د. آمال يوسف مراد
أستاذ متعاقد برتبة أستاذ مساعد
الجامعة اللبنانية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الفرع الرابع – قسم اللغة العربية وآدابها
أن تصبح «فلسطينيّاً فقط»: قراءة في رواية «رجال في الشّمس»
للشّهيد غسان كنفاني
بحث مقدم لمؤتمر «الخطاب الأدبي المقاوم ومواجهة الحرب الناعمة» الذي تنظمه جمعية
«نساء من أجل القدس» و«الملتقى الثقافي الجامعي»
تاريخ 12، 13 و 14 أيار 2014
أن تصبح «فلسطينيّاً فقط»: قراءة في رواية «رجال في الشّمس»،
للشّهيد غسان كنفاني
د. آمال يوسف مراد( )
في روايته «رجال في الشَّمس» ينطلق غسّان كنفاني، الرِّوائيّ الفلسطيني الشّهيد، من الواقع اليومي المعيش للشعب الفلسطيني: ركض الفلسطيني وراء الرغيف الهارب عبر الصحراء إلى الكويت. وتتحرَّك القصَّة عبر أربع شخصيَّات رئيسيَّة تمثل الأجيال الفلسطينيَّة المختلفة، والهموم اليوميَّة التي تشدّها إلى بعضها، هموم المخيَّم والتوق إلى سقف الباطون وإلى الحياة.
أبو قيس، رجل عجوز، الأرض لا تزال تحت جسده ترتعش مثل امرأة، ورائحتها تجعله “يتنسَّم شعر زوجته حين تخرج من الحمَّام وقد اغتسلت بالماء البارد… الرائحة إيّاها، رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطباً». لكن الحياة شيء مختلف. فالموت أفضل من حياته. لا بدّ من بعض المال. وحين تأتيه فكرة السَّفر إلى الكويت لجمع الثروة يدور بينه وبين زوجته الحوار التالي:
«ماذا تريدين يا أم قيس؟
حدّقت إليه وهمست:
– كما ترى أنت..
– سيكون بوسعنا أن نعلم قيس..
– نعم..
– وقد نشتري عرق زيتون أو اثنين..
– طبعاً..
– وربّما نبني غرفة في مكانٍ ما..
– أجل..
– إذا وصلت.. إذا وصلت..»( ).
أسعد: أسعد هو الآخر يحلم بالدنانير في الكويت. اقترض خمسين ديناراً من رجل يريد تزويجه ابنته. وهو في هذه الصفقة لا حول له. فندى قدره كما يعتبرها عمّه لمجرّد أن أباه قرأ الفاتحة مع عمِّه حين وُلد هو ووُلدت هي في يوم واحد. وأسعد له تجاربه مع المهرِّبين. فقد دفع عشرين ديناراً ليهرّبه أبو العبد من عمّان إلى بغداد. فأخذ الدراهم وتركه وحيداً في منتصف الطريق.
مروان: مروان لا يزال صغيراً. شقيقه الذي في الكويت تركهم بدون معيل لأنه تزوّج. ووالده هو الآخر ترك أمّه ليتزوج بشفيقة التي فقدت ساقها أثناء قصف يافا والتي تملك بيتاً في طرف البلدة. إذن عليه هو أن يعيل العائلة.
أمام أبواب المهرِّبين في البصرة كان الثمن غالياً 15 ديناراً. لكن أبا الخيزران يعرض على مروان تهريبهم إلى الكويت بخمسة دنانير. أما الطريقة فهي بواسطة ناقلة ماء. يبقون في الخزان ست دقائق عند عبور الحدود العراقيَّة – الكويتيَّة. لم يكن الأمر سهلاً، فعند الوصول إلى نقطة الحدود يبدأ أبو باقر وبقيَّة موظفي الحدود بممازحة السائق. تنقضي نصف ساعة. ثم في عرض الصحراء يفتح أبو الخيزران باب الخزان ليجد الثلاثة جثثاً في داخله.
الشخصيَّات الثلاث التي تتحرَّك داخل هذه القصَّة لا يمكن فهمها دون فهم البؤس اليومي الذي يعيشه سكان المخيّمات. إنَّها شخصيَّات واقعيَّة تريد الخلاص بسرعة. أمَّا أبو الخيزران الذي فَقَدَ رجولته في الحرب، فإنه يريد هو الآخر تجميع الثروة بواسطة التهريب. فقد “ضاعت رجولته وضاع الوطن وتباً لكلّ شيء في هذا الكون الملعون». وحين يتلاقى بمروان ويعرض عليه تهريبه يقبل منه خمسة دنانير فقط بينما المهرّبون المحترفون يطلبون خمسة عشر ديناراً سلفاً. لكن المفاجأة كانت على الحدود. حين يبدأ الموظَّفون بممازحته حول علاقاته الجنسيَّة بالراقصات في البصرة. في غمرة الممازحة يموت الثلاثة. فيرميهم أمام المزبلة في الكويت بعد أن يسرق دراهمهم. ثم «انزلقت الفكرة من رأسه ثمَّ تدحرجت على لسانه: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود. لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ وفجأة بدأت الصحراء كلها ترد الصدى: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟»( )
قصَّة كنفاني هذه تمثل قفزة نوعيّة على المستوى الفني. الشخصيَّات تتحرَّك بحرِّية. إنها من أجيال مختلفة وأمامها هدف واحد. القضية تبدو للوهلة الأولى بعيدة. إنهم فقط يعانون النتائج. تماماً مثل أبي الخيزران. ثم فجأة نكتشف في نهاية القصَّة أن الجميع يعانون من فقدان الرجولة. وأن الصحراء تئنّ من تحت أقدامهم تسألهم لماذا الصمت. هذه القصَّة الرمزيَّة تتحاشى جميع مشاكل وتعقيدات الأدب الرمزي. رمزها واضح وجليّ. الشعب الفلسطيني يموت كلّ يوم في الخزان دون أن يصرخ، فعلى الأرض أن تصرخ الآن.
البطل في هذه القصّة هو الكادح الفلسطيني. لكن الفنان يمسك جيِّداً بمقود عربته. إن النتيجة التي وصلوا إليها تكمن في كونهم لم يدقوا الجدار. ويطرح كنفاني السؤال اللافح: لماذا؟ القضيّة بدأت تأخذ حجماً جديداً. إنها مرحلة جديدة في الوعي. التفاعل مع الحياة الرتيبة المرهقة بدأ يُنتج أسئلته. والسؤال الرئيسي بحاجة إلى جواب. الكاتب يتمسَّك جيِّداً بمقوده فالغرق في مجانيَّة الموت يجب أن يصحبه سؤال. وسؤال جارح تردِّده الصحراء حتى تتبدَّى معالم الطريق( ).
في هذه القصَّة يكون الفشل منذ البداية، غير مفسَّر وغير مبرَّر، غير تفسير الصدفة والحظ السيء. ومن ناحية أخرى نحن نعرف أن الذين وصلوا إلى الكويت وإلى أمكنة أخرى، من الفلسطينيّين وحصلوا على حياة جديدة أكثر بكثير من الذين ماتوا على الطريق. ولكن لماذا يهتمّ غسَّان كنفاني بالأقليّة ويهمل الغالبيَّة؟
«الفلسطيني» في «رجال في الشَّمس» لا يملك الاختيار، «الشَّخص الآخر» يختار. لو كان «شخصاً آخر مقبولاً» لاجتاز الحدود بالطريقة القانونيَّة كما فعل الآخرون المقبولون، لأنه غير مقبول، فعليه أن يختفي عند نقطة الحدود ليصبح «كله فلسطينيَّاً»، عندها يقتلوه. فهذه هي الطريقة التي يتعامل بها العالم مع الذين «كلهم فلسطينيِّين» خارج المخيم. لذلك اهتمَّ غسَّان كنفاني بالعدد القليل الذي مات ولم يصل لأن أفراده كانوا «فلسطينيِّين فقط» وأهمل العدد الكبير الذي وصل لأن أفراده يعيشون حياة «الموت المؤجَّل»، ومقدار التأجيل يخضع لمقدار فائدة «الشخص الآخر» للعالم.
الحدود، الصحراء، والشَّمس، كانت اختياراً فنيَّاً فقط. عندما قرأنا القصَّة بعيداً عن الصَّحراء والشَّمس شعرنا مع الكلمات الأولى بنبض قلوبنا يرتفع كصوت طبول تأتي من بعيد، تشتدّ مع كل مقطع، مع كل صفحة، وتعلو في النهاية كصوت طبول الموت، فتضيق أنفاسنا ونحن نرى القبر يلتهم أربعة من الفلسطينيِّين، ونجبر على أن نتساءل: متى يأتي الدَّور؟
كان سرّ إعجاب القرَّاء بـ «رجال في الشَّمس» أنها فضحت سرّ كل واحد فيهم. ولهذا كانت رواية أصيلة وحقيقيّة. ولكن هل هي حقاً «رواية»؟
لا، إنها أصيلة وحقيقيَّة ولكنها ليست رواية بالمعنى الفني للكلمة، أيام كتابتها لم يكن باستطاعته أن يكون روائياً.
الروائي هو الذي يعيد «ترتيب العالم» بالشكل الذي يقتنع به. فإذا كانت مهمَّة العالم الاجتماعي دراسة الظواهر الاجتماعيّة من حوله، ليكتشف بقوَّة التجريد، ومن بين آلاف الظواهر والعوامل المتشابكة بالحياة، العوامل القليلة الهامَّة، والعلاقات الأساسيَّة بينها، ليخرج بنظريَّة قادرة على تفسير العالم والتنبُّؤ بالمستقبل، كذلك، فإنَّ مهمَّة الروائي دراسة تصرُّفات الناس من حوله وبقوَّة حدسه الإنساني يكتشف جذور إرادة الحرّية في هذه التصرُّفات، حتى تكون الرواية فهماً مكثفاً للوضع الإنساني، يتنبأ بمصير الإنسان. مادة الرواية الإنسانيَّة دوماً واحدة، العلاقة بين الإنسان وقوى الاضطهاد. كيف يقاوم الضعيف قوى الإرهاب التي تريد إلغاء إنسانيَّته. الضعف يأخذ أشكالاً عديدة، والإرهاب يأخذ أشكالاً أكثر، ولكن يظلّ الصراع بينهما هو ما يشكل معنى الرواية. الفلسطينيُّون بعد 1948، وقبل المقاومة لم يقولوا لا للإرهاب، كانوا يتعايشون معه، يتحايلون عليه بواسطة «الشخص الآخر» في كلّ منهم. لذلك، فعندما نقرأ أي قصَّة فلسطينيَّة مكتوبة عن تلك الفترة فنحن نستطيع التنبُّؤ بكلِّ ما يحدث بعد قراءة الصفحة الأولى. الفلسطيني لا يفاجئ أحداً. نبدأ في الصفحات الأولى من «رجال في الشَّمس» نتعرَّف على «الأربعة» وندرك فوراً أن عمليّة التهريب ستفشل، الأربعة لا يستطيعون مفاجأتنا بأيِّ شيء آخر. والمؤلف لا يستطيع أن يفاجئنا، لكنه يستطيع أن يحتفظ بنا معه حتى نهاية الرواية، وفي النهاية ننسى «الأربعة» ولكننا لا نستطيع أن ننسى غسّان كنفاني، والأهم لا نستطيع أن ننسى أنفسنا. قيمة الكتاب الأصيلة هي أن الكاتب استطاع أن يُبقينا معه حتى النهاية ليُرينا أن فشل الكتاب بأن يكون «رواية» هو في نهاية المطاف فشلنا نحن القرّاء لأن نكون مادَّة الرواية الإنسانيّة، لأن نكون الناس الذين يقولون للإرهاب: لا( ).
أبو قيس، في هذه الرواية، ينأى عن الأرض، لكنه إذ يمنح صدره لتراب الأرض البعيدة، فإن قلبه يخفق بدبيب الأرض الأولى، المفقودة. «أراح أبو قيس صدره فوق التراب النديّ، فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب تطوف في ذرّات الرمل مرتجة ثمّ تعبر إلى خلاياه»( ). وليست الأرض قريبة من القلب، لكنها متوحّدة فيه تخفق مع خفقاته، وتستمدّ رائحتها من تلك الألفة الحارَّة التي يستنشقها الرجل في المرأة المعشوقة غبّ اغتسالها بماء بارد( ).
هذا الاقتراب من الأرض المفقودة، يتسامى بها عن المسافات، ليحرقها بالذاكرة والحلم. فنسيج رحلة الإنسان الفلسطيني يبقى متمحوراً حول الأرض. كلّ الأفعال، الأحلام، الهواجس، الطموحات، يظلّ محورها الأرض. وحتى الموت فإنه لا يكتسب معناه بعيداً عن الأرض، فيصبح مجَّانياً ورخيصاً حينما يكون خاتمة الرجال في رحلتهم الطامحة إلى إيجاد بديلهم الوهمي للأرض. ومن هذا النسيج الواقعي، يستمدّ غسان كنفاني خيوطه لينسج كلماته في تمحورها حول الأرض( ).
في «رجال في الشمس» تتحوّل المرأة استعارة للأرض، فنقرأ في البداية وصف أبو قيس للأرض في اعتبارها امرأة، ولرائحتها التي تشبه رائحة امرأة تخرج من الحمَّام، ولنبضها الذي يشبه نبض العصفور( ).
إن الأرض هي ذروة العلاقات الحميميّة للفلسطينيّ مع الأشياء. إنها نقطة الدائرة التي انزلق عنها الفلسطيني في الانحناءة الهابطة في رحلة الغربة، وهي النقطة ذاتها التي يطمح للوصول إليها بارتقائه للانحناءات الصاعدة عبر الممارسة النضاليّة.
أن يشهد انغلاق الدائرة بوصول الفلسطيني إلى أرضه، كان همّ غسان كنفاني في ممارسته السياسيّة وحلمه وطموحه. وأن يعبّر عن رحلة الإنسان الفلسطيني، عبر تفصيلات مسارها في محيط الدائرة من النقطة ذاتها: الأرض وإليها، كان همّه في ممارسته الفنيّة، رغم أن الفارق بين الممارستين هو مجرَّد فاصلة صغيرة وهميَّة لدى غسَّان كنفاني، روائياً ومناضلاً.
– زمان الفلسطيني ومكانه:
فرضت تجربة الاقتلاع والنفي القسري للفلسطيني عن أرضه، نوعاً من الخصوصيّة في علاقته مع الزمان والمكان. فمهما تعدّدت الأمكنة في المنافي، فإن الحلم يظلّ يشدّ الفلسطيني إلى مكانه، ومهما تراكم عليه الزمن، فإنه يظلّ يشدّ أوتار الذاكرة نحو الزمن المفقود، وهو يطمح في استعادتهما معاً: المكان المفقود والزمن المفقود.
ظلَّ المكان المفقود طويلاً حلماً بعيد التحقّق. وكلما كان الزمن يمضي برتابته، فإنه كان ينأى بالفلسطيني بعيداً عن المكان، ويبعد الحلم عن احتمالات التحقق.
لكن التحوُّل في حركة التاريخ الذي صنعه الإنسان الفلسطيني بممارسته النضالية، كسر رتابة الزمن، فأصبح الحلم قابلاً للتحقق، إذ أصبح الزمن الفلسطيني يتجه في حركته نحو المكان الفلسطيني المفقود.
في «رجال في الشمس» تكمن شهادة غسَّان كنفاني. فقد غرق الرجال الثلاثة في أوهام المكان البديل، لأن حلمهم، في زمن الوهم، كان بعيداً عن التحقق. في هذه الرواية لا يقدّم المكان دلالته في ذاته كمكان فحسب، وإنما يكتسب من الزمان دلالات أخرى.
فالصحراء، بامتدادها وفراغها وعريِّها، بصفرتها الباهتة الموحية، هي مسرح الحدث في زمن الفرار والاستنكاف. ولأن المكان يشهد على ذاته في مثل ذلك الزمان، فإنّ الصحراء تحمل دلالات الموت والضّياع، وفي جبروتها تكمن القسوة، ويكمن الموت للرجال الموغلين في جوفها نحو المكان البديل لكي يصنعوا فيه زمناً بديلاً.
هناك، وفي ذلك الزمن، كانت الصحراء جسراً من جسور الوهم. إن «هذه الكيلو مترات المئة والخمسين أشبهها بيني وبين نفسي بالصراط المستقيم الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار»( ). لكن الرجال الثلاثة، عبروا ذلك الجسر نحو الموت المحتم.
ومع أن للصحاري ذات السمات التكوينيَّة المكانيَّة، إلا أن الصحراء، في زمن آخر، تظلّ قادرة على أن تحمل دلالات أخرى مغايرة.
في هذه الرواية، يقوم كنفاني ببناء المسرح، الذي ستفرض حجم خشبته دائرة تحرّك الأبطال الأربعة. فهم محاصرون. وحين يحاولون الهرب من حصارهم، لا بدّ لهم من المرور في الصحراء. ولا وسيلة سوى خزّان شاحنة يقدِّمه سائق فَقَدَ رجولته في الحرب، فيموت الثلاثة في الخزان، ويقوم السائق برميهم وأخذ نقودهم.
إن السؤال الذي يخرج من فم أبي الخيزران: «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟»، هو خاتمة الفصل السلبي الذي تتمحور حوله علاقات أبطال الرواية. غير أن هذه الشخصيّات تتطوَّر ضمن إطارين:
أ- التوازي: لا تتمّ حركة تطوُّر الشخصيَّات – النماذج – في خطوط متوازية. فلكل شخصيّة تاريخها الخاص، الذي يشكل دافعها إلى الهجرة. والشخصيّات هذه تمثل ثلاثة أجيال وكل جيل له قضيّته الخاصّة، في إطار القضيَّة العامة يتمّ نمو الشخصيَّات إذن خارج دائرة علاقاتها ببعضها، يوحّدها الطموح إلى الارتقاء الاجتماعي بشكل فردي (هذا إذا أخذنا الشخصيّات واقعيَّاً وجرَّدناها من دلالاتها الرمزيّة).
ب- نقطة اللقاء: هذه النقطة ليست مصادفة محضة كما يبدو من خلال قراءة الرواية بشكلٍ أوّلي. إنها نقطة حتميَّة، لا تأتي من تطوّر الأحداث، بل تأتي من مصدرٍ آخر – تطوُّر الدلالات. فاللقاء على طريق الموت، يتمّ هنا بشكل يخرج عن سياق الرواية، إنه ملحق بتطوُّر من نوع آخر يجري في الواقع، الذي تحاول الرواية إعادة ترتيبه.
ويلتقي هذان المستويان في مسيرة الصحراء، لكن اللقاء يأخذ طابعاً فاجعاً، فهو يتحوّل إلى لحظة موت جبانة، دون طرح السؤال الذي يقود إلى التمرّد. والسؤال الذي يطرحه السائق في نهاية الرواية سؤال مستحيل. فالأسئلة السهلة الجذريّة، لا يطرحها سياق واحد. الذي يطرحها هو جدل أكثر من طرف. لكن صوت كنفاني هو الذي يتقمّص حنجرة السائق. لذلك يأتي السؤال ليستوعب ذهول القارئ في قفزة إلى خارج السياق.
يندرج هذان المستويان في بنية تشكيليَّة تعتمد أربعة أشكال فنيَّة:
1- الحوار الداخلي: الذي يحمل القضيَّة ليغرسها على علاقاتها بالذات والأرض. فالحوار الداخلي، هو المسافة التي تسبق الوصول إلى اتخاذ قرار.
2- الذكريات: التي تنقل القضيَّة إلى أزمنة مختلفة، وتقوم بعمليّة توحيد هذه الأزمنة في لحظة الحركة. لكن التذكر لا يمس الزمن الواحد، الزمن العادي الذي تتحرّك فيه الرواية.
3- السَّرد: يقوم السَّرد الروائي بعمليّة الانتقال من مرحلة في تطوُّر الأحداث إلى مرحلة أخرى. إنه سرد يتمّ بلغة الفعل الماضي. وينجز مهمته عبر اللجوء إلى وصف التفاصيل وإبرازها.
4- الشعر: لغة كنفاني لها دلالة الإيصال التي تصل إلى ذروتها في السَّرد. ودلالة الإيحاء التي تتمحور في الحنان الشعري الذي يتعامل في أحشائه الأبطال مع أرضهم وطموحهم: «كلما تنفس رائحة الأرض وهو مستلقٍ فوقها خُيِّل إليه أنه يتنسّم شعر زوجه حين تخرج من الحمّام وقد اغتسلت بالماء البارد… الرائحة إيَّاها، رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطيباً… الخفقان ذاته: كأنك تحمل بين كفَّيك الحانيتين عصفوراً صغيراً…»( ).
في هذه الرواية التي تدور أحداثها في حدود عام 1958، أي بعد مرور عشر سنوات على النكبة، يشي الزمن السردي بالوضع الحياتي للفلسطيني في المخيَّمات، حيث كان في مرحلة الغربة والتفكك والضياع. فالحركة الزمنيّة بعيدة عن المكان – الأم (المخيَّم)، كما أنها اتسمت بالقفز على المكان البديل إلى بديل آخر (الكويت عبر الصحراء). إنها حركة تتجاوز الحاضر والماضي (في فلسطين) لتقفز نحو المستقبل المجهول، وفي تجاوزها تلغي ماضي الانتماء والاستقرار وحاضر الاضطراب، وتذهب إلى مستقبل دون انتماء.
هنا يتحوَّل الخزان – المخبأ الذي يربط مصائر أبي قيس وأسعد ومروان والذي يشكل أداة الهرب من المكان – الأم، إلى خزان حصار فاختناق فموت لأنه في حركته يتجه نحو المكان الخاطئ.
وهكذا، ففي الابتعاد الزماني – المكاني، يتوهّم الثلاثة الحلّ. إلا أن الخزان يتحول إلى رمزٍ للعجز في المواجهة؛ إنه الزمن الفلسطيني الساكن بعد النكبة، الهارب من الأسئلة، زمن مسيَّر، مستلب في حركته (أبو الخيزران هو الذي يتحكم بالزمن أي بالحياة أو الموت). فالحصار الذي كان مفترضاً أن يكون دقائق معدودة تحوَّل إلى عشرين دقيقة كانت كفيلة باختناقهم، لأن هؤلاء الفلسطينيّين لا يتحكمون بزمنهم، بل أبو الخيزران وشرطة الحدود هم المتحكمون، فيكون موتهم ثمن عدم التحكم بزمنهم، ذلك لأن صانع زمانه هو المتحكم بقراره. ولذا يكون حصارهم في الخزان لحظة منعزلة، تختزل القلق المصيري بعد النكبة، الغربة في المنفى، وقلق الأسئلة. وتكون تلك اللحظة سدّاً مرفوعاً بوجه المستقبل – لأنها التحمت حتى الموت مع المكان البديل وتخلت عن المكان الأصيل.
في هذه البنية الزمنيَّة السرديَّة، تلعب الذاكرة دوراً مميَّزاً. فهي تعود إلى الماضي المرتبط بالمكان الأم (أبو قيس وتعلقه بأرضه)، أو بالقضيّة (أسعد ونضاله السياسي). إلا أن هذا التذكر المتعلق بالماضي لا يشكل تواصلاً مع الحاضر عن طريق كشفه إلا للقارئ فحسب؛ في حين أن الشخصيّات تتعرَّض لِمَا يشبه الانفصام في الذاكرة، فيصير الحاضر عندها منسلخاً عن الماضي بدل أن يكون الماضي عبرة للحاضر. إن هذا التناقض بينهما يشكل عائقاً أمام انفتاح الزمن على المستقبل، إنه صراع مميت ينتهي بمحو الحاضر للماضي، فيلغي المستقبل. ولذلك كانت البنية السَّرديَّة لهذه الرواية مقفلة على مستوى الحركة وعلى مستوى الزمن. فالزمن يشكل هنا حلقة دائريَّة مأساويَّة داخلها مفقود لأنه أضاع التوجّه الصحيح. وزمن الهروب هو في النهاية زمن التوهُّم والفراغ.
لقد حاصر الموت «رجال في الشمس» من الداخل والخارج لموقفهم السلبي، ورغبتهم في الفرار، فكان الفرار موتاً أطلَّ عليهم من الشمس الحارقة التي حاصرتهم وهم داخل صهريج المياه في تلك الصحراء الواسعة المكشوفة.
أراد هؤلاء الرجال البحث عن حياة هادئة مطمئنة، منسحبين بذلك من القضيَّة، فكان الفرار موتاً باعهم إليه فلسطيني مثلهم بعد أن خدعهم واستغل حاجتهم الكبيرة وأموالهم القليلة. وقد قبلوا بإرادتهم وبوعيهم وضع المدفونين أحياء، إلى أن يستحيلوا فعلاً إلى جثث ملقاة بالعراء تنتظر مَنْ يدفنها. ومن الصور القاسية أن الذي يسلمهم إلى هذه الميتة الشنعاء فلسطيني مثلهم. وهو في الوقت نفسه شهيد ومجرم، وإنسان فَقَدَ من إنسانيّته بقدر ما فَقَدَ من رجولته. وإلى جانب هؤلاء يعيش فريق آخر من العرب في حجرات مكيّفة الهواء، غافلين عن المأساة الكامنة على مقربة منهم، لأن المدفونين أحياء لا يقرعون جدران الخزان.
أراد غسان كنفاني في روايته هذه تعرية وإدانة واقع اجتماعي، وكانت وسيلته إلى هذا، تلك السلبيَّة الفرديَّة التي تمثّلت في محاولة الخلاص الفردي التي تحرّكها – رغم امتلائها الرمزي – المصالح الشخصيَّة، إلى جانب ما في واقع الفرار من سلبيَّة لا يمكن أن تمثّل موقفاً ثورياً.
وهكذا وضع المؤلف أمام الواقع هذه الحقيقة التي عراها «إن مَنْ يفرُّ بعيداً عن الأرض يجد الموت». كانوا يعتقدون أن الفرار سيجلب لهم الظلّ والاستقرار، فإذا هو يستحضر لهم الموت دون أية فائدة على المستويين الخاص والعام. بعكس الفرار تجاه الأرض والموت على صدرها. وهذا الفرار تجاه الأرض وما يعكسه من إصرار لمناضلين شرفاء يسعون إلى تحقيق معنى الحياة( ).
إن هذه الرواية تحمل في داخلها ذلك التزاوج الفذ بين الواقع والرمز معاً دون أن يؤثر تغييب أحدهما على الرواية عند قراءتها من جانب واحد. فهي ترصد واقعاً مُعاشاً بأحداثه وشخصيَّاته وزمانه وأشيائه، وتظلّ، في الوقت نفسه، قابلة لمنح دلالات رمزيّة لتلك الأحداث والشخصيَّات.
في ذلك تتجلى عبقريَّة الرواية، من إمكانيَّة قراءتها من زاوية واحدة، زاوية الواقعيَّة أو زاوية الرمز، أو من الزاويتين في اندماجهما وتشابكهما معاً. رغم أن غسَّان كنفاني كان يطمح إلى إيصال الجانب الرمزي في الرواية، فيؤكد أنها إذا «… كانت قد عجزت عن نقل هذه الناحية (أي البُعد الرمزي)، فإني أعد نفسي مخفقاً»( ).
مثل هذا الإقرار من قِبَل الكاتب نفسه، يبيح للدارس والناقد البحث عن المعنى الرمزي للرواية ودلالات الأحداث والشخصيَّات والأشياء فيها، والذي يصل أحياناً إلى حدود الإسقاط الذاتي والمغالاة في القراءة الرمزيَّة للرواية.
ويحاول فضل النقيب أن ينفي رمزيَّة الرواية بتأكيده أن سرّها لم يكمن في أن فيها رمزيّة «تلخص القضيَّة كلها، وأن سائق السيَّارة الذي كان مهتمّاً بالمغامرة الجنسيَّة، وهو عاجز جنسياً، يرمز للجيوش العربيّة التي كانت مهتمّة بشهوة الحرب وافتراس إسرائيل وهي عاجزة حربياً. هذه رمزيَّة مبتذلة لا تعجب أحداً. الحقائق التي يعرفها كل الناس لا تثير اهتمامهم عندما تطلّ عليهم من جديد بقناع الرمزيَّة»( ).
وتقرِّر رضوى عاشور أن أبا الخيزران هو «… رمز لقيادة الشعب الفلسطيني التي قصّرت أثناء النكبة وبعدها مباشرةً في الاضطلاع بدورها. وقد تكون الإشارة هنا أيضاً للقيادات العربيّة، الملوك والرؤساء العرب، إبان فترة 1948»( ). لكنها تعود لتؤكد بأن ثراء تلك الشخصيَّة يستعصي على اختزالها إلى مجرَّد إشارة سياسيَّة محدَّدة في معناها. فيتأكد حضور تلك الشخصيَّة بواقعيَّتها التي هي أغنى من كل رمز يمكن إسقاطه عليها أو إقحامه من خلالها.
وتتسع دائرة الاجتهاد لتتسع معها دائرة رؤية الرمز في تفاصيل الرواية: الصهريج، الشمس، الصحراء، الجرذان، الموت. وكلها أشياء قابلة في حدّ ذاتها لتشكيل عناصر رمزيّة تنسجم في مبنى رمزي عام، إذا ما نُظر إلى الرواية من هذه الزاوية.
توظف بنية الرواية لصالح تبيان استحالة أي حلّ يقوم على استبدال المكان الأصيل وموصفة الأهداف خارجه، إشارة إلى أنه يكمن في مجابهة المأزق الناتج عن التشتت خارج الوطن، أي مواجهة العدو لاسترداده.
الإسرائيلي في هذه الرواية لا يعترض الطريق. ليس موجوداً بعد. الشعب الفلسطيني ينهزم دون أن يرى عدوه.
يصوِّر كنفاني، في هذه الرواية، مأساة الفلسطيني بعد اللجوء وما تعرّض له من ضغوط في البلدان المضيفة. كما أنه يصوّر كيف تُذلّ الإنسانيَّة في شخص الفلسطيني المهرَّب في خزان كالجرذ بحثاً عن لقمة عيش ضروريّة. واللافت في شخصيَّات المهرَّبين أن وراء هروب كل منهم مأساة إنسانيَّة وأفواهاً تطالبه بحصَّتها من الحياة؛ وليس كما جاء في تحليل بعض الدّارسين إذ اعتبروا أن الدافع وراء سفر المهرَّبين الثلاثة كان الطمع والتشبُّه بأمثال سعد الذي عاد من الكويت بأكياس النقود( ).
إنها الحاجة الملحَّة لكل فردٍ منهم. فالشخصيَّات الثلاث خسرت مكانتها الاجتماعيَّة ومصدر رزقها مع خسارتها لوطنها، ونجم عن هذه الخسارة وضع جديد كان عليها أن تتعايش معه. فأبو قيس خسر زيتوناته التي كانت مصدر الخير وانتظر عشرة أعوام على أمل العودة إليها. ولما يئس من هذا الانتظار وألحّت عليه الحاجة – فابنه قيس لا يزال بدون مدرسة والصغير الآخر سوف يكبر – فماذا يفعل؟ لذا سيق إلى المغامرة رغماً عنه وقد كانت وجهته الكويت رغم معرفته المسبقة بمدى خطورة الأمر، ولكن وطأة الحياة كانت أشدّ ألماً من تلك الخطورة التي قد تؤدِّي به إلى الموت. ومع ذلك خاطر بحياته لأنه يرى أن الحياة التي يحياها ليست أفضل من الموت.
وأسعد المطارد من السلطات الأردنيَّة ليس أمامه إلا هذا الهروب لأن ما سيلقاه على أيدي هذه السلطات لن يكون أرحم مما هو فيه. وهو رغم ما يتمتع به من صفات جسديَّة متفوِّقة على رفيقيه أبي قيس ومروان وحيازته على مالٍ كافٍ للتهريب، إلا أنه يواجه مشكلة من نوع آخر، إنه لا يملك أوراقاً ثبوتيَّة واسمه معمَّم على نقاط الحدود. فالكويت إذن هي الملجأ الذي يحميه ممّا هو فيه وليس بئر المال الذي يأمل أن يغرف منه ما يشاء( ).
كذلك مروان، الشاب الصغير ابن السادسة عشرة الذي يقوم برحلته تلك لأن أباه وقبله أخاه تخليا عن المسؤوليَّة في إعالة الأسرة المؤلفة من زوجة وأربعة أولاد، فاضطرّ هو إلى ترك المدرسة والغوص في الصحراء أو «المقلاة»، كما كان يسمِّيها، وهو لا يريد المال لترفه الشخصيّ إنما ليرسل «كل قرش يحصِّله إلى أمِّه، سوف يغرقها ويغرق إخوته بالخير حتى يجعل من كوخ الطين جنة إلهيّة ويجعل أباه يأكل أصابعه ندماً»( ).
والثلاثة لا يملكون الأجرة المتعارف عليها للتهريب الرسمي( ) – إذا صحَّ التعبير – لذلك فهم مضطرُّون لقبول شروط مهرِّب هاوٍ يدعى أبا الخيزران ويعيش ثلاثتهم أمل الوصول إلى الكويت لتتحقق أحلامهم المتواضعة بحياة سويّة كغيرهم من الناس. لذلك تحمَّلوا شمس آب المحرقة داخل الخزان الفارغ، لأن المأساة التي يعيشونها أقسى من شمس آب في صحراء قاحلة، وما سيلاقونه على أيدي السلطات العربيَّة – لو كُشِفَ أمرهم – أمرّ على نفوسهم ممَّا يلاقونه داخل الخزان. فالإرهاب الذي تمارسه السلطات على التعساء المهرَّبين كان قاسياً ولربَّما أقسى من الموت خنقاً في خزان، لذلك لم يقرعوا جدران الخزان، لأن الأمل في الخلاص كان يحدوهم حتى الرمق الأخير( ).
حتى سائق الصهريج الذي خلا قلبه من كل مشاعر الإنسانيَّة، والذي يؤمن بحقيقة واحدة هي أن المال يأتي أولاً، ويستغل خزان الماء لأعمال التهريب، ويغرِّر بثلاثة من أبناء وطنه، لم يصل إلى هذا الموقف السلبي من الحياة إلا بعد أن تعرّض لحادثٍ قاسٍ أفقده رجولته. لأنه كان في السابق إنساناً سوياً ينفعل ويتفاعل مع مجتمعه. كان سائقاً ماهراً لم يتورّع عن اللحاق بالمجاهدين عندما قامت الثورة. أما ما أفقده هذا الإحساس الوطني والإنساني، فهو ما تعرّض له من أذى جعله يحقد على كل القيم والمبادئ التي كان يؤمن بها من قبل «… عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أيَّة أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيَّع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتباً لكل شيء في هذا الكون الملعون…»( ).
إن واقع الشخصيَّات الظاهري في هذه الرواية، يجعلها تحمل دلالات إنسانيَّة شاملة تنطبق على كثير من فئات الكادحين في العالم العربي.
تحاول «رجال في الشمس»، قدر الإمكان، التطابق مع مسيرة النضال الفلسطيني في المنفى. فهذا النضال يسير ضمن قطبين متداخلين:
– المثقف الذي يحاول الالتصاق بالجماهير لأنه يخرج منها مباشرة، حياته الخاصَّة جزء من حياتها العامّة. فالمخيَّم والتشرُّد لا يسمحان بحيِّز من الحياة الخاصَّة والثقافة الخاصَّة. إنهما يفرضان التحاماً، حتى ولو كان من طينة الصرخة التي يطلقها «أبو الخيزران»، أي صرخة يريد المؤلف خوضها حتى لا يختنق القارئ. ولا تهبط العلاقة إلى السكوت الكامل.
– وحركة الجماهير التي تندفع في تحول رومانسي سريع. هذا التحوُّل ليس نتيجة حتميّة لواقعها، إنه نتيجة علاقة هذا الواقع بالأيديولوجيا العاجزة عن صياغة أجوبة محكمة لأسئلة طرحتها على نفسها، من خلال آليّة صعود الشعارات القوميّة.
تناول غسان كنفاني، في هذه الرواية، الجانبين، السلبي والإيجابي، وأثرهما في تطوُّر الموقف العربي من قضيَّة فلسطين، فيتطوَّر الواقع الروائي لديه من واقع سلبي يعيشه صاحب الحقّ مسلوباً مضطهداً يائساً من حياته التي أصبحت فقداناً وضياعاً ومواتاً وصفقة للتلاعب، يتطوَّر هذا الواقع الروائي ليصبح واقعاً يتحرَّك بإيجابيّة أبطاله الجدد الذين تخلقهم ظروف مجتمعهم وتصنعهم معاركهم مع الواقع( ). في «رجال في الشمس» تبدأ مسيرة إعادة التحام المناضل بأرضه وقضيَّته عبر مواجهة عدوّه.
كثير من الروائيِّين الذين كتبوا عن حياتهم أجمعوا على أن الروائي هو «الإنسان الذي يعيش في ذاته أكثر من رجل واحد». الروائي يتضامن مع الوضع الإنساني الذي يعيشه بشفافيّة تجعل أبطال هذا الوضع يعيشون في ذاته. هؤلاء «الرجال» المتصارعون داخل الذات الواحدة لا يعطون هذه الذات الحريَّة والسلام إلا عندما تحرّرهم بوسط يعبرون فيه عن أنفسهم بحرِّية، بالرواية.
إذا صدقنا هذا الوصف (وليس هناك وصف آخر) فإنَّ غسان كنفاني يبدو وكأنه الروائي بشكلٍ عكسي. في ذاته يعيش رجال عدَّة، في ذاته رجل واحد لا يعبّر عن تناقضه مع العالم بوسط واحد بل بكل وسط ممكن، بالقصَّة، بالمقالة، بالخبر، بالمظاهرة، بالحزب، بالحبّ، بالكراهية، بالغضب. وعندما يعبّر عن نفسه بوسط ما فكنفاني لا يشعر بالراحة التي يشعرها الفنان، بل على العكس ينتقل لوسط آخر، ولهذا يكتب بغزارة مئة إنسان لأنه إنسان واحد. ويستعمل كل أدوات التعبير لأنه يريد أن يعبِّر عن قضيَّة واحدة، ليتمكن من ذلك لا لأنه يملك إمكانيَّة نادرة، ولكن لأنه يملك حسّ الضرورة التاريخيَّة. لقد تمكن من أن يصبح «فلسطينياً فقط» ولم يتمكنوا من القبض عليه لأنه يدافع عن نفسه بأكثر من طريقة وأسلوب( ).
** ** **
المصادر والمراجع:
(1) سويدان، سامي، «أبحاث في النصّ الروائي العربي»، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الأولى 1986.
(2) عاشور، رضوى، «الطريق إلى الخيمة الأخرى»، بيروت، دار الآداب، حزيران 1977.
(3) عباس، إحسان؛ النقيب، فضل؛ خوري، الياس؛ «غسان كنفاني إنساناً وأديباً ومناضلاً»، الاتحاد العام للكتاب والصحفيِّين الفلسطينيِّين، منشورات الاتحاد (4)، تموز 1974.
(4) عباس، إحسان، «المبنى الرمزي في قصص غسان»، مقدمة الجزء الأول من الآثار الكاملة لغسان كنفاني.
(5) كنفاني، غسَّان، «رجال في الشَّمس»، الآثار الكاملة، المجلد الأول، الروايات، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، تشرين الثاني، 1972.
(6) وادي، فاروق، «ثلاث علامات في الرواية الفلسطينيَّة: غسان كنفاني، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا»، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، دائرة الإعلام والثقافة، منظمة التحرير الفلسطينيَّة، الطبعة الأولى 1981.
(7) الورقي، السعيد، «اتجاهات الرواية العربيَّة المعاصرة»، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، الطبعة الأولى، 1982.
** ** **
الدوريات:
(1) خليفة، أحمد، «القضيَّة الفلسطينيَّة في أدب غسان كنفاني»، مجلة «شؤون فلسطينية»، عدد 13، 1972.
(2) خوري، الياس، «رجل تحت الشمس يُدعى غسان كنفاني.. الموت واعتباره كاتباً خفيَّاً»، مجلة «فكر»، ملحق العدد 113، إعداد وتحرير أوس داوود يعقوب، 7 آذار 2011.
(3) النقيب، فضل، «عالم غسان كنفاني»، مجلة «شؤون فلسطينيّة»، العدد 13، أيلول 1972.