة دينيّة إسلاميّة، فابتعد في سلوكيّاته عن الجاهليّة، والعصبيّات القبليّة، وتحلّى بمكارم الأخلاق التي جعلها الإنسان سبحانه وتعالى سبباً للوصول إلى أعلى درجات الجنّة «وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها السموات والأرض، أعدّت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافّين عن الناس، والله يحبّ المحسنين»( ).
وقد وعى ظاهر مبادئ دينه، فجعلها فاعلية وليست مجرّد أفكار، فكان رجل الكلمة والموقف، الذي يتمرّد على ما هو خاطئ، لاستيلاد الإنسان بالمفهوم الذي دعا إليه القرآن الكريم، معتبراً الإسلام، مرجعاً أخلاقياً وفكرياً واجتماعياً، موجهاً إلى الناس كلهم، فتبنّى المساواة، إذ ساوى بين المواطنين جميعاً في الحقوق والواجبات بغضّ النظر عن دياناتهم. كما ركّز على مفهوم المواطنة الذي يشكّل أساس الدولة المدنية التي لا تتناقض مع الإسلام، إذ لا تناقض بين الإسلام والعلم والمدنيّة( ) كما رأى محمّد عبده. في حين رأى رفاعة الطهطاوي أن لا تعارض بين الأخوة الدينيّة والمواطنة، فيجب أدباً على من يجمعهم وطن واحد، التعاون على تحسينه وإعلاء شأنه( ). وانطلاقاً من هذا الفهم العقلانيّ للإسلام، كان عليه ان يخوض معارك عدّة ضد الجهل الديني، المسؤول الأوّل عن إفراغ الإسلام من أبعاده الروحيّة والإنسانيّة. فها هو يقول لأخيه سعد الذي لامه على تحالفه مع الشيعة «للإيمان الأعمى عيون شريرة»( ). فالإيمان الأعمى لا يدل على معرفة بالله بقدر ما يدلّ على الجهل به، لأن الإيمان هنا يتحوّل من فعل هداية وتنوير، إلى فعل ضلال وتهديم. واستعارة العيون لم تضف شيئاً له لأن إضافة النعت «الشريرة» أبدل هويتها السلبية بالإيجابية، فأصبحت عاملاً من عوامل التزمّت يؤسس لواقع مجتمعي مفتّت يخلق مشكلات تناقض رسالة الدين التاريخيّة. يقول الله تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين»( ). ومقابل هذا الإيمان الأعمى حضر الإيمان المتنوّر، الذي يكفل للآخر حرية المعتقد بوصفها من أهم حقوق الإنسان إذ تقوم الحريّة الحقيقية على قدرة الفرد على التعبير عن رأي والتبشير بأي مبدأ ونشر أي عقيدة حسب قاسم أمين. وهذا ما يحلينا إلى مفهوم المواطنة الحديثة، وإلى العلمانية بمفهومها السياسيّ الذي يدعو إلى فصل الدين عن الدولة والتعامل مع المواطنين دون أي تمييز دينيّ.
«يا سعد، أنا لا يعنيني ما تؤمن به، يعنيني ما الذي يمكن أن تفعله بهذا الإيمان؟ تبني أم تهدم، تظلم أم تعدل… والله يا سعد لو وقف بباب قلبي رجلان، رجل عادل من أي مذهب أو ملّة أو دين، ومسلم ظالم، لأسكنتُ الأول قلبي وطردتُ الثاني…»( ). ففعل «تؤمن» هنا شكّل مع فعل «تفعل» موقفاً من الدين لأن الفعل «تؤمن» يجب أن يقترن بالضرورة مع فعل «تفعل» وإلا فقد الأول أهميته وفرغ من محتواه، وحضور المسلم الظالم/ وغير المسلم العادل جاء ليؤكد أن الإنسان قيم بغضّ النظر عن دينه.
ولا تخلو الرواية من هذه الإشارات، إذ نراها تحضر في أماكن متعددة «تحرّك ظاهر فجراً قاصداً المنشي، حين حاذى في ذلك الفجر كنيسة البشارة، أوقف جواده، فتوقّف الجيش الناصريّ خلفه. بعد لحظات ترجّل، وبخطى ضاعف الصمت قوة وقعها، سار نحو الكنيسة. رفع يديه المعفّرتين بالتراب ومسح وجهه، وقال: هيْ يا ابنة عمران، جعلتُ اتكالي عليك بعد الله، فإن أنتِ نصرتني على أعدائي، فلا أنسى لك هذه المكرمة… توقف مرّة أخرى، وألقى نظرة على الكنيسة… هزّ رأسه بخشوع كما لو أنه يؤكّد وعده… على بوابة كنيسة البشارة، سجد ظاهر وصلّى، رفع يديه وشكر مريم العذراء… أصدر أمره: كلّ ما يلزم الكنيسة من قناطير الزيت يتم إحضاره لها في كل موسم، ويتمّ اقتطاع كرم زيتون في كفركنا وآخر من المجيدلي ليكونا وقفاً أبدياً لكنيسة البشارة»( ). فالزمان والمكان هنا اتّحدا ليؤكّدا الرؤية الدينية الخاصة بظاهر، وهي رؤية تقوم على الانفتاح ووحدة الإنسانية في الجنس والدين والطبيعة بغضّ النظر عن التفاصيل، وهي رؤية تخصّه وحده إلى حدّ بعيد.
هكذا كنا أمام قائد عظيم، عدّ الإسلام وسيلة وليس غاية. فكان رائداً في فكره، وأهلاً لأن يبايعه مواطنوه. ومع محاولات الخلافة العثمانية أن تقصيه عن الوجود، استبدل رفش البناء، بمعول الهدم، ففوّت عليهم الإيقاع به لحقبة طويلة. فكان أكثر منهم ذكاءً، وأرفع أخلاقاً، وأعمق تفكيراً، وأكثر دهاءً، فهزّهم إذ رفض أن يكون ضمن قطعانهم المتخلّفة عن ركب الحضارة الإنسانيّة الحقّة. وصدق من قال أنه ليس للعظمة مقياس خاص، فقد يكون العظيم عالماً، أو فاتحاً، أو مخترعاً، أو مربّياً روحيّاً، أو زعيماً سياسياً، ولكن أجدر العظماء بالخلود هم الذين يبنون الأمم، وينشئون الأجيال، ويغيّرون مجرى التاريخ( ).
3- الهوية السياسيّة والبعد المقاوم:
المقاومة فعل إنساني ملازم للحريّة والأخلاق يحمل بعداً انبعاثياً ويجسّد حركية المجتمع في عبوره نحو واقع مغاير لما هو قائم، يحقّق فيه وجوده الأصيل. فالحرّية الإنسانيّة تعدّ العمود الفقريّ للوجود الإنسانيّ، إذ ليس الإنسان إلا حرّية، وليس هناك من حرّية إلا في موقف( ) ولا يعدّ الموقف موقفاً من دون تمرّد، لكي تستحق النفس بجدارة قيمة الوجود البشري( ).
ولا عجب إذاً أن يتمرّد ظاهر؛ لأنه يرى أن وظيفة الإنسان تتعدّى العيش إلى البحث عن عالم بديل للمجتمع الراكد يحقّق فيه الناس ذواتهم وتُحترم حقوقهم. وقد حثّ الدين الإسلاميّ على ذلك «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان»( ). لذلك نراه يقول «يا بشر الأطفال وجدوا لتجميل العالم، أما الكبار فقد وجدوا لتغييره»( ). فتغيير العالم ثقافة رفض مع ما يصاحبها من مناخات، فالتغيير مختلف عن التجميل وقد يكون عكسه، إذ إن التجميل لا ينطلق من قوة أو فاعلية، تثمر واقعاً صحّياً مؤاتياً لحياة المجتمع، أما التغيير فهو الحركيّة التي تواجه الثبات والتخلّف مع ما يصاحبهما من موات نفسي وجسديّ، ولا يقوم بفعله إلا من امتلك حسّاً رسوليّاً واندفاعاً يجعله يتجاوز مجرّد العيش ليخلق واقعاً آخر للمجتمع ويتصدّى لقضاياه.
ولا شكّ في أن الحرية تكون من أولوياته؛ فالكائن الحيّ الواعي بذاته وبالعالم من حوله، محكوم بالحرّية كما يقول سارتر. فهي الفاعل القوي الذي يفرض واقعاً في الرواية ويرسي معادلة جديدة تتطلّب أمرين: الأول تنظيم جيش قوي، يقدّم “ظاهر” رقماً صعباً في الزمن العثماني القاسي، والثاني تنظيم المجتمع وتأمين أرضيّة مؤاتية للانتصار.
«اعرض عليك أن تختار من الرجال المغاربة الذين معك من تريد، وأن تكوّن فرقة تحت أمرتك ولك أن تختار فيما بعد ما شئتَ من رجال طبريّة وما حولها، لأنني أريد أن يكون لديّ جيش دائم، وستكون أنت قائده»( ).
وقد خاض ظاهر الحروب المتنوّعة، وأتقن فنّ الدبلوماسيّة التي يسمّيها بعضهم بالقوة الناعمة، وهي التي أفضت إلى قيام تحالفات مع عرب الصقر وعلي بيك الكبير، والأمير ناصيف… وما الهدايا التي كان يقدّمها إلا نوع آخر من الدبلوماسيّة الوقائيّة التي كانت يشتري بها الآخر ويكسب ودّه. فقد كان يمدّ بوساطتها جسوراً مع الآخرين «انتقى ظاهر واحداً من أفضل الخيول الأصيلة، يصل ثمنه إلى ألف قرش هدية لسليمان باشا»( ). أما الدبلوماسيّة الشعبيّة فقد كانت حاضرة أيضاً إذ ساعدته في تكوين رأي عام لما له من أهميّة يُحسب لها ألف حساب.
«تعلمون إخوتي وأخواتي، وأهلي، أننا حتى الآن، لم نخسر، ولم ينقصنا شيء، إن قوّتنا اليوم هي كما كانت عليه أمس… كل ما أرجوه أن أحافظ على بلدي وأحمي شعبي… راحت الصيحات تتوالى، وامتلأت قلوب الناس بالقوّة من جديد»( ).
إن البحث عن لغة مشتركة مع الناس ليس سهلاً، مع وجود اختلافات في الآراء والطموحات والرؤى، لكن “ظاهر” بذكائه وحنكته السياسيّة أوجد هذه اللغة التي أرست طبيعة حياتية جديدة لشعبه، وبنية وطنيّة ومدنيّة متطوّرة. فكان بطل السلم والحرب، فحروبه لم تكن عشوائيّة إنما ذات استراتيجيّة حربيّة، إذ استخدم التكتيكات العسكريّة من المناورة، وعنصر المفاجأة، إلى توظيف الجواسيس، والهجوم المخادع… ومعاهداته لم تكن اعتباطيّة، إنما أرست واقعاً جديداً.
«استدعى ظاهر الدنكزلي، وسأله عن عيون طبريّة في دمشق… واقترح أن يرسلوا عدداً آخر من الرجال، لأن دمشق مدينة كبيرة كما يعرف، وهي بحاجة إلى عيون كثيرة لمعرفة ما يدور فيها»( ). «وفي تلك اللحظة المباغتة القاتلة، وجد عسكر الجرّار أنفسهم داخل ذلك المكمن المعدّ بإحكام»( ).
«كانت هذه القذيفة التي سقطت وسط طلائع جيش سليمان باشا، ظهيرة ذلك السبت، الثامن من أيلول مفاجئة تماماً، إذ استطاعت، بقتلها أربعة عشر جندياً، أن تحدث ذلك الأثر القوي المطلوب، وأن تكون رسالة ظاهر الأكثر وضوحاً»( ).
هكذا كنا أمام قائد استطاع أن يبعد الولاة عن أرضه، وأن يؤسّس دولة قويّة، وأن يوحّد مواقف زعماء العشائر ويمنع تدخّل رجال الدولة العثمانيّة في شؤونه فكان الأب والقائد لشعبه.
«كان رسول ظاهر قد أخبر مقداد أن تقوم النساء بإرضاع أبنائهنّ جيداً، وأن لا يتركنهم ينامون أبداً في ذلك النهار! استغرب مقداد طلباً كهذا. إذ كيف يمكن للشيخ ظاهر أن يفكر في الأطفال ونومهم وجوعهم وهو المحاصر»( ).
«كانت تلك واحدة من أكبر الصدمات التي رجّت البلاد، بعد أن أدرك الجميع أن زمن الاعتداء على امرأة قد ولّى منذ اتساع حكم ظاهر»( ).
اتّسم ظاهر بصفات القائد الناجح التي مكّنته من كسب عقول الناس والتفاعل معهم بصورة حيّة جعلته قريباً من الصورة التي رسمها الفارابي في كتابه المدينة الفاضلة للقائد الناجح «هو منبع السلطة العليا والمثل الأعلى الذي تتحقّق في شخصيّته جميع معاني الكمال، وهو مصدر حياة المدنيّة ودعامة نظامها. ومنزلة القائد للأفراد كمنزلة القلب بالنسبة إلى سائر أنحاء الجسم، لذلك لا يصلح للقيادة إلاّ من زُوّد بصفات وراثيّة ومكتسبة يتمثّل فيها أقصى ما يمكن أن يصل إليه الكمال في الجسم والعقل والعلم والخلق والدين». فالقيادة الناجحة حسب المارشال (William Slim) مزيج من القوّة والقدرة على الإقناع والإكراه، بحيث تجعل أفرادك يعملون ما تريده منهم حتى لو كانوا غير متحمّسين للقيام بالعمل المطلوب فشخصيّة القائد يجب أن تتّسم بالشجاعة والقوة والإرادة والإبداع والمعرفة.
وقد كان ظاهر هذا كلّه، إذ قاد شعبه المتعطّش للخروج من أزماته المتعاقبة، وكانت طريقه صعبة وطويلة، ومتعدّدة المسالك والمشكلات، لكنها تؤدّي إلى هدف رئيسي واحد، هو الحرّية.
4- ظاهر الرجل وعلاقته بالمرأة:
يقدّم لنا نصرالله في هذه الرواية قصّة رجل بحجم وطن، يتبنّى مبدأ الكرامة الإنسانيّة دون تجزئة؛ لذلك يعدّ المرأة إنساناً له حقّه في التقدير والاحترام. فقد وضع المرأة في المرتبة التي تستحقّها، فلم يرفعها إلى أقداس الروحانيّة ولم يخفض من قدرها. فالأخلاق عند ظاهر ليست حادثاً عارضاً إنما هي ملازمة له ومتأصّلة فيه. لذلك نرى أن شخصيّته لا تزدوج إنما تبقى واحدة في السياسة، والحب، والحروب، والتحالفات. فقد ارتقى في التعامل مع المرأة من المستوى الغريزيّ إلى المستوى العقليّ والإنسانيّ، وهو ارتقاء فكريّ حضاريّ يدلّ على عمق مفاهيمي متجذّر فيه، ويؤسّس لمعادلة جديدة في العلاقة مع المرأة أكانت زوجا أم حبيبة أم ابنة أم… فها هي نجمة تحتلّ مكانة كبيرة عنده فيستشيرها في أمور كثيرة، ويأخذ بنصائحها معترفاً بحقوقها بوصفها امرأة ويقدّر ملكاتها العقليّة وقدراتها الذهنيّة. وهذا موقف يُسجّل له في حين أن كثيراً من رجال القرن الثامن عشر وفلاسفته (كانط مثلاً)( ) ظلّوا يخلعون عباءة العقل عندما يتعاملون مع المرأة، ويعدّونها خادمة قد خلقت لمتعتهم، وروسو مثلاً (1712-1778) أهم كاتب في عصر العقل يقول: لقد خلقت المرأة لمتعة الرجل والخضوع له، فتلك هي طبيعتها( ). في حين يقول نيتشه “النساء خادمات بالطبع( ). بينما ظاهر نراه يتجوّل مع نجمة في الليل «طاف ظاهر متفقّداً الأسوار في ذلك الليل الغامض كعدوّ. أصرّت نجمة على مرافقته. مثل ريشة كانت تسير إلى جانبه. ولو لم يكن يسمع صوتها لما عرف أبداً أنها هناك. قالت له، وقد اقترب الليل من منتصفه: عليك أن تنام يا شيخ.
– أنت تقولين لي هذا؟! هل تريدين السهر مكاني؟
– ولمَ لا يا شيخ! وهل تعتقد أن نجمة أقل من أن تحرس طبريّة في ليل كهذا؟
– بل قادرة على أن تحرسي العالم كلّه( ).
فالزمان هنا/ الليل، والمكان/ طبريّة قد أكّدا منزلة المرأة عند ظاهر، الذي يسند إليها دوراً مميّزاً يناقض ما كان سائداً في مجتمعه في ذلك العصر.
وإذا كان هيغل يقول: «إن كلاًّ منا هو ابن عصره وربيب زمانه»( ). فإنّ ظاهر قد بدا ابن عصره حين أهدى بعض الجواري إلى رجال كانوا في موقع المسؤولية، عملاً بتجارة الرقيق التي كانت شائعة في القرن السابع والثامن عشر، أو ربّما عملاً بفكرة تستند إلى فهم خاطئ للدين الإسلامي تقول إن الإسلام لم يمنع تملّك الإنسان إنسانا آخر، إنما نادى بمعاملة العبيد معاملة طيّبة( ).
وإذا كان «الناس عبيد ما ألفوا» فإنّ ظاهرا يتجاوز في كثير من الأحيان ما ألفه الناس، إذ يقحم المرأة في العمل السياسيّ ويسند إليها أدواراً رائدة «انتقى ظاهر واحداً من أفضل الخيول الأصيلة، يصل ثمنه إلى ألف قرش، هدية لسليمان باشا، وأوصى نجمة أن تجلس مع الوزير وتعرف مطالبه، ولم تكن هناك رسالة أوضح من قبوله للهدية… تأمّلها ظاهر فوق ظهر الحصان… ( ) وكأن في إقحام المرأة في عالم السياسة إصرار من ظاهر على التحرّر من قيود الموروث. وما يثبت ذلك أنه ناصرها حتى في أكثر المواقف حرجاً، إذ ظلّ الحسّ الإنساني مسيطراً يلجم ردّات فعله وذلك عندما اكتشف أنّ زوجه تحبّ ابن عم لها، فزوّجها إيّاه.
«- أحبّ ابن عم لي، لا خيانة لك ولكن لعشرة الصبا بيني وبينه…
– لا يا سلمى، أنتِ دخلتِ بيتي عزيزة، وستخرجين منه عزيزة، ليست ابنة ظاهر من تقبّل قدميّ أحد، حتى لو كان هذا الإنسان أبوها»( ).
أما على صعيد الحبّ، فقد رأينا هذا القائد القويّ، رجلاً عاشقاً، يبوح بما يعاني، ويعترف بسلطان الحبّ على قلبه، ويكشف جذوته الوهّاجة التي تجعله منهزماً أمام جبروته «اعترف لك يا أمي، لقد حاولت دائماً أن أكون عادلاً في كلّ شيء، لكن لا سلطان لي على قلبي»( ). وعلاقته بنفيسة خير شاهد على العلاقة العاطفيّة السامية، التي أوصلت الحبيبين إلى قمّة السعادة كما جعلتهما يتألّمان إلى حدّ الانسحاق النفسي عندما افترقا. فها هو يبكيها عندما فارقت الحياة «رفع رأسها، وأسنده إلى ركبته، سرّح شعرها بأصابعه… كل شيء انتهى. لم يعد هناك سوى شيء واحد: أن يواصل تمشيط شعرها إلى الأبد أن يبقى بجانبها إلى الأبد…
بكى. بكى كثيراً. كانت دموعه تغرقه، تجرفه، وتجرفها بعيداً…»( ).
هذا المشهد يقبض على شخصيّة ظاهر الحقيقية، فهو العاشق الرومنسي الذي يعدّ المرأة إكسير الحياة، إذ يضعف أمامها ضعفاً لا يمسّ برجولته، لأنه نابع من حبّ الإنسان للإنسان الآخر الذي يساويه مرتبة في الإنسانيّة. وإذا كان الفعل «بكى» يقدّمه متألّماً أمام أمر الأحزان تعقيداً أي الموت، فإن ظرف المكان «بجانبها» يشير إلى تلك العلاقة الأزلية الأبديّة بين الذكورة والأنوثة، والحاجة الفطريّة إلى النصف الآخر، وهذا ما يذكرنا بالآية الكريمة: «ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجاً».
هكذا نرى أن شخصيّة ظاهر كانت انعكاساً لما كان سائداً في عصره إلى حدٍ ما، لأنه ظلّ مختلفاً في الجوهر، فكانت له شخصيته الخاصة، ومواقفه المتميّزة، فرأيناه يجترح الإنسانية من العبودية، والحبّ من القسوة، والكرامة من الذلّ، وتعلّقه بـ«عيشة» الجارية يثبت أنه رجل يقدّر الإنسان لإنسانيته ويبتعد عن تشييء المرأة، ويستشرس في الدفاع عنها. فرأيناه يموت من أجل الدفاع عنها لأنه يعدّ أن الموت في سبيل الإنسان أرقى أنواع الموت.
وهذا ما يجعلنا نردّد مع مدام دي لمبير Mme. de Lambert: «لا إنسانية ولا نبل بدون شعور، فعاطفة واحدة أو خفقة من خفقات القلب جديرة أن تسمو بالروح أكثر مما تسمو بها كل حكم الفلاسفة»( ).
وإذا نظرنا إلى هذه العلاقة من منظور مختلف لا يعود الحكم في صالح ظاهر الرجل العجوز الذي أغرم بعيشة الفتاة التي استحضرها لقائد جيشه، وهذا ما يمثّل انحرافاً وتشييئاً للمرأة. إلاّ أنّ هذا الأمر يجد مبرّره التاريخي عند نصرالله الذي يخفّف لبطله هذه الجريمة فيجعل زوجه ترجوه لكي يتزوّج عيشة، هذا ما يخالف طبيعة المرأة نفسها. فلنستمع إلى الكاتب يدافع عن ما كتب «أظنّ أن الرواية قد تعاملت مع ظاهر كإنسان يخطئ ويصيب… وأظنّ أننا كلّنا، صغاراً وكباراً عرضة لأن نحبّ… أمّا عن التخفيف فلا أظنّ ان ذلك غريب عن مجتمعاتنا وأستعيد الآن حكايات كثيرة عن نساء أعرفهنّ زوّجن أزواجهنّ، نحن لا نستطيع أن نحكم على هذا بمقاييس اليوم وبوعينا الراهن، وهو متنوّع أيضاً، بل هناك مقاييس اجتماعيّة لكلّ عصر»( ).
ب- رمزيّة شخصيّة ظاهر ودلالتها:
في توليفة جمعت بين السرد التاريخيّ والأدبيّ، وامتدّت على نحو حوالي 600 صفحة، يقدّم نصرالله قصّة رجل جمع بين الأسطوريّ والإنسانيّ، فشغل مرحلة من مراحل فلسطين. وقد استعاره الكاتب من التاريخ بوصفه قنديلاً مشعّاً في عتمة ليلنا العربي، وقد جاء ليضيء حاضرنا الذي أصبح حالكاً، إذ مثّلت القناديل أخلاقه وقيمه، التي أنارت دربه وأوصلته إلى النجاح والفشل. وحضوره جاء ردّ فعلٍ على محاولات بعض مزوّري التاريخ، نزع جذور الفلسطيني من مجتمعه، وتعريته ليشعر بالاغتراب، وكان لا بدّ من الاستعانة بهذا الرمز الكبير، ليدعم الحاضر. ولا شكّ في أن وظيفة القناديل الكشف، فهي لا تعكس الواقع بقدر ما تكشفه، في استراتيجياته وأخلاقياته وسياساته.
وقد كشفت لنا واقع الحاكم العربي الذي ظهر بعيداً من صورة الحاكم السويّ/ظاهر، الذي قدّمه نصرالله مثالاً على التطوّر السياسي والأخلاقي للحاكم في التاريخ العربيّ الذي سعى إلى خلق مجتمع جديد، وحلّ مشكلات الهيمنة الغربية واستغلال الشعوب العربية الموغلة في القدم. وإذا كان نصرالله قد استعان بالتاريخ فلأنه يساعدنا على فهم الخلفيات التي تدار الصراعات السياسية والاجتماعية وفقاً لها. فهذا ابن خلدون يقول: «فنّ التاريخ فنّ غزير المذهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أصول الماضيين من الأمم والأنبياء في سيرهم، الملوك في دولهم، حتى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يروم أحوال الدين والدنيا»( ).
وكذلك ابن الأثير يقول: «لقد رأيتُ جماعةً ممّن يدّعي المعرفة والدراية، ويظنّ بنفسه التبحّر في العلم والرواية، يحتقر التواريخ ويزدرد بها، ويعرض عنها ويلغيها ظنّاً منه أنها غاية فائدتها إنما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار، وهذا حال من اقتصر على القشر دون اللبّ نظره، ومن رزقه الله طبعاً سليماً وهداه صراطاً مستقيماً علم أن فوائدها كثيرة ومنافعها الدنيويّة والأخرويّة جمّة عزيزة»( ).
لقد وعى نصرالله أهمية التاريخ في صراعه مع الإسرائيلي على الجغرافيا، فعاد إلى الذاكرة بوصفها آلية من آليات المواجهة، فلا حاضر دون ماضٍ، ولا انتصار دون عقيدة، ولا شعب منتصر دون قائد حقّ يسعى إلى المواءمة بينه وبين المحكوم، ويؤمن بمبدأ الديمقراطية والوحدة المجتمعية التي تخلق مناخاً سياسياً ناجحاً بعيداً من ألوهيّة الحاكم ومنطق العبيد.
ومن أقدر من هذا الروائيّ على البحث عن جذور أعمق؟
فرواياته تعيد النبض إلى التاريخ الفلسطيني، بحكاياه وصوره الحيّة، فتأتي كلماته ممهورة برسائل سياسيّة تفحّ منها روائح الصعتر وصهيل الخيول، فيربض على قمّة الزمان، خالطاً أوراقه، مخلّداً الأحداث التاريخيّة، مبقياً عليها حيّة في الذاكرة، مؤكّداً أن فلسطين عربيّة، ولا بدّ لها من أن تعود.
وإذا كان نصرالله يستند إلى التاريخ؛ فلأنه تقنية قادرة على توليد الحاضر، فإن قصة ظاهر العمر الزيداني جاءت بوصفها أيديولوجيا مصمّمة على كشف هذا الحاضر وفضحه، كيف لا وظاهر العمر يناقض الحكّام العرب الحاليين إلى حدٍّ كبير. إذ رفض نظام التوريث، ووضع مفهوم الدولة فوق كلّ اعتبار، متجاوزاً فكرة الدولة التوتاليتارية إلى الدولة التي ترعى حقوق المواطنين، معقلناً الحكم بعيداً من المهاترات السياسية والتصرّفات الديكتاتورية. بينما الحاكم العربي اليوم، يعيش خارج التاريخ لأن وعيه بالحرّية لم يتقدّم، وقد أثبت لشعبه أنه «حاكم ديكتاتوري قروسطي»( ).
وإذا كان التاريخ هو تقدّم الوعي بالحرّية حسب مقولة هيجل، فإن الحاكم العربي لم يتقدّم وعيه إذ إنه ما زال يحكم بأسلوب القرون الوسطى ومنطقها، فليس لديه التزام عقلاني بأي من المثل والقيم والمسؤوليات تجاه شعبه وتجاه الآخر الذي يحاول أن يستغلّه، هذا ما يجعل العالم العربي متخلفاً بصورة متزايدة، ويعزّز عدم التكافؤ بين الشرق والغرب.
وإذا كنّا مع ظاهر العمر الزيداني أمام مفهوم جديد للحاكم العربي، ورؤية حداثية للحكم تناقض ما هو قائم اليوم «هل تعتقد أن هذه البلاد قطعة أرض أو قصر أو قطيع أغنام أملكه لأورثك إيّاها أنت وإخوتك»( ). وإن حاول أن يحدث قطيعة مع ما هو سائد إلاّ أنه زلّ في مواضع مختلفة، منها علاقته بعيشة التي تعدّ سقوطاً وموقفاً يُؤخذ عليه وكأن الحاكم العربي يعاني من عقدة نقص تجاه المرأة التي تشكّل أزمته ونقطة ضعفه طوال حياته فتقوده إلى السقوط.
وتقول ليزا وادين: «إن ظاهرة تقديس الحاكم العربيّ استراتيجيّة للسيطرة القائمة على المطاوعة بدلاً من الشرعيّة. فهناك فارق بين المطاوعة compliance والطاعة obedience»( ).
فقد سيطر الحكام العرب على الشعوب الجائعة وتحكّموا بها، بعدما تمّ استعمارها وإذلالها مئات السنين، من قبل العثمانيين، وعشرات السنين من قبل الأوروبيين، ومن الحكام المحلّيين… مستغلّين الدين الشعبوي التواكلي التسليمي( ).
وإذا كان المؤلف ميّت ساعة ولادة النّص حسب رولان بارت، فإن إبراهيم نصرالله قد أوفد من يقول عنه ما يودّ قوله بإحيائه ظاهر العمر، لأنه يريد للإنسان العربي أن يعيد تأسيس نفسه وأن يداوي جرحه السياسيّ والحضاريّ الذي تأخّر في مداواته، فأراد أن «يحيي تراث ماضيه بدون أن يميت نفسه عن ثقافة العصر»( )، فإذا بنا أمام خطاب أيديولوجي «موجّه من صديق إلى صديق ضدّ عدو»( ) يخبرنا أننا ما زلنا نستطيع تغيير واقعنا رغم الضغوط، إذا اتبعنا سياسية عقلانية، واتكلنا على أنفسنا بدلاً من أن نستجدي مساعدات الآخرين أو نتكل عليهم ليقوموا بما يجب أن نقوم به.
والإنسان العربي مطالب باستعادة دوره الرائد وإدراك الخطر الموجود على الهويّة العربيّة. والحاكم العربيّ عليه تعرّف القيم الإنسانيّة الأصيلة التي ترشّد تصرفاته، وامتلاك رؤية حداثية للحكم بعيداً من الترّهات التي تقيّد عقله، ومواجهة المعضلات السياسية والثقافية والأخلاقية وفهم الماضي والحاضر، والسعي للسيطرة على المستقبل. لا مدعاة إذاً للضحك ولا للبكاء – كما يقول الفيلسوف الهولندي سبينوزا – ولكن علينا أن نفهم، فالوعي قبل السعي كما يقول الفقهاء وهذا ما أرادت الرواية أن تقوله.
الخاتمة:
ذاكرتنا بعض عافيتنا الثقافيّة تساعدنا على معرفة حاضرنا، فهي مؤشّر حسّاس ودقيق عليه( )، وتؤدّي دوراً مهمّاً في وعي التراث التاريخي بما له من دور فعّال في إنتاج استراتيجيّة مواجهة، خصوصاً بعدما دخلنا مع الإسرائلي مرحلة الصراع في المجالات كافّة، السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والجغرافيّة والزمانيّة… وليس المطلوب الاستعانة بها للتغنّي بماضينا فقط، إنّما استخلاص العبر منه، «والسعي للتطوّر على الأصعدة كلّها، ولا يفترض الوعي بشيء ونسيان الوعي بشيء آخر، إنما ينبغي أن يكون الوعي متكاملاً ومترابطاً… ولا يمكن الوعي بأهمية ميدان على حساب ميدان آخر، مثل الوعي السياسيّ على حساب الوعي الاجتماعيّ، وإنما يجب أن تتكوّن منظومة واحدة للوعي تدرك جميع ميادين ذلك المجتمع، لأنّ بناءه وترابطه رهن ترابط واتحاد هذه الميادين»( ).
والروائيّون الفلسطينيّون قد وعوا أهميّة هذا كلّه وتنبّهوا له، فرأنيا غسان كنفاني وإبراهيم نصرالله قد ابتعدا عن عرض الأحداث في مشاهد وصفيّة ساذجة في رواياتهم، وتحوّلوا إلى صنّاع رأي، يقوم منهجهما على الجرأة ونقض الواقع وعرض ما يخصّ مجتمعهما من قيم وهويّات وثقافات يحاول الإسرائيلي طمسها، وهم بذلك يمدّون يد العون للمقاومة السياسية والعسكرية، التي تواجه حملة تنميط الناس وتدجينهم ليخضعوا لثقافة الخوف والترهيب والإحباط. فالروائيّ الفلسطينيّ وجد نفسه أمام خيارين، إما القبول بهذا الوضع والهروب إلى الروايات التي تلتزم بمقولة «الفنّ للفنّ»، وإمّا اللجوء إلى الروايات المقاومة التي تسيطر عليها أيديولوجيا هادفة إلى إنهاض المجتمع العربي من سباته، ودفع الفلسطيني إلى مواجهة المخطّط الذي رسم له. فرأينا شخصيّات إبراهيم نصراله وغسان كنفاني تضجّ بالتحدّي وتمجّد المواجهة وتلتزم بنهجها، فكانت تعصف لتطرح بدائلها وتفرض المتغيّرات.
وإذا كان إبراهيم نصراله قد قدّم قصّة ظاهر العمر الزيداني، متكئاً على التاريخ، لتقديم أنموذجه المقاوم، فإن غسان كنفاني قد اختار شخصيّة أكثر بساطة وهي شخصيّة أم سعد لتضطلع بمسؤولية نقل المجتمع من وضع إلى آخر، وتتنبّه للحملة التي تستهدف إنسانيّة الإنسان الفلسطيني فتدمّره، وتسلخه عن ماضيه وحاضره، وتهدم معتقداته وقيمه وولاءاته، فتجعله خاضعاً للأقوى أي للمسيطر على الأرض.
فعمانويل سيفان مثلاً في كتابه «أساطير عربيّة» ينفي أن تكون القدس قد احتلّت في الوعي الإسلاميّ للعصر الوسيط مكانة مقدّسة، فبرأيه إنّ قداسة القدس عند محتلّيها الصليبيّين بالأمس هي التي أكسبتها قداسة مضادّة عند المسلمين، وقداستها اليوم عند محتلّيها الإسرائيليّين هي التي تكسبها مزيداً من القداسة عند العرب( ). فهذه القراءة التفكيكيّة لرمزيّة القدس هي حرب إمحاء يقودها اليهوديّ ضدّهم ويبنغي التصدّي لها.
ولا شكّ في أن المدّة الزمانيّة بين غسان كنفاني وإبراهيم نصرالله طويلة، لكنهما اتّحدا ليقدّما شخصيّات ذات آفاق واسعة تخرج عن الأطر المرسومة، لترتبط بقضيّة الإنسان الوطني، في كل زمان ومكان. فشخصياتهما غنيّة بمواقف الحرّية والكرامة والتحرّر، وطنياً وسياسياً وإنسانياً واجتماعياً… وتؤهّلهما لأن يكونا من الكتّاب الثوريّين الذين تشتعل كتاباتهم بنار الثورة وتضوع منها شعلة الحرّية والانفتاح والتسامح.
والمقاومة ليست في حدّ ذاتها شيئاً طارئاً على مجتمعاتنا إنّما هي امتداد لماضينا التاريخيّ والسياسيّ والاجتماعيّ. فهي حركة مستمرّة منذ القدم وصراع لن يتوقّف عن النموّ المتسارع والبطيء في وجه من يحاول سلبنا حقوقنا. وهي كما ذكرنا لم تعد حكراً على السياسة، إنّما باتت نسقاً مترابطاً من الاقتصاد والسياسة والدين والأدب. وهذا ما تحاول روايات غسّان كنفاني وإبراهيم نصرالله أن تثبته، إذ تطال هذا كلّه، لتهيّء الجوّ المناسب للمتغيّرات السياسية التي تحاول فرضها، فحملت نقداً ذاتياً ووطنياً واتّخذت من الظلم والاستبداد والأمكنة والأزمنة عوامل للتحريض على الوقوف في وجه الظالمين، كما استحضرت منائر يستضيء بها الناس، قادرة على دفعهم إلى حياض الردى وخوض المعارك لإنقاذ الأوطان من براثن المعتدين.
ويرى كيركجورد أنّ الفرد لا يدرك مغزى وجوده الخاص إلاّ في حالات الأزمة الانفعالية العنيفة، عندما يواجه خطر انعدامه، لا من حيث أنّ هذا الانعدام مجرّد إمكانيّة، بل من حيث هو حقيقة واقعة. وعندئذٍ يقرّر الفرد أن يعيش أو يموت، أن يكون أو لا يكون، فما يهمّ كيركجورد هو دلالة الحياة، التي تمثّل عنده «معنى الوجود»( ). ولما كان معنى الوجود عند الفلسطينيّ يتمثّل في استرجاع فلسطين، جاءت الروايات انعكاساً لهذا المعنى، وجاءت شخصيّاتها حاملة لهذا الهمّ، الذي مثّل مغزى وجودها، وإن تنوّعت مستوياتها وثقافاتها وانتماءاتها، فكانت معاصرة أو تاريخيّة، واقعيّة أو خياليّة، في موقع الحاكم أو المحكوم… لكنّها لم تخرج من إطار حمل رسالة وطنيّة اجتماعيّة إلاّ فيما ندر، ولا يمكن لأحد أن يمرّ بها دون أن ينحني إجلالاً لقضاياها. فانكسار الحلم لم يمنع من وجوده، ووجود الظلم لم يثنِ عن امتشاق القلم لضرب الخائنين والمنافقين بصفحات تضيء معالم الأمس واليوم، وترسم أطرهما وتعلن ثورة هدفها إرساء مملكة الحرّيّة والعدل التي ترفض الذلّ والخضوع والإهانة.