شعريّة المقاومة في قصيدة هدى ميقاتي
الدكتورة عطيّة علي أكبر أربابي- إيران
المقاومة كلمة قائمة على جملة من المعاني: رفضُ الواقع السيّء، التصدّي له، القدرةُ على الانتظارِ المفتوحِ على التفاؤل. وهذه المعاني ليست أمرا مجرّدا مستقّلا عن الواقع. هي جزء من العالم المرجعي،هي سلوك إنساني رائع بالدرجة الأولى، يضطرّ إليه كلُّ من عانى ظلما. من حاكمٍ كان هذا الظلم أم من عدوّ.ويقابل هذا السلوكَ الخنوعُ عند المظلوم،والبطشُ والقمعُ من الظالم. ولا نستطيع أن نضيف كلمة شعريّة إلى هذا السلوك المتجلّي بالمقاومة إلّا إذا وقع هذا العالمُ المرجعيّ ، السلوكُ الجهاديّ، في دائرة رؤية الشاعر . حين يتحوّل السلوكُ إلى قصيدة نستطيع بذلك، أن نقول :”شعريّة المقاومة”.ولا تلتئم الكلمتان :(شعريّة)و(مقاومة) على مأدبة الإضافة إلّا في قصيدة شاعر. وهدى ميقاتي التي أتناول بدراسة العمق المقاوم في مجموعتها الشعريّة الموسومة بعنوان “تركت عندك كاسي”،شاعرة لبنانيّة سمتاها الأساسيّتان : شعريّة رائقة رائعة ،واعتصام بحبل المقاومة ،وببَوْصلةٍ لا تُضِلّ صاحبها. أعني بها العداء لكلّ ظالم ، وعلى رأس الظالمين الكيان الاسرائيلي.
ومهما يكن من أمر، فإنّني سأتدرّج بمتابعة شعريّة المقاومة في قصيدتها تدرّجا زمنيّا، تبعا لقيام القصيدة في عمليّة التخلّق ،وانتقالا من مرحلة الحزن ، إلى مرحلة التفاؤل، مرورا بالانتصار الكبير.
1_ أحزان الشاعرة :في تسعينات القرن المنصرم سجّلت المقاومة الاسلاميّة في لبنان انتصارين واعدين : انتصار العام 1993 وانتصار العام 1996 ،ومع ذلك لم يستوعب المثقّف التحوّلات التي بشّر بها هذان الانتصاران . ولا أعني بذلك السيّدة الشاعرة هدى ميقاتي تحديدا . ذلك أنّ قساوة التجربة العربيّة التاريخيّة مع الهزيمة في مواجهة الاغتصاب الغربي الاسرائيلي لم تترك المثقّف يصدّق أنّ هناك إمكانيّةً للانتصار،مع وجود الانتصار . وأحزان الشاعرة التي سنتناولها ليست أحزانا ذاتيّة بقدر ما هي أحزان الإنسان العربي في تلك المرحلة .
ها هي تدقّ ناقوس الخطر العامَ 1998 قائلة :
فيا عيونَ البرايا النّوَّمِ انتبهي ملاعبُ الطيرِ ضاقتْ والغديرُ ظمي
قوافلُ الطيبِ ألقاها الردى جِيَفــــــاً على الترابِ تبيعُ الجوعَ للسَّــقَمِ
وصرخةُ العيشِ ضاعتْ في حناجرِها كحشرجاتِ نداءِ الريحِ في الرِّممِ
تقولُ طيرٌ على كفِّ الجنوبِ هوى تجمّدَ الرعبُ في أحداقهِ البُكُـــمِ (ص14)
لا تخرِج الشاعرة (عيونَ البرايا) من خلال حرف النداء (يا)من هويّتها الموضوعيّة بوصفها إحدى الحواسّ الخمس إلّا لتتوغّـل داخل رمزيّة العين ( الرؤية)، في إشارة إلى التيه الذي دخلته رؤية الناس إلى الواقع.هذا الواقع الذي قدّمته الشاعرة من خلال صورتين : الصورة الأولى (ملاعب الطير ضاقت)،والصورة الثانية ( الغدير ظمي). وإذا كنّت الشاعرة عن الفضاء الوسيع ب(ملاعب الطير) في إشارة إلى أنّه فضاء حرّيّة ،فإنّ الفعل (ضاقت) الذي جاء ليخبر عن المبتدأ (ملاعب) قد حمّل الصورة بعدا مأسويّا يومئ بغير إشارة إلى ظلم كبير يحيق بالواقع.ولا تقلّ الصورة الثانية دلالة على الظلم. فالإخبار عن الغدير بأنّه ظمي، لا يجرّد الغدير من بعده المائي فحسب،ولكنّه يعطيه هويّة الكائن الحيّ . وأن يكون هذا الغدير(الكائن الحيّ) ظمآن يعني أن الظلم لا يحتمل . ولا تخفى المبالغة القائمة على عطش ما يشكّل مادّة ريّ للكائنات الحيّة. تقدّم هذه المبالغةُ الواقعَ شديدَ المرارة بما يثير حزنا غير عاديّ في النفس.كيف لا، و(قوافل الطيب) قد فقدت هويّتها الإيجابيّة لصالح هويّة فنيّة شديدة التعبير عن مرارة الواقع(الجيفة) بكلّ ما تعنيه من فساد وتعفّن؟ أضف إلى ذلك أنّ الطير برمزيّته عنوانا للحريّة والرشاقة والجمال لم يغطّ على كفّ الجنوب بهويّته الجميلة ورمزيّته الايجابية،ولكنّه (هوى)،سقط سقوطا إجباريّا بفعل تعطّل هويته بوصفه طائرا،ونتيجة خلل في وظيفته التي وهبته إيّاها الطبيعة.والكناية المتمّمة لصورة وقوع ذلك الطير (تجمّد الرعب في أحداقه البُكُمِ)إنّما تنضح بحزن كبير لا ينال ذلك الطير بقدر ما ينال الشاعرة جرّاء خوفها على الجنوب.
ولا تنزع أحزان الشاعرة، على الواقع الرديء عامّة،منزع الاحباط. فقد تنسّمت في مجزرة قانا التي ارتكبها العدوّ الاسرائيلي ضدّ المدنيّين الذين لجأوا إلى خيمة الأمم المتّحدة ريحا طيّبا رغم ما أشاعته تلك المجزرة من بعد إحباطيّ في نفوس الكثيرين من المثقّفين.
يا دمعَ أطفالِ الجنوبْ
ويا شجيراتِ الأسى المصلوبِ في كفِّ الحصارْ
لغدٍ سنمضي نحفرُ في صخرِ القرارْ
وعدا بلأنّا صامدونْ
وبأنّ مَن روّى الترابَ نجيعُهمْ
يتسلّلون من الترابِ ويثأرونْ (ص 51).
وإذا ما أعطى التركيب (صخر القرار) كلمة ( القرار) هويّة الصخر في إشارة إلى صعوبة التعامل معها، فإنّ تعدية الفعل (نحفر) إلى المفعول به (الاصرار) أعطته هويّة الثبات. وتلفّ هاتين الاستعارتين كنايةٌ توحي بمقدار الصمود الذي قرأته الشاعرة في (دمع أطفال الجنوب) ،وفي (شجيرات الأسى المصلوب في كفّ الحصار). هذا الصمود الذي يتحوّل إلى تفاؤل قويّ في قولها: (وبأنّ مَنْ روّى الترابَ نجيعُهم / يتسلّلون من الترابِ ويثأرونْ). فالصورة شديدة الدلالة على التحوّلات العميقة التي تجري داخلَ الفجيعة،إنتقل الوجع من وجع بسبب الهزيمة إلى مخاض للانتصار. ولعلّ الشاعرة قد تنبّأت من خلال ذلك بما سيجري العام 2000. فماذا يعني التحرير في قصيدة هدى ميقاتي التي ألقتها في كفركلا ربيعَ العام 2000؟
مَن قال إنّ السنا يا ليلُ جافانا؟ ولم تعدْ تعشقُ الأنوارَ دنيانـــــا؟
فكلُّ أمنيةٍ في القلبِ نزرعُها تحيلُ صدرَ الأسى ورداً وريحانا
وكان سجناً ترابُ الأرضِ…فانعتقتْ يدٌ وعانقتِ الأفراحُ أحزانـــــــا
وكان في السفحِ طيرٌ قيلَ من لهبٍ يزقُّ بين ثنايا الصخرِ عقبانـــا(ص62)
بدأت القصيدة باستفهام إنكاريّ (مَن قال؟). فما الذي أُنكِر؟ الذي أُنكِر الاحباط الذي داخَل نفوسَ بعض المثقّفين ،فقدّروا(أنّ السنا جافانا وأنّ الأنوارَ لم تعدْ تعشقُ دنيانا).
وإذا كان الاحباط تعبيرا عمّا اعتاد المثقّف على وجوده، على الليل، على الهزيمة في مواجهة العدوّ الاسرائيلي،فإنّ ما جرى العام 2000 قد جاء ليدحض الاحباط ويزيل الشكوك في إمكانيّة قيام الأمّة ونهوضها. كيف لا ، والرمزيّة التي يمثّلها طير اللهب من جهةٍ، وعقبان الصخور من جهةٍ ثانية، هي إشارة نهوض غير مسبوق. قلَبَ المعادلةَ السابقة رأسا على عقِب. ويأتي السؤال البدهيّ هنا : ما هي حدود المعادلة الجديدة؟ هل ستكون حبيسة الساحة اللبنانية ،أم أنّها ستتجاوزها إلى القضيّة الكبرى؟
لبّيكَ يا معبرَ المعراجِ كلُّ دَمٍ جرى بأرضِكَ صار اليومَ بستانا
حطّ البراقُ على أقصاكَ واختزلتْ رسالةُ الحبِّ في مسراه عنوانـا
صوتُ الجهادِ بنا ما زال مرتَجِلا هوىً وشعراً وأرواحاً وأبدانـــا(ص64)
يستوقفنا في هذه الأبيات حقل معجميّ هو ( المعراج، البراق،أقصاك، مسراه). يصلنا هذاالحقل بقصّة الإسراء والمعراج النبويّين المحمّديّين ، ويضعنا وجها لوجه أمام سورة الإسراء . هذه السورة التي أنبأتنا بمجيء اليهود مرّة ثانية إلى فلسطين، وأخبرتنا من جهة ثانية بأنّ المؤمنين،وبعد مجيء اليهود، سيدخلون المسجد الأقصى كما دخلوه أوّل مرّة منتصرين مظفّرين. وتصبّ هذه الأبيات في سياق الأبيات السابقة لتمارس إعادة قراءة لطير اللهب وعقبانه الذين يزقّهم ثورة.
فالمقاومة الاسلاميّة هي ذلك الطير الذي يزقّ العقبان رجالَ الجهاد شررا حسينيّا يرتجل هوى وشعرا وأرواحا وأبدانا.فالاتصال بين انتصار العام 2000 والملحمة الكبرى في فلسطين قد قام ولن يتوقّف.
حدث الانتصار المؤزّر، وخرج الجندي الاسرائيلي من الجنوب يجرّر أذيال الخيبة.
فما الذي سيتركه ذلك في وجدان المثقّف؟ هل سيتحوّل إلى متفائل؟ خاطبت الشاعرة الإمام الحسين(ع) من على منبر السيّدة زينب(ع) العام 2002 في دمشق قائلة:
ما زلتَ تمسكُ قبضةَ الاسلامِ يصهلُ في بوادينا حصانُكْ
في كفِّكَ المفتاحُ……والناجونَ خلفَ البابِ يخفيهمْ أوانُكْ
فليَسْكروا ولتكْثُرِ الأعراسُ ولتسكُبْ على الأقصى دنانُكْ
هذا يزيدُ عاد ….. فلْنستدرِكِ الأزمانَ…..ولْيبدأْ زمانُكْ (ص22)
إنّ إضافة البوادي إلى ضمير المتكلّم الجمع(بوادينا) تمثّل إشارة إلى استمرار البداوة صفةً نتّصف بها. وبقدر ما تشير البداوة إلى البدائيّة،فإنّها تشير إلى النقاء أيضا. ويؤكّد هذا النقاءَ اسنادُ الفعل (يصهل) إلى حصان الإمام الحسين(ع).ورمزيّة الحصان الصاهل إشارة نهوض ومواجهة،خصوصا أنّ الإسلام ،بوصفه ثورةً، ما زالت قبضته بيد الحسين(ع) بما يمثّله من حركة تصويبيّة للمسار . ولا تعدم البوادي من وجود منتمين إلى المدرسة الحسينيّة مستعدّين لمثل الشهادة الحسينيّة . خاطبته الشاعرة قائلة:
في كفِّك المفتاحُ…والناجون خلفَ البابِ يخفيهم أوانُكْ
والبيت استعارة توحي هويّتا الثنائيّة (المفتاح/ الباب) الواقعتان تحت سلطة الإمام الشهيد (في كفّك المفتاح) أنّ الثورة واقعة داخل دائرة القيم الحسينيّة.وهذه الإستعارة محاطة بكناية شديدة الدلالة (والناجون خلف الباب يخفيهم أوانك). ودلالتها مفعمة بالتعبير عن ملحمة كبرى لم يأتِ أوانها. أوانها أوان الحسين (ع) الذي يومئ بغير إشارة إلى عصر الظهور ، وما به من أمنيات في العدالة الكبرى التي تحيط البشريّة جمعاء. ومهما يكن من أمر،،فإنّ سؤالا بدهيّا يطرح نفسه هنا : إذا كان الجنوب قد تحرّر العام 2000،فإلامَ يتعدّى انتظار أوان الحسين(ع)؟ إلى فلسطين ؟ نعم :
فليسكروا ولتكثر الأعراس ولتسكب على الأقصى دنانك
ما يلفت في هذا البيت مفردتان هما: (الأعراس) و( الدنان) تحيطان مفردةً ثالثةً بالفرح والنشوة . نعني بها كلمة (الأقصى). والمفردتان الأولى والثانية لا تشيران إلى المعجزة التي اجترحها المسيح(ع) في قانا ، وما تعنيه من إنتاج للفرح فحسب،ولكنّهما تشيران إلى الخمرة الصوفيّة وما ترمز إليه من نشوةٍ تعتري من أدركتهم الحال من سالكي طريق الله.فالملحمة الفلسطينيّة المتمحورة حول المسجد الأقصى بشكلٍ أساسيّ هي حضور للملحمة الحسينيّة القابضة على جمر الإسلام.
هذا يزيدٌ عاد فلنستدرك الأزمان وليبدأْ زمانُكْ
ما الرمزيّة التي يحملها حضور يزيد؟ تمثّل عودته عودة يزيد العربيّ الإسرائيلي بعد أن خفّت همّةُ الصحراء وعاد العرب أعراباً .ولن نتذكّر أنّ إسرائيل هي العدوّ إلّا بابتداء زمن الحسين(ع). اليومَ الجنوب وغدا فلسطين.
ولا تقلّ زغرودة زينب التي أطلقتها الشاعرة في مقام السيّدة(ع)،في دمشق، العام 2003 عن تلك الصيحة التي أطلقتها العام الفائت حين خاطبت الإمام(ع).
فحين تنتبذُ الأحلامُ خطوتَنـــــا وتُنْطِقُ القصصُ الخرساءُ راويها
ويُبدِعُ الليلُ أشواقا لمن رحلوا وتبدعُ الشمسُ أنوارا ونمشـــــيها
ستشرقين على فجرٍ نكــــابدُه وتبدئين صلاةً.. كِدْتُ أُنهيهـــا (ص48)
حين انتبذت السيّدة مريم (ع) مكانا شرقيّا ،كان انتباذها إيذانا بمخاض كبير. لم تعشه السيّدة مريم وحدها،كان مخاضا لولادة بحجم العالم كلّه . ولا يمكننا أن نقرأ انتباذ الأحلامِ خطوةَ جماعة الشاعرة بمعزلٍ عن مخاضٍ ما . ولا نستطيع أن نواجه إنطاق القصص الخرساء راويَها بمعزلٍ عن نطق المسيح(ع) في مهده. فالبيت مفعم بالولادة الجديدة والرساليّة. وما كان له كلُّ ذلك لولا الحضور الزينبيّ برمزيّته ودلالاته في وجداننا .
ستشرقين على فجرٍ نكابده وتبدئين صلاةً كِدت أُنهيها
وهل هناك تفاؤل أعمق من هذا التفاؤل ؟ ألا يمثّل الفجر الذي نكابده إشارة إلى أنّ زمن الهزائم قد ولّى؟ وإشراقة زينب ألا تعني أنّ أوان الحسين(ع) قد آن؟
كلمة أخيرة: ويبقى أنّ شعريّة المقاومة في قصيدة هدى ميقاتي ذات عمق ثقافيّ مؤسّس على موقف واضح من قضايا الأمّة وثوابتها. مؤشِّر بوصلته لا يتزحزح عن القضيّة المركزيّة. أوجاع قانا مبشّرة بالانتصار الكبير العام 2000. وهذا الانتصار إرهاص ،في قصيدة هدى، بالملحمة الكبرى التي ينتظرها الأقصى . وثقافة القصيدة الميقاتيّة ثقافة متفائلة واثقة بأنّ المقاومة التي هزمت إسرائيل العام 2006 ستهزمها في الأقصى وفي شوارع القدس وحيفا ويافا. كيف لا ، وقد نطقت جماليّات تلك القصيدة بكلّ ذلك من خلال ما قدّمته من العالم المرجعي . نعني به المواجهة المفتوحة مع العدوّ الاسرائيلي.
شاهد أيضاً
ندوة “عاشوراء نبضة الألم ونهضة الأمل” في معهد المعارف الحكمية
شارك الملتقى الثقافي الجامعي في ندوة أقامها عصر يوم الإثنين في 11 أيلول 2023 معهد …