الملتقى الثقافي الجامعي
قراءةٌ جديدةٌ للتّاريخ وللحاضر
مقاربة موضوعاتيّة لرواية “أرض وسماء” لسحر خليفة
د. لؤي زيتوني
تعدّ مسألة الهوية والالتزام بالصّراع في مواجهة المحتلّ، من أبرز المحاور التي يتّسم بها الأدب الفلسطينيّ، إلاّ أنّ عمليّة طرح هذه الجوانب تختلف بين مبدعٍ وآخر، ولعلّ القدرة التي تمكّنه من شبك هذه المسائل برؤية فريدةٍ إلى الحياة والكون والفنّ هي التي تبرز الفرادة التي يتمتّع بها العمل الأدبيّ مهما كان جنسه. لكنّ العمل الرّوائيّ يمتلك خصوصيّةً واضحةً في هذا الإطار، نظراً لكونه يعتمد آليّات تقرّب القارئ من الرّؤية التي ينطلق منها الكاتب، كما أنّه الأقدر على الوصول إلى مخيّلة المتلقّي بأسرع الطّرق. ولذلك فإنّ التّعامل مع هذا النّوع من الأعمال لا بدّ أن يتّسم بالدّقة ليكون على قدر أهمّيّة العمل المدروس، وهذا يستحضر الدّقّة تتبّع العمل والقضيّة التي يطرحها. واستناداً إلى ذلك وقع اختياري على صوتٍ فلسطينيٍّ رياديٍّ استطاع أن يفرض نفسه في الحياة الأدبيّة على مستوى العالم العربيّ، إن لم نقل أبعد، لا سيّما بوصفه صوتاً أنثويّاً يخرج من عباءة الرّؤية الباباويّة، ويدخل في عمليّة نقدٍ للتّاريخ والحاضر معاً، وهو صوت الكاتبة سحر خليفة في روايتها الصادرة في العام الفائت تحت عنوان “أرض وسماء”.
والرّواية جزء من ثلاثيّةٍ روائيّةٍ تتناول مفاصل رئيسة من حياة الأمّة، وتعمل على أبراز ثلاثٍ من محاولات التّحرّر والثّورة ضدّ الاحتلال والفساد. وقد كان نصيب هذا الجزء الكلام عن تجربة أنطون سعادة في سعيه لتوحيد الأمّة وتخليصها من عوامل التّخلّف والأفكار الرّجعيّة السّائدة فيه عبر مشروعٍ تحرّريٍّ رؤيويٍّ كامل، وارتباط المسألة الفلسطينيّة بهذا المشروع. وإلقاء الضّوء على هذه التّجربة جاء بالتّوازي مع حضور مسار الحاضر الذي يكمن فيه تطوّر الصّراع ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ، وبروز جيلٍ جديدٍ يؤمن بخطٍّ صراعيٍّ جديد مبنيٍّ على الكثير من مبادئ سعادة نفسها، إضافةً إلى كونه يفيد من الأخطاء التي وقعت في الماضي من أجل السّعي نحو بناء غدٍ مختلف لوطنٍ ما زال القيّمون عليه يعبثون بمصيره. مع الإشارة إلى أنّ الثلاثيّة كانت قد انطلقت مع روايتي “أصل وفصل” و”حبّي الأوّل” اللّتين طرحتا الظّروف التي أحاطت بمشروعين تحرّريين آخرين تمثّلا بحركة عز الدّين القسّام وثورة عبد القادر الجزائريّ، وخليفة تعمل على البحث في الأسباب العمليّة التي أدّت إلى ضعف الحظوظ في نجاح كلّ تجربةٍ منها، وإلى إبراز العوامل الذّاتية والموضوعيّة في فشلها، ملقيةً الضّوء على الكثير من الجوانب المجهولة عن تلك الشّخصيّة التّاريّخيّة أو تلك.
I- سيمائيّة العنوان / شعريّة المخزون الدّلاليّ:
قد لا يعطينا عنوان رواية “أرض وسماء” إيحاءً واضحاً حول المضمون الذي تدور حوله، فهما لفظتان تبدوان ضبابيّتين من حيث ما تقدّمه من معنى، خصوصاً مع استعمالهما في حال التّنكير. لكنّ هذه “الضّبابيّة” قد يُنظَر إليها بوصفها ميزةً تضفي على الرّواية وجهاً من وجوه تميّزها الفنّيّ، وذلك انطلاقاً من اتّساع حيّز التّساؤلات الذي تبعثه في ذات المتلقّي. فأيّ أرضٍ تلك؟ وأيّ سماء؟ ففي المعنى المباشر لهاتين اللّفظتين، تبدو الأولى معبّرة عمّا هو في متناول الحواس، من ناحية، وعمّا تقوم عليه الحياة من ناحيةٍ أخرى. أمّا الثّانية فتعبّر عمّا يمثّل العلوّ والارتقاء، وعمّا يرتبط لدى الإنسان بالجانب المتخيّل والاعتقادي.
بناءً على ذلك، يجوز السّؤال: ما مدى ارتباطهما أو تناقضهما؟ بالاستناد إلى دلالتيهما اللّتين تفيدان مناقضة الواحدة للأخرى، يمكننا أن نلاحظ أنّ الأرض تشير في المعتقدات الدّينيّة السّائدة إلى الموضع المرتبط بالحياة الدّنيا، في حين أنّ الأخرى تدلّ على الموضع الذي يوحي بالحياة الأخرى. كما أنّ اللّفظتين تبرزان الرّبط البديهيّ بين المدلولين في طبيعة حياة الانسان، وهو الأمر الذي تطوّر مع تعاقب الحضارات القديمة التي جعلت من الأرض والسّماء عبارةً عن زوجين إلهٰيّين تتولّد الحياة من خلال تزاوجهما، أي أنّ عمليّة التّزاوج المتمثّلة بهبوط المطر هي التي تمنح الحياة.
إضافةً إلى ذلك، تُظهر مسألة التّرتيب الذي ترد فيه عناصر العنوان إشارةً دلاليّةً واضحة، فلفظة الأرض سبقت لفظة السّماء، وقد يكون في ذلك إبراز لأهمّية الأولى على الثانية، وهذا ما يعيدنا إلى مفاهيم الحضارة الكنعانيّة التي أعطت عمليّة الارتباط بالأرض الأولويّة في حياة الإنسان، وهو الأمر الذي كان محطّ انتقاد الشّعوب الأخرى، إذ وصف الإغريق هذا الفعل بـــــــــ”الإثم الكنعانيّ”، لأن فيه ابتعاداً عن اتّباع الآلهة ومعصية لهم.
أمّا عن سبب حضور اللّفظتين بصيغة التّنكير، فقد يكون من باب الإشارة إلى مكانٍ معيّن ما تزال حقيقته مجهولة، أو تمّ إهماله بحيث بات بعيداً عن الوعي بحقيقته، ولا بدّ من حضور العقل الواعي من أجل الوصول إلى حقيقة هذه الأرض وتلك السّماء. وعلى هذا الأساس يبرز عنصر التّشويق بقوّةٍ في العنوان ليشكّل إطاراً تحريضيّاً للقارئ من أجل التّعرّف على حقيقة تلك الأرض وتلك السّماء، والكشف عن طبيعتهما المتكاملة أو المتناقضة.
II- حيويّة التّداخل الزّمنيّ-المكانيّ:
انطلاقاً من عنوان الرّواية، نلاحظ أنّ المكان يؤدّي دوراً محوريّاً في المضمون العام، فهو يعطينا إشارةً إلى حيّزٍ مكانيٍّ ذي طبيعةٍ مجهولة (أرض وسماء)، الأمر الذي ينمّ عن كون الرّواية تلقي ضوءاً على هذا الحيّز لتقدّم لنا نظرةً خاصّةً نحوه. إلاّ أنّ الخوض في الرّواية يبيّن لنا تنوّع مسارح الأحداث، ما قد يبدو نفياً لحصريّة الحيّز المكانيّ.
1- المكان المفتاحيّ:
نجد بداءةً مدينة نابلس الفلسطينيّة التي شكّلت المكان الأوّل الذي تنطلق منه الأحداث، والذي تمتّع بأهمّيّةٍ محوريّةٍ، نظراً إلى أنّها عملت على ربط الرّواية التي بين أيدينا بالرّوايتين السّابقتين: “أصل وفصل” و”حبّي الأوّل”، لتستكمل الثّلاثيّة التّاريخيّة في أدب الكاتبة. على أنّه لم يكن مكاناً هامشيّاً، بل دخل بوصفه عاملاً في تطوير خيطٍ روائيٍّ متعلّق بالرّاوية الأولى “نضال” ومن يحيط بها من شخصيات، وبأجواء الاحتلال التي تعاني منها هي وأقرانها. ففي منزلها بنابلس كانت نضال قد استقبلت حبّها الأوّل “ربيع” بعد زمن طويل من الفراق، وبعد أن ذهب إلى كندا وبنى حياته وثروته هناك، وبعد أن تقدّما في السّنّ، بحيث وجد ربيع في استعادة حبيبته القديمة والذّكريات التي كانت عاشها معها ومع خالها ملجأ للتّنفيس غير المباشر عن ما ارتكبه من أخطاء. لكنّ هذا المكان لم يشكّل حاضناً حياديّاً بل عمل على تسيير الأحداث التي تدور في حاضر السّرد، إذ أنّ الملاحظة الأولى تتجلّى في حالَي الحصار والخوف اللتين أجبرتا ربيع على تمديد إقامته لديها ، وهذا ما أتاح للرواية بإطلاق الخيط الرّوائيّ العام الذي يشكّل المحرّض للأحداث والرّابط لها في آنٍ واحد، والذي تمثّل في إمكانيّة حضور الأمل بعد كلّ ما رأته وعانته بوصفه امرأة فلسطينيّة بالدّرجة الأولى: “قلت لنفسي هل ظلّ لنا أمل في شيء؟ هل ظلّ لنا أمل في غد؟…” وهذا ما شكّل إشارةً مفتاحيّةً في الرّواية وتمهيداً لما ستوصلنا إليه الأحداث في النّهاية.
إضافةً إلى ذلك، فتح هذا المكان الباب للعبور إلى أمكنةٍ أخرى تتعلّق بذكريات “ربيع” و”أمين”. في هذا السّياق، نلاحظ أنّ هذا المكان كوّن الزّمن الحاضر الذي تنطلق منه الأحداث وتنتهي به. فهو الزّمن المرتبط بما تعانيه الأراضي المحتلّة، في الوقت الذي تدور فيه أحداث العالم العربي تحت عنوان ما يسمّى بـــــــــ”الربيع العربي” الذي تصرّح الرّاوية أنّ الشّعب الفلسطينيّ لم ينله شيء منه . وبالتّالي فإنّ المسرح الأوّل المتمثّل في بمنزل “نضال” في نابلس في زمن “الرّبيع العربيّ” والحصار الإسرائيليّ شكّل الحاضن الذي انبثقت منه الأحداث بخطوطها المتشعّبة.
وفي هذا السّياق، لا بدّ من الالتفات إلى رمزية الحضور داخل منزلها في تلك المدينة، لأنّ هذا الحضور يبرز طبيعة الحصار القائم على الأراضي المحتلّة بشكلٍ غير مباشر، لذا يصبح التهديد الذي يعشيه ذلك المسرح الضيّق حالاً عامّةً للأرض المحتلّة بكاملها. كما تتحوّل الذّبحة الصّدريّة التي أصيب بها ربيع داخل هذا المنزل وذاك الحصار في ظل ما يُعرَف بالرّبيع، إشارةً رمزيّةً واضحةً إلى أنّ التهديد يطال وجود الإنسان الفلسطينيّ بتعميق آلامه من الدّاخل وبتجالها المتعمّد، وهو ما يمكن أن نفهمه من الرّبط الإيحائيّ الذي أقامته الرّاوية بين الرّبيع المفترض والخريف الذي وصلا إليه في حياتهما وعلاقتهما على السّواء: “اصحَ يا ربيع، بدأنا نخرّف، ربيع العرب لم يصل هنا، في هذا الحصار، الدّنيا خريف!” .
ولا بدّ من الإشارة في هذا السّياق إلى أنّ هذا المكان أيضاً، بوصفه مسرحاً مفتاحيّاً لانطلاق الأحداث، هو الذي عرّف القارئ على شخصيّات الرّواية المحوريّة منها أو المساعدة. فإلى جانب شخصيّات نضال وربيع وياسمين وسعد التي انطلق الحديث عنها منذ أحداث الرّواية السّابقة، نجد حضوراً لأبي يحيى ولارا داخل المنزل المذكور، كما يتمّ ذكر أمين بوصفه والداً للارا وخالاً لنضال… وهذا الحضور لتلك الشّخصيّات ضمن المسرح الضّيّق شكّل الإطار الذي يطلق خيوط السّرد المتشعّبة، تارةً من خلال السّرد المتزامن مع الحاضر على لسان نضال، وتارةً أخرى من خلال السّرد الاسترجاعيّ من خلال الأوراق والرّسائل الخاصّة بأمين عن لسانه أو عن لسان ليزا حبيبته، أو من خلال ذكريات ربيع أيضاً.
وهنا لا بدّ من أن نذكر أن منزل نضال شكّل الحاضن لأوراق أمين والرّسائل التي تبادلها مع ليزا، وهذا ما يوحي بإشارةٍ رمزيّةٍ تبيّن أهمّيّة البحث عن حقيقة الذّات في ما يقدّمه التّاريخ والجذور الثّقافيّة للأمّة. إذ أنّ تجنّد شخصيّات الرّواية من أجل البحث عن ذكريات أمين وتاريخه يعدّ بحدّ ذاته إشارة وعيٍ ثقافيٍّ قوميّ، باعتبار أنّ التّاريخ ليس ما يظهر للعيان أو على السّطح بل ما يتمّ العثور عليه في العمق. وبناءً عليه، تصبح الأرض هي الحقيقة، سواءٌ أكانت أرض نابلس، أو أرض فلسطين، أو أبعد من ذلك.
2- المكان بوصفه عنصر تحوّل:
على أنّ منزل نضال ومدينة نابلس لم يستقرّا بوصفهما الموضع الذي يحتضن الأحداث، فمسار الرّواية يبرز تفاقم أزمة الحصار التي يمارسها الاحتلال الإسرائيليّ، وانسحابها على الماء الذي أخذ يندر ويصيب المجتمع بالاضطراب “لكنّ الماء هو سرّ الحياة. وحين يشحّ أو ينفد يتمرّد الضعيف على ضعفه ويهبّ لينجو من عطشه وجفاف الحياة” . وبما أنّ الماء مرتبط في الفكر الاعتقاديّ على تنوّعه بوجود الإنسان، فإنّ هذه الأزمة شكّلت أزمةً كيانيّةً وجوديّة بالنّسبة للمجتمع، انفتحت من خلالها الأحداث على احتمالات متعدّدةٍ، وبالتّالي مكانٍ آخر يمكن أن يعوّض الافتقار إلى المياه. ومن هذا المنطلق، يطالعنا بئر السامريّة التّابعة لأراضي الكنيسة الرّوميّة، وموقع الدّير بوصفه إطاراً مطوّراً لأحداث الحاضر.
نجد هذا الحيّز المكانيّ من نابلس حاضراً بشكلٍ قويٍّ في الأحداث، لأنّه شكّل انقاذاً من الأزمة المائيّة إلى حدٍّ ما، لأنّ الخوريّ القيّم على الكنيسة والدّير قد سمح بتحويل ماء البئر إلى نابلس. وهذا العمل ظهر بوصفه فعلاً منسجماً مع قصّة البئر وشرب المسيح منها على يد امرأةٍ سامريّة، وهو السّبب في تسمية هذه البئر بهذا الاسم، وهو الدّافع الذي حدا بالخوريّ إلى القول: “المسيح وعد نابلس بالماء الحيّ ونور الحياة الأبديّة. باسم الأب والإبن والرّوح القدس ابدأوا بالحفر” .
ومع أنّ سلطات الاحتلال شدّدت الحصار على المدينة حتّى لا يستفيد أهلها من ماء البئر، إلى جانب الادّعاء بأنّ مياهه من حقّ الكيان اليهوديّ، إلاّ أنّ هذا الحيّز بقي المنفذ الوحيد لإنقاذ إحدى شخصيّات الرّواية، وأعني الشّاب سعد، بتسهيل هروبه مع السّياح إلى خارج البلاد، بمساعدة أحد معارف ربيع في السّفارة الكنديّة .
فضلاً عن ذلك، فقد أظهر التّعرّف إلى هذا المكان سبيلاً لمعرفة الحقيقة، وهذا ما جعل أهمّيّته توازي المكان الأوّل. ففيه نتعرّف إلى تاريخ نابلس بوصفها مدينةً كنعانيّةً بامتياز، وقد أطلق عليها الكنعانيّون اسم “شكيم”، والسّلطات اليهوديّة عجزت عن إثبات وجود أي معلم يهوديٍّ فيها، لأنّ كلّ آثارها كنعانيّة ، وقد وردت هذه المعلومات على لسان الخوري نفسه في سياقٍ نقديّ لأبناء البلاد التي يجهلون تاريخها.
كذلك فإنّ الحضور في هذا المكان قد أتاح التّعرّف إلى الطّبيعة اليهوديّة التي تتّصف بالعدائيّة والإرهاب، إذ أنّ الخوريّ نفسه يسرد للرّاوية نضال ولربيع ولابنة خالها لارا ما قام به المستوطنون اليهود ضدّه ومشهد التّشفّي الذي قاموا به ضد الرّاهب “فيليمنوس” بتقطيعه إلى 36 قطعة، وذلك لأنّهما وقفا في وجه الاستيلاء على أرض الدّير وعلى البئر ومائها . وبهذا يتحوّل حيّز الدّير والكنيسة والبئر إلى حيّز مواجهةٍ وكشفٍ للحقيقة في آن، حيّز مواجهةٍ للإرهاب اليهوديّ ومظاهره التي لا يمكن أن تبرَّر بأي شكلٍ من الأشكال، وحيّز كشفٍ عن حقيقة هذا الإرهاب وعن التّاريخ الحقيقيّ لبلادنا، ولهذا يصبح هذا الحيّز عامل تحوّلٍ في مسار الخطّ الرّوائيّ المتعلّق بشخصيّات سعد ولارا وحتّى نضال نفسها…
3- سلبيّة الحضور المكانيّ:
ويستتبع الكلام عن الكنييسة الرّوميّة، الالتفات إلى قرية “عين غزلان”، فهي القرية التي لجأت إليها شخصيّات الرّواية بعد أن هرب إليها “سعد” من سلطات الاحتلال. وقد شكّلت مكاناً موجّهاً نحو التّعرّف إلى حقيقة الانتماء لتلك الأرض، وهذا ما توحي به عبارة الرّاوية: “جلسنا تحت شجرة جوز وارفة عمرها مليون” ، فليس الارتباط بهذه الشجرة (الأرض) مسألة عابرة ولا يمكن لأي عامل زعزعتها. إلاّ أنّ هذا العنصر الإيجابيّ لم يمنع من بروز الإطار السّلبيّ للمكان إنطلاقاً من عوامل تنبع من داخل المكان نفسه أو من خارجه.
هذا المكان عمل على إظهار بعض الظّواهر الاجتماعيّة المتأثّرة بالعنصريّة اليهوديّة، والتي ظهرت بوصفها عنصر تقسيم للمجتمع نفسه، بحيث بات الهدف بعيداً كلّ البعد عن الصّراع الوجوديّ في مواجهة خطر الاحتلال. وهذا ما نراه مع الحضور المتزمّت لشخصيّة “الحاجة فطمة” شقيقة أبي يحيى التي كانت تظهر امتعاضها من الآخرين أو من الضّيوف وعدم تقبّلها لمظاهرهم أو أفكارهم، مستندةً في ذلك إلى فهمٍ دينيٍّ كان قد دفعها إلى تغيير مسار حياتها نحو التّمسّك الأعمى بالدّين والتّعصّب بمحاولة فرض ما تعتقده على الآخرين. وبهذا برز المكان هنا بوصفه ممثّلاً للواقع الفلسطينيّ بالكامل.
من ناحيةٍ أخرى، نلاحظ أنّ أزمة المياه تفاقمت في القرية لتتحوّل إلى مواجهةٍ مع المستوطنين ومع جيش الاحتلال، شارك فيها سعد مع شبّان القرية، فأصبحت القرية ساحة صراع من أجل الماء/الوجود، الأمر الذي يحيلنا إلى القناعة بمقولة أنّ الصّراع الفلسطينيّ ضد الدّولة اليهوديّة ليس صراع حدود كما يبرزه الإعلام عموماً، بل صراع وجود. فضلاً عن فإنّ هذا المكان حضر في مواجهة مكانٍ آخر مناقض، وهو مستوطنة “يتسهار” التلموديّة التي بيّنت زيارة بعض الشّخصيّات إليها من أجل حلّ مسألة المياه مستوطنة “كريات شالوم”، بروز العنصريّة بوصفها سمة كيانيّة من سمات اليهوديّ المحتلّ مستوطناً أو عسكريّاً، وهي العنصريّة النابعة من التّعاليم الدّينيّة التي ظهرت في كلام الرّاباي الأعظم: “لسنا مسؤولين عن هؤلاء فهم يسكنون أرضاً ليست لهم. هم يخالفون شريعة الله ونصوص الوعد. الوعد ينصّ على أنّ هذه الأرض هي أرض إسرائيل التي وهبها الله لبني إسرائيل، والخارجون، وهم الأغيار، لا يحق لهم بالسّكن هنا…” . وهذا ما يعطينا إشارةً إلى مصدر العنصرية والإرهاب في الحقيقة، وأنّهما نابعين من حقد متجذّرٍ تجاه الآخر، وتبنّي هذه الأفكار يعني تأثّراً واضحاً بالفكر اليهوديّ التّلموديّ.
وهنا تتجلّى مسألة الصّراعات الحاضرة مكانيّاً على نحوٍ متشعّب، فالسّماء كما يبرزها ممثّلو الدّين هنا تصبح مصدراً للحقد والاقتتال على الأرض من جهة، ومصدراً للانقسام بين الأفكار، ولكره الآخر؛ بينما تتجّلى الأرض بكونها ساحة صراع من أجل الحياة بالنّسبة للفلسطينيّ، وحيّزاً لحضور التّناقضات داخل المجتمع نفسه، وخارجه.
4- حيّز الأمل:
لم يكن المسار الزّمني الحاضر وانتقالاته المكانيّة مساراً ثابتاً وأحاديّاً في الرّواية، لأنّ الكاتبة تعمّدت إيقاف الزّمن بشكلٍ متكرّر من أجل السّير في سياقٍ زمنيٍّ موازٍ يرتبط بأوراق “أمين” التي تروي مرحلة نضاله مع أنطون سعادة، وبذكريات “ربيع” المكمّلة لتلك المرحلة. وهذا الإيقاف ظهر على شكل استرجاعاتٍ متلاحقةٍ تسعى إلى أن تلقي الضّوء على شخصيّة أنطون سعادة التّاريخيّة وعلى مشروعه النّهضويّ.
فيحيلنا المكان/الحاضر ذاك من خلال تيار الوعي المنبعث من أوراق “أمين” ورسائل “ليزا” وذكريات “ربيع” أو رسائل “سعادة”، إلى أمكنة متنوّعة أوّلها منطقة “الضّهور الشّوير” في جبال لبنان، حيث لجأ كلّ من أمين وربيع بعد أن سقطت تجربة عبد القادر الحسينيّ، ومحاولتهما العثور على المشروع الجامع الذي يستطيع أن يوحّد الأمّة في مواجهة الحركة اليهوديّة- الصّهيونيّة. فبعد انخراطه في هذا المكان ضمن صفوف النّهضة، نجده يقول: “شيء غريب! لم أشعر بتلك الرّهبة وأنا أنضمّ للجهاد المقدّس، ولا حين توجّهنا إلى القسطل… أحسستُ أنّي أقيم صلاة الغائب على أرواح مَن سبقونا… وبدأتُ أحسّ بشيءٍ علويّ يسحبني ويرفع رأسي. كان يقرأ عمّا نتمنّى أو نحلم، انتفاضة الوطن ونهوض النّاس ونحن الشّباب شهداء الغد فداء للعدل والحريّة” .
في هذا المكان بما يشتمل عليه من أمكنة فرعيّةٍ كالدّير والعرزال ومغارة أذن الجرّة، نتعرّف إلى شخصيّة سعادة عن قرب، وإلى حضوره العائليّ وعلاقته بكلّ من ليزا وأمين وربيع. فيوصف في الرّواية بأنّه: “جاع وبرد وعطش مثل كلّ النّاس، لكنّه لم يستسلم. كان مختلفاً عن أقرانه” . وهنا تبرز الهالة التي وُضع ضمنها سعادة في هذا الحيّز المكانيّ، فقد شكّل منطلقاً لمشروعه القوميّ النّهضويّ. إضافةً إلى أنّ هذا الحيّز كشف عن علاقة سعادة الحميمة قديماً بـــــ”ليزا” حبيبة أمين ، وهو ما تبيّنه مغارة “أذن الجرّة”، وعن اعتماده على أمين وربيع في معظم المهمّات الخاصّة بحزبه، خصوصاً في الدّير والعرزال. وهنا نرى التّوالد الاسترجاعيّ في الإحالة إلى مرحلتين زمنيّتين داخل الماضي، فالإحالة الرّئيسيّة تتمحور حول الفترة التي لحقت حضور أمين وربيع إلى الشّوير، أي حوالي العام 1948. لكنّ تلك المرحلة نفسها تعيدنا في الكثير من الأحيان، لا سيّما على لسان ليزا، إلى مرحلة الثلاثينات لتبيّن عمق العلاقة التي كانت قائمةً بينها وبين سعادة .
ولا ننسى في هذا المجال أنّ هذا المكان، وخصوصاً العرزال ومحيطه، قد عبّر عن أفكار سعادة نفسه تجاه الكثير من المسائل المحوريّة في الحياة، ومنها رأيه بالحياة نفسها وارتباطها بالفن: “أهناك دنيا بلا أشعار وأحلام وموسيقى؟ ألسنا يا أمين أبناء الحياة؟ وما الحياة إلا هذا؟ نضال وشعر وموسيقى” .
نلاحظ من خلال ما سبق، أن هذا المكان شكّل عنصر أملٍ للشّخصيّات الأساسيّة في الرّواية، حيث كانت الأصوات الرّوائية المذكورة (أمين وربيع وسعادة) مصدر جذبٍ للقرّاء ومصدر تفاعلٍ مع المشروع الذي شرع “سعادة” بإطلاقه تحت اسم “الوادي السّعيد”. إذ نجد أنّ سعادة نفسه يعلن في حواره مع أمين: “هذه منطقتنا، وطن مدنيّ صغير في الوادي الكبير” ، وهذا ما يظهر أنّ هذا المشروع شكّل الأمل في بناء وطنٍ على أسس جديدةٍ في كافّة المجالات، من تربية وتعليم، وزراعة وصناعة، وتنظيم بلديّ واجتماعيّ، الأمر الذي جعل من هذا الوادي مصدر جذبٍ للناس من مختلف المناطق. الأمر الذي يشدّد على فاعليّة المكان في تغيير الحياة وإبراز سياقٍ مخالفٍ للمسار الذي يحيط به والذي يعمل على تحطيمه، فالمشروع ناتج عن تحقّق التّغيير الذّاتي في هذا المكان، والذي أدّى بالتّالي إلى إظهار الأمل في بناء نظامٍ جديدٍ قائمٍ على الفكر المدنيّ وعلى أساس الإنتاج. وهنا نرى إشارةً مكانيّةً واضحة، إذ مثّل مشروع “الوادي السّعيد” النّموذج الذي يجب أن يُحتذى في بناء الدّولة، وهو ما شكّل طرفاً في الصّراع ضدّ المدينة وما حملته من معانٍ في سياق الرّواية.
5- حيّز المواجهة / الصّراع ضدّ المدينة:
في هذا المجال، تبرز بيروت بوصفها الطّرف الآخر لهذا الصّراع، لأنّ فيها برز التّكوين الطّائفيّ الفاسد للبنان، فاسترجاع “أمين” لما مرّ به في هذه المدينة من فرضٍ للانقسام الطّائفيّ البشع، وتجاهلٍ للفكر الذي يعمل على الوحدة وبناء المجتمع، أعطى انطباعاً بحدّة الصّراع بين الطّرفين وبشدّة الانحطاط الذي يحاول طرف المدينة إغراق المجتمع فيه. فالانطباع الأوّل الذي خرج به أمين عند دخوله بيروت هو المظهر المقيت الذي تمثّل في المظاهرتين المتقابلتين اللّتين لا تحملان مطالب معيّنة، بل الشّتائم والأحقاد فقط لاغير: “لم تكن مطالب ولا احتياجات، بل احتجاجات وتهديدات وبذاءات تطال الدّين والمذهب. هذا يندّد بمذهب ذاك وشيوخه، وذاك يسخر من شيوخ ذاك ومذهبه وتعاليمه. والغريب أنّ رموز الطّرفين يلقّبون بالشّيوخ والمشايخ. الشّيخ محمد والشّيخ جوزف، والشّيخ محمود والشّيخ بيير” .
هذا ما أوضح عمليّة الانقسام في المدينة المقابلة للمفهوم الجامع الذي رأيناه في الوادي السّعيد، وهي عمليّة مفروضة على الشّعب، حتّى عملت على جعل أتّباع سعادة يذوبون في الصّراع الدّائر بين الطّرفين بالقوّة، لأنّ محاولة ترديد هتاف ينادي بوحدة الشّعب من كلّ الأديان استجلبت ردّ فعلٍ عنيف: “وللغرابة، ودون أن نعيَ ماذا يحدث، هجم علينا أفراد من هذا الفريق، ثمّ من ذاك الفريق، ونزلوا بنا ضرباً وبوكسات وشلاليت، ثم بالهراوات ففقدنا الوعي” . وكأنّ المشهد يحمل رمزيّة أن لا صوت في المدينة خارج النّداء الطّائفيّ، ولا يُعتَرف بوجود أيّ صوتٍ ما لم يكن داخل الفعل التّقسيميّ المقصود.
ولعلّ ذلك الأمر يبدو بشكلٍ أوضح من خلال الحوار الذي دار بين أمين وبين بعضٍ من أصحاب الفكر التّعصّبيّ التّقسيميّ داخل أحد الدّكاكين إثر فقدانه الوعي، فقد كان جلّ الحديث عن عدم إمكانية البقاء في إطارٍ واحدٍ مع أتباع الطّرف الآخر، وعن استحالة قيام مجتمع مدني لديهم لأنّهم أفضل دين ولأنّ البلاد تحتاج إلى القوّة لكي يتمّ الحصول على الحق المفترض . يدعم ذلك قيام الهجوم على مكتب مجلّة الحزب في إحدى مناطق بيروت ، والذي أودى إلى محاصرة الحزب واضطهاده وملاحقة زعيمه حتّى تسليمه للمحكمة الصّوريّة. وقد أجّجت هذه المشاهد الصّراع بين قطبين مكانيّين، تمثّل الأوّل في قطب “الوادي السّعيد”، بينما شكّلت “المدينة”، وبالتّحديد بيروت، القطب الآخر، دون أن تكون القوّة التي تسيطر على كلٍّ من المكانين قوّةً صافيةً، إذ نرى التّداخل واضحاً في هذا الإطار.
ويبرز التّداخل بين قوّتَي (الوادي السّعيد/المدينة) من خلال حضور قيم القوّة الأولى في المدينة بالشّعارات التي أطلقها أمين ورفاقه هناك في المشهد المذكور، ومن خلال حضور مجلّة الحزب إلى إحدى مناطق بيروت التي يغلب عليها تلوين دينيّ محدّد. بينما نرى حضور قيم القوّة الأخرى بأفكار الشّيخ الذي يهدّد أمين متوعّداً خلال إقامة معرض المنتوجات الزّراعيّة، وبتهديم مشروع الوادي السّعيد، وكذلك في المحاكمة الصّورية لسعادة وإعدامه. أمّا عن دلالة هذا التّداخل فإنّه يكشف عن حدّة الصّراع من جهةٍ، وعن طبيعة المكانين من ناحية البيئة الاجتماعيّة، فالبيئة الجبليّة الرّيفيّة أتاحت للمشروع النّهضوي الاتّساع بسبب حاله المتّسمة بالبساطة وبسموّ القيم، في حين أنّ البيئة المدينيّة عملت على تقييد هذا الاتّساع نتيجة الحضور المعقّد للعلاقات النفعيّة الضّيقة وللسلوكيّات المادّيّة الدّنيا البحتة.
تطالعنا أيضاً في الرّواية المدينة الأخرى، وأعني دمشق، بوصفها مكاناً يحوي صراعاً خاصّاً بها على ضوء الصّراع المكانيّ الأوّل، إذ تدخلنا الأصوات الرّوائيّة الثّلاثة (أمين وربيع وليزا) في المواجهة المباشرة مع فسادٍ من نوعٍ آخر يتمثّل في الخضوع للإرادات الخارجيّة ومشيئتها والانسياق وراء المال، وبالتّالي في الخيانة، وهو الأمر الذي أدّى إلى تسليم سعادة للسّلطة اللّبنانيّة. فالرّئيس حسني الزّعيم الذي عُقدت عليه آمال كبرى آنذاك، قد تآمر على سعادة من أجل تسليمه، وهو ما يوضحه ربيع بالقول: “ذهبنا إليه محمّلين بالآمال والأحلام والنّوايا، وإذا به أجير مدسوس أوكلت إليه مهمّة سحق الحركات الثّوريّة حتّى نظل عبيداً كما كنّا ومزرعة النّفط العربيّة” . وهذا الأمر قد تبيّن في سياق الرّواية من خلال أحد أصدقاء ربيع الذي سرد له عن اللّقاء الذي جمع حسني الزّعيم بموشي شرتوك أو موشي شاريت الذي كان وزيراً لخارجيّة إسرائيل .
من هذا المنطلق، نجد أنّ مدينة دمشق أدّت دوراً شبيهاً بالدّور الذي قامت به بيروت، إذ شكّلت طرف نقيض مع مشروع “الوادي السّعيد”. ففي حين كان الوادي السّعيد قائماً على مبدأ التّحرّر والتّخلّي عن النّفوذ الخارجيّ، كانت مدينة دمشق في الإطار الرّوائيّ تتمحور حول الارتباط بالخارج، أو على الأصحّ بالعدوّ.
استناداً إلى ذلك، تصبح ثنائيّة (الوادي/المدينة) ثنائيّةً مكانيّةً متحكّمةً بتطوّر الخطّ الرّوائيّ الاسترجاعيّ القائم على استعادة مرحلة سعادة بالتّحديد، انطلاقاً من كون هذا التطوّر يخضع لتجاذبات الصّراع الدّائر بين طرفَي هذه الثّنائيّة.
6- المكان القياميّ:
تبقى الإشارة في هذا السّياق إلى النّهاية التي أوصلت سعد ونضال وربيع إلى بيروت لحضور حفل تخرّج لارا في الجامعة الأمِريكيّة ، وهو المكان الذي أطلق فيه سعادة حزبه. وأن يكون هذا المكان موضعاً لنيل درجةٍ علميّةٍ يعني أنّه يشكّل حيّزاً للتّجدّد، وبالتّالي أملاً في غدٍ قائمٍ على أفكار سعادة نفسها واستفادةٍ من تجارب الماضي، وهو ما سبق أن أبرزته لارا نفسها في بداية ظهورها داخل الرّواية .
إضافةً إلى ذلك، فإنّ أهمّيّة هذا الموضع يتجلّى في أنّه جمع مسارين روائيّين متوازيين: الأوّل هو الذي يدور في الحاضر مع نضال وسعد ولارا وربيع، والمسار الثّاني الذي يرتبط بسعادة وأمين. وبناءً عليه فإنّ هذا الحيّز المكانيّ شكّل الموضع الذي تبرز منه انطلاقة جديدة تتخلّص من شوائب الزّمنين الحاضر والماضي في سبيل بناءٍ جديد.
ويشير كذلك أيضاً إلى أنّ حياة هذه الأمّة ستبقى واحدةً، كما سيبقى نضالها واحداً مهما حاول المتآمرون حرف بوصلة الصّراع. فضلاً عن ذلك، قد يشير إلى أنّ الطّريق التي اختارها سعادة هي المسار الصّحيح نحو قيامة هذه الأمة.
في هذا السّياق، تبرز حيويّة هذا المكان وطبيعته القياميّة من خلال مشهد غناء النّشيد الجماعي “نحن الشّباب”. إذ أنّ هذا المكان في ختام الرّواية احتضن ذاك النّشيد معطياً أبعاداً دلاليّةً متعدّدة، يتمثّل أوّلها في الانخراط الجماعيّ بالغناء: “واندلع هتاف، ثمّ ارتفع صوت الجمهور مصاحباً الغناء بصوتٍ هادر” ، وهو ما يعني الخروج من الحال الفرديّة إلى إطار المجتمع، وبالتّالي يشير إلى أنّ الخلاص في المجتمع لا يمكن أن يكون فرديّاً أو فئويّاً أو مناطقيّاً، بل يشمل الأمّة جمعاء، ومسألة فلسطين منها.
أمّا البعد الدّلاليّ الثّاني فيتجلّى في مشاركة ربيع التي جعلته يستعيد حيويّته القديمة وشبابه: “التفت ربيع وهو يغني مع الكورس ومع الجمهور. ورغم الشّيب وتجاعيده رأيته يعود إلى ما كان يوم القسطل والجمّيزة وأيّام كنّا في صانور مثل العصافير نحلم بالغد” . وكذلك مشاركة الرّاوية نضال للجمهور في الغناء، التي أوحت بنبرٍ ابتهاليٍّ يدلّ على عظمة الأيام الآتية: “لكزني ربيع لأغنّي فغنّيت بخجلٍ في البدء بصوتٍ هامس. وحين ارتفع صوت الجمهور أعلى وأعلى، نسيت خجلي ودموعي ورفعت الصّوت، ولم أدمع” ، مع أنّها هي وربيع تجاوزا مرحلة الشّباب بزمن طويل، إلاّ أنّ هذه النّهاية في ذاك الحيّز المكانيّ أسهمت في إبراز عمليّة التّجدّد وفي التّفاؤل عوضاً عن اليأس، لأن الشّباب سيحقّقون الحلم الذي عجز جيل الرّاوية عن بلوغه.
من هذا المنطلق، يتحوّل المكان الذي اختُتمت فيه الرّواية إلى نقطةٍ محوريّةٍ تجلّت فيها رسالية الخطاب الذي تسعى الكاتبة إلى إيصاله، فهي النّقطة التي تشكّل الدّافع من أجل إيقاذ روح الوعي والأمل في نفوس أبناء الأمة وهديهم إلى الطريق القويم.
– خاتمة:
يمكن للمتلقّي أن يلاحظ، من خلال ما رأيناه سابقاً، أنّ المكان شكّل عنصراً محوريّاً في بناء الرّواية، وفي الإمساك بأبعادها الدّلاليّة. فمن ناحيةٍ شكّل بوصفه الإطار المحدّد لسير الأحداث قوّةً فاعلةً إن بشكلٍ إيجابيٍّ أو سلبيّ. ومن ناحيةٍ أخرى، ظهرت الصّراعات التي تتملّك الرّواية من خلال الصّراعات بين الأمكنة، ومنها على سبيل المثال، صراع نابلس/ مستوطنة كريات شالوم، وصراع عين الغزال/ مستوطنة يتسهار، وهما الصّراعان اللّذان بيّنا حقيقة الحقد اليهوديّ تجاه الشّعب الفلسطينيّ. كذلك ينطبق على هذا الوصف صراع الوادي السّعيد/ المدينة، بما يجسّده من نقاط مواجهةٍ بين قوّة التّغيير والتّحرّر وبين قوى الرّجعيّة والتّبعيّة.
ومن الواضح للقارئ بروز التّداخل بين الأمكنة وبين الأزمنة في الرّواية، بحيث نجد تناوباً في حضورها وفي تأثيراتها. فالمعاناة التي كانت تمرّ بها الشّخصيّات في الحاضر داخل الضّفّة الغربيّة، وبالتّحديد في منطقة نابلس، لاقتها المعاناة التي عانت منها بعض تلك الشّخصيّات في الماضي في لبنان والشّام. ولعلّ هذا التّداخل في الأطر المكانيّة والزّمنيّة هي التي أوحت بتحديد المعنى من لفظة “أرض” في العنوان، إذ قد يكون في ذلك إيحاء إلى أنّ هذه الأمكنة بزمنيها تشكّل أرضاً واحدةً بتاريخٍ موحّد، فتصبح فلسطين ولبنان والشّام أرضاً واحدةً انسجاماً مع ما تنادي به الشّخصيّة التّاريخيّة التي تمحورت حولها أفكار الرّواية، وأعني شخصيّة أنطون سعادة.
استناداً إلى ذلك، تبرز السّماء من خلال حضورها في الأفكار الطّائفيّة التي تستخدم الدّين غطاءً لمصالحها في مواجهة أي فكر يوحّد الأرض والمجتمع، فحضور الشّيخ الطّائفيّ بوصفه تحدّياً لفكر سعادة العلماني، ومرور أمين بتجربته في بيروت واستماعه للتّهديدات المبطّنة من قبل رجل الدّين وصاحب الطّربوش، إضافةً إلى بروز “الحاجّة فطمة” شقيقة “أبي يحيى” بشخصيّتها المتزمّتة في ظلّ الضّغط الإسرائيليّ على الشّعب؛ كلّها جعلت من الأرض في مواجهة هذه السّماء مستوحيةً القول الشّهير سعادة نفسه: “اقتتالنا على السّماء أفقدنا الأرض”، وهو القول الذي عنونت به الكاتبة افتتاحيّة الجزء الأوّل من كتابها . وذلك دون أن ننسى العقليّة الدّينيّة اليهوديّة التي تبرّر سلوكها العدائيّ وأفكارها الحاقدة بالمرجعيّة التّوراتيّة-التّلموديّة، ما يشير إلى أنّ الكاتبة تبيّن أنّ السّماء حضرت بوصفها مصدراً للانقسامات لا مساحةً للجمع كما هو مفترض.
ولا بدّ من التّنويه في هذا المجال إلى نجاح الكاتبة في سعيها إلى تجسيد أفكار سعادة بصورةٍ غير مباشرة، الأمر الذي يمكننا رصده من خلال تلك الإشارات المكانيّة والزّمنيّة. فمن المعروف قوله بأنّ الصّراع مع اليهود صراع وجود لا صراع حدود، وهو ما بدا في طبيعة الفكر الذي أبرزه الرّاباي الأعظم في مستوطنة يتسهار التلموديّة. ومن المعروف كذلك قوله عن الطّلبة بأنهم نقطة الارتكاز في العمل القوميّ، وهو ما رأيناه في مشهد الخاتمة مع نشيد “نحن الشّباب” عند تخرّج لارا. وقس على ذلك قوله بمبدأ فصل الدّين عن الدّولة، وبأنّ المسألة الفلسطينيّة هي مسألة تخص الأمّة السّوريّة في الصّميم، وقيام الاقتصاد على أساس الإنتاج…
ومن الضّروريّ هنا أن نشير إلى أنّ عملنا حول مسألة المكان والتّداخل الزّمني تحتاج إلى دراسة جوانب أخرى في الرّواية حتّى تكتمل، ومن أبرز الجوانب الدّلاليّة في هذا السّياق تلك المتعلّقة بدراسة المسار الصّراعيّ للشّخصيّات ورمزيّتها، نظراً لكون هذا الجانب يمتلك أبعاداً غنيّة وعميقة في التّعبير عن الدّلالات التي تختزنها الرّواية، وهي التي تعطي صورةً أوضح عن الفضاء المكاني الزّمني فيها.
ومهما يكن، ففي الخلاصة يمكننا أن نرى بوضوح أنّ الأمكنة بتداخلاتها في الرّواية، وبتناوب حضورها بين الحاضر مع نضال في نابلس وبين الماضي مع ربيع وأمين وسعادة وليزا في لبنان والشّام، قد شكّلت عنصراً حيويّاً في طرح رؤية الكاتبة نحو هذه البلاد التي ما تزال تأبى القبر مكاناً لها تحت الشّمس.
