أ. د. عبد المجيد زراقط
زمن التخلِّي والتحلِّي
مَسْخُ الثقافة
مرَّت آونة في بيروت كان الناطق فيها بصوت مقاوم يمثِّل، من منظور أرباب ثقافة البترو – دولار، مرحلة منقرضة، مرحلة ما قبل “التحضُّر” الذي يقوده “زيوس” العصر الجديد = العالم الجديد، ووكيله في الوطن العربي المبشِّر بـ”شرق أوسطيَّة” تلغي ذاتاً وتجعلها منقرضة.
وفي الوقت نفسه، لشدِّ ما تباهى هؤلاء “الأرباب” بقبول الآخر، وهم الذين أرادوا التخلِّي عن الذَّات ليقبلهم الآخر، ولكن أي آخر؟ إن شرط أي كائن ليكون الآخر، ألاَّ يلغيك، ألاَّ يأخذ مكانك ومساحتك، ألا يغتصب وطنك.
نقول لهؤلاء: فليتحقَّق هذا الشرط، وليبدأ الحوار الحضاريّ مع آخر لا يأخذ مكانك، ويلغيك، هو ذا شرط الحوار الأساس بين متحاورين لا يلغي أحدهم الآخر ولا يصادر وجوده.
كان أناس، وبعضهم من ذوي النضال التليد، يسخر من هذا الخطاب، ويقول: ذاك ماضٍ مضى، وآن أن ننظر إلى غدٍ، لكن هؤلاء نسوا حقيقة مفادها أن ليس من غدٍ من دون اليوم والأمس، ليس من غدٍ مبتورٍ من الزَّمن.
في تلك الآونة، طلع علينا صحفيُّ يقول في تعليقه على إحدى المجموعات الشعريَّة الصادرة في حينه: لا يزال معجم هذه المجموعة الشعريَّة يتضمَّن مفردات تنتمي إلى مرحلةٍ بادت، مثل: التراب الوطن والدَّم، والقدس… ويقرِّر بلغة الكاهن في معبد “العالم الجديد”: آن أوان التخلِّي، والتحلِّي…
التخلِّي عن الجلد وتغييره، وعن الوجد وتبديله، والتحلِّي بمال “قارون” العصر ونعمه، وما أدراك ما مال “قارون” العصر، قارون هذا يقبل فيمسخ الثقافة، ويحيلها ظلّ آخر غازٍ وصداه، ويحلو التحلِّي بهذا المال، والرقص بسلاسل التكسُّب.
الطَّريف في الأمر أنَّ الصحفيَّ هذا يكتب في صحيفة تعدُّ افتتاحيات رئيس تحريرها، إن قيست بمقاييس الصحفي هذا، كتابات تمثِّل مرحلة منقرضة، هذه ديمقراطية أم ماذا؟ أم مفارقة تكشف أمرين: أولهما خلوُّ المشروع/الثقافي الصحفي من رؤية متماسكة منتمية إلى الذَّات وهويتها وقضاياها، وهكذا تكون الكتابات إمَّا مظهراً برَّاقاً يستهلك المشاعر أو استجابة لموجة تعقب موجة… وكفى الله المحرِّرين سرَّ النضال، وثانيهما، ولعلَّه الأخطر، لأنَّه مظهر من مظاهر ظاهرة شاملة، وهو ازدواجيَّة المشروع الثقافي وانفصامه، وانفصاله عن واقعه، وخلوِّه من مساءلة هذا الواقع ومحاولة الإجابة عن أسئلته وإدارة حوار في هذا الشَّأن. إنَّ خلوّ المشروع الثقافي من الرؤية المتماسكة المنبثقة من الواقع المعيش والازدواج/الانفصام يفضي إلى العجز عن الانتاج، إلى العقم، ومن كان عقيماً ينقرض.
قد تبدو هذه المفارقة غريبة، ولكنَّها ليست كذلك، لأنَّنا نعيش واقعاً الغريب فيه ألاَّ ترى عجائب وغرائب تدهش وتحزن في آن. ومنها أن تجد الشيء ونقيضه في مكانٍ واحد، وكلاهما يُمَوَّه ويسوِّغ، وزلاقة اللِّسان ما عادت مشكلة، ولعلَّها لم تكن مشكلة، منذ كان “الناس عبيد الدنيا، والدِّين لعق على ألسنتهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الدَّيانون”.
لعلَّ هذا التناقض المموَّه بلعق الألسنة هو ما يميِّز واقعنا الذي نعيش، وقد يكون تصوير هذا الواقع بلغةٍ أدبيَّةٍ أدباً مقاوماً لأنَّه يكشف واقعاً معيشاً، ويرينا علاقاته، ويضيء خفاياه، بغية رؤية حقيقة مظاهره وجوهرها، فيضيف إلى رصيد الوعي العام إحساساتٍ جماليَّة، ومشاعر انسانيَّة، وبتعبير آخر: إضافات أدبيَّة.
التكسُّب الثقافي الحديث
ليس التكسُّب جديداً في حياتنا الثقافيَّة، فقديماً قال شاعره: “أشعر النَّاس هذا إذا طمع”، وأشار إلى لسانه، وقال آخر: الدنيا مطلوبة، وهي أيدي بني فلان: السلطان ونحن إنَّما نكون مع من تكون الدنيا معه… والدُّنيا هنا تعني السُّلطان وماله، وقديماً ارتهن الشعر والأدب لمن واتته الدنيا بحظِّها، وتعطل الابداع واقتصر، في شعر البلاط، الشِّعر الرسمي، على صياغة معان، صياغة بيانات سياسية وتجويد صياغتها، واقتصر النقد التابع على دراسة العبارة وتوليد تلك المعاني…
المشكلة، اليوم، هي أنَّنا نجد مكتسِّبين يسعون إلى خدمة أسياد العالم الجديد، مالكيّ دنيا اليوم، أرباب الأسواق الثقافية، ولكنَّهم لا يقرُّون بذلك إقرار ذلك الشاعر الذي كان يعي ما يفعله ويمقته… ولهذا قال لعمر بن أبي ربيعة: هذا الذي كانت تدور عليه الشعراء، فأخطأته ووقعت عليه أنت…
المشكلة، اليوم، هي أنَّ مثقفي التكسُّب والهرولة يطلُّون من علٍ، ويلوكون تنظيرات عن خصائص المرحلة الجديدة وحداثتها وينعتون الآخرين بالتخلُّف… والمرحلة الجديدة التي يبشِّرون بها ليست سوى مرحلة ترمي إلى إلغاء خصوصيات الشعوب من أجل بناء محميَّة شرق أوسطية تؤمِّن تحقُّق المشروع القديم الجديد بأسهل السبل.
وهنا، يُطرح السؤال: ما هو المشروع القديم الجديد؟
المشروع الغربي الاستعماري
عندما دقَّت مدافع نابليون بونابرت أبواب القاهرة تفتَّحت عيون العرب على مشهد شكَّل بداية عصر لا تزال فصوله تتالى إلى أيامنا… وقد يكون العنصر الأساس/المهيمن في هذا المشهد قدوم الغرب إلينا، أو اقتحامه حياتنا بوجهيه: الأوَّل الاستعمار الغازي، الباحث عن أسواق وموادَّ أوليَّة، والساعي إلى تحقيق ذلك بمختلف الوسائل، والثاني المالك منجزات حضارية يريد للمجتمعات التي يغزوها أن تستهلكها لا أن تمتلك القدرة على إنتاجها، ولهذا عمد إلى تشكيل كيانات تعجز بناها المجتمعية عن التماسك والانتاج، ويسمح تفسُّخها بقبول مظاهر تحديث يوردها إليها. ولهذا يعمد إلى القضاء على أي محاولة تنمية ومقاومة لمشروعه، وفي تاريخنا، منذ بدء غزوه حتى اليوم، من الوقائع المعروفة، ما يؤكِّد ما نذهب إليه.
في سبيل تحقيق هذا المشروع العام، كان الكيان الصهيونيّ، وكان سعيه الدائم إلى إثارة صراعات وإدارتها، وهدفها الأساس حراسة البنى المجتمعية المتفسِّخة، لتبقى مزارع وأسواقاً تستهلك ولا تنتج إلا ما يحتاجه هو لاستمرار تقدُّم مجتمعاته وزيادة رفاهها، بما في ذلك حاجته إلى النُّخب البشريَّة المتفوِّقة التي يختارها ويأخذها، ويوفر لها، بعد “التخلِّي” “التحلِّي”، أي بعد أن تتخلَّى عن ذواتها وانتمائها شروط عيش مرفَّه، أو شروط عيش “منعَّم” لا تجده في بلادها.
وقد لفتني، في دراسة أجريتها للروايات الصادرة في لبنان في حقبة الحرب اللبنانية (1972 – 1992)، أنَّ الشخصيَّات تبحث عن مساحة فعلٍ تحقِّق فيها ذاتها، عن مكان تحقُّق ولا تجده، ويكون الشرط الأساس لتوفُّر هذا المكان أن تتخلَّى عن هويتها، عن انتمائها وفاعليَّتها، أن تصبح مخصيَّة من دون فاعليَّة، وبوقاً للسلطان المتحكِّم أياً تكن طبيعته:؛ اجتماعي، ديني، سياسي…
الإشكاليَّة الأساس والحداثة المزعومة
إنَّ الإشكاليَّة، في تقديري، على المستوى الثقافي، لا تتمثَّل في ما يسمَّى التطبيع، وإنَّما في التخلِّي عن الوجود الفاعل، أو في الانفصام القائم بين الواقع المعيش بهمومه وأسئلته وبين الإنتاج الأدبيِّ، أو في فَقْد المكان/مساحة الفعل للمواطن الساعي إلى تحقيق ذاته وإنتاج ما يمثِّل هويته…
إنَّ هذا يسمح بالحديث عن اندراج الانتاج الثقافي الأدبي السائد في سياق ظاهرة استهلاك نماذج الآخر من طريق الانبهار بها واحتذائها، وتقديم كتابات منفصلة من نحوٍ أوَّل عن مصدر الانتاج/الابداع، وهو التجربة الشخصيَّة الحياتيَّة الحديثة، ومن نحوٍ ثانٍ عن ساحة التلقِّي، المتمثِّلة بالقارئ الذي لا يجد في هذه الكتابات ما يمثِّله.
يقدَّم هذا النمط من الكتابات بوصفه حداثة، أو ما بعد حداثة، مزعومة، ويسوَّغ بتضليل غريب، والفرق بينه وبين الكتابات التي يصح أن تسمى حديثة هو الفرق بين نوعين من الكتابة: أوَّلهما كتابات تزعم حداثة، وهي في الحقيقة تستهلك الوافد، وتتخلَّى عن الذَّات المنتمية إلى هويتها، وتقدِّمه مضلِّلة بوصفه إبداع المجتمع الحديث، وثانيهما إبداع يجسِّد الرؤية المنبثقة من معاناة مجريات العيش اليومي، وطبيعي أنَّ تكون هذه الرؤية جديداً وشكل تجسدها جديداً أيضاً. فالكتابات الأولى تفتقر إلى الوجود الفاعل والخصائص المميزة والرؤية الكاشفة، أي تصبُّ في مجرى المشروع الغربي العام، والكتابات الثانية تمتلك الحضور المنبثق من واقعها الرائي إليه كاشفاً أسئلته مستشرفاً الإجابة عنها، فيمتلك بذلك خصائصه، فاعليَّة جمالية دلالية مميزة هويته. ومن أسف أنَّ الكتابات الأولى هي التي تسود حياتنا الثقافية، فأصحابها يتحكمون بالمنابر الثقافية، موظِّفين قدراتهم في خدمة المشروع العام: نشراً وتقويماً، وشنِّ حملات منظمة ضدَّ الخارجين على السياق الذي يقتضيه نجاح ذلك المشروع الناظم جهودهم.
إنَّ الإشكاليَّة، في تقديري، تتمثَّل في ما يمكن تسميته بـ”التخلِّي” عن قضايا الذَّات، وتزييفها، وهو تخلٍّ عن الانتاج/الابداع الفاعل في تشكيل الوجدان الوطني، إنَّ التخلِّي يفقد الأدب وظيفته حاضراً ومستقبلاً، ويعطِّل دوره في تكوين الثقافة الوطنية وهوية المواطن، وهذا هو مدخل ما يسمَّى “التطبيع” الهادف إلى إلغاء خصوصيات الشعوب ونظمها في خدمة مشروعه.
ما العمل إذاً؟
علينا أن نعمل من أجل أن نجد مكاننا، مساحة فعلنا ما يتيح لنا أن ننتج بحريَّة، وحسبنا أن نرى، أن يكون لدينا… نور كما تقول الأسطورة.
تقول الأسطورة:
أمس ضاعت نعجتي، من يفتش لي عن نعجتي الضائعة؟ ذهبت إلى نجمة الصباح فأجابتني: أنا مضطرة إلى أن أفتح الباب للشمس، وذهبت إلى نجمة المساء، فقالت لي: أنا مضطرة إلى أن أغلق الباب وراء الشمس، وقصدت الشمس أخيراً، فقالت لي:
– فتشي وحدك، وحسبي أن أعطيك النور!
مفهوم الأدب المقاوم
علينا إذاً أن نفتِّش وحدنا في واقعنا…، أن نعيشه بوصفنا أصحاب مواهب، أن نتمثَّله بوصفنا قادرين على ذلك، وأن نمثِّله بوصفنا ممتلكي القدرة وحيِّز الفاعليَّة…
قد نكون على مقربةٍ من تحديد مفهوم الأدب المقاوم. ومقاربة مثل هذا المفهوم بسيطة جدَّاً. فالأدبُ، في أبسط تعريفاته، لغةٌ فنيَّة تجسِّد تجربة إنسانيَّة فريدة. وهذه التَّجربة، أيَّاً تكن طبيعتها، تؤتي أدباً مقاوماً إن كان صاحبها صادقاً وقادراً على تجسيدها في لغةٍ فنيَّة تنتمي إلى الإنسان المعاني. وذلك لأنَّ تجسيدها يضيف إلى قدرة هذا الإنسان ما يمكِّنه من وعيها والسَّيطرة عليها، وهذا ما ينقله للمتلقِّي. وقد تكون هذه المهمَّة وظيفة الأدب الأساس، وهو بها يكتسب صفة الأدب المقاوم لكلِّ ما في الواقع من معوِّقات لصيرورة الإنسان سيِّد واقعه.
ولعلَّه من الأهم، في ميدان الكتابة، أن يتمكَّن الأديب من صياغة رؤيته إلى العالم بلغةٍ تمكِّنه من فهمه والسَّيطرة عليه. تدخل، في هذا المجال، القدرة على إيصال هذه الرُّؤية للمتلقِّي، فيحقِّق النشاط الجماليَّ، بهذا، وظيفته، وإن حدث عجز في إحدى المهمتين فقد الأدب في الأولى حركة تجدُّده، وفقد في الثَّانية حركة صيرورته قوَّة فاعلة، والنجاح في المهمتين يعني نجاحاً في الانبثاق من الواقع، وفعلاً في سبيل إعادة تشكيله.
التجربة التي يريد الأديب أن يصوغها ليست تجربة آخر يستوردها كما نستورد الانجازات الحضاريَّة الأخرى. إنَّها ما يعيشه، أو إنَّها وجده الشخصيُّ والاجتماعي/العام في آن. ولا يمكن لشخصٍ احتُلَّت أرضه وطُرد منها إلاَّ أن يعيش هذه التَّجربة إن كان صادقاً، وإلاَّ أن يكتبها، فكيف يريد منَّا بعضهم أن نتخلَّى عن ذواتنا بحجَّة أنَّ المرحلة تغيَّرت، فماذا تغيَّر؟ أطردنا الاحتلال أم أنَّ قوى خارجيَّة تريد تغيير سبل التعامل معه؟ فإن تكن المرحلة تغيَّرت؟ بمعنى أنَّ قوى خارجيَّة تريد تغيير سبل التعامل مع العدو المحتل أرضنا، فهو تغيُّر حدث بفعل قوىً خارجيَّة تريد للنشاط العام، ومنه الأدب، أن ينخرط في سياقٍ آخر تمليه مصالحها، فهل يكون عدم الاستجابة لها صدقاً مع هموم المرحلة ونشاطاً مقاوماً أكثر حدَّةً؟
قد نفهم أن يتمَّ التخلِّي عن الذَّات في أيِّ ميدان إلى حين تكوُّن القدرة على تحقيق انجازات في هذا الميدان أو ذاك، ولكنَّنا لا نفهم التخلِّي عنها في ميدان الثقافة بعامَّة، والأدب منها بخاصَّة، إذ من دون الوجد الشخصي والعام لا يمكن أن يكون أدبٌ إنسانيُّ أصيل.
والسؤال الذي يُطرح الآن هو: أليس من أدبٍ مقاوم؟ ما مفهومه ودوره؟
يُراد لنا أن نكون مستهلكين على مختلف الصُّعد، وأن يكون وجودنا فاقداً فاعلية الإنتاج… ومن ثمَّ فاقداً وجوده الفاعل وخصوصيَّته… المقاومة، على مختلف المستويات، تتمثَّل في رفض هذا المشروع وإيجاد المشروع البديل وتحقيقه. على المستوى الأدبي، أيُّ أدب يجسِّد التجربة الحياتية الشخصيَّة هو أدب مقاوم بالمعنى العام، ومن هذه التجربة الحياتية تجربة المقاومة العسكرية – المسلحة فالأدب الذي يمثِّلها هو أدب مقاوم.
ثمَّ هل شكَّلت نماذج الأدب المقاوم اتجاهاً وحضوراً فاعلاً في الحياة العربيَّة؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بنعم أو لا، وإنَّما بشرحٍ قد يطول:
1- الأدب المقاوم، بالمعنى العام الذي ذكرته، أي الأدب الذي يجسِّد رؤية الأديب إلى العالم بلغة جميلة تمكِّنه من فهمه والسيطرة عليه، وتصل إلى المتلقي كاشفة ممتعة… متوافر في الأدب العربي، لكن ما يحول بينه وبين المتلقي أسباب منها: 1- تقصير النَّقد 2- عدم الإقبال على القراءة إمَّا بسبب استهلاك التلفزة ووسائل الإيصال الحديثة للوقت والمال، أو بسبب عدم وجود الوقت والمال، 3- فقد الأدب لكثير من وظائفه القديمة ومنها: الإعلام التحريض.
2- الأدب المقاوم بالمعنى الخاص/المقاومة المسلَّحة/التحرير. الواقع أنَّ ليس من إنتاج إبداعي يمثِّل هذه المقاومة، يوجد إنتاج لكنَّه محدود. الأسباب أيضاً كثيرة، منها: 1- أنَّ التحرير – المقاومة أتى في زمن الهزائم، في زمن انصرف فيه كثيرون إلى التوظُّف في خدمة مشروع “زيوس العالم الجديد” 2 – حدث تحوُّل في تاريخ المقاومة، إذ تغيَّرت طبيعة المشروع التحرري من مشروع وطني – قومي – اشتراكي إلى مشروع إسلامي لم يبلور بعد صيغه الأدبيَّة، ومعظم أدباء المرحلة السابقة إمَّا سكتوا، أو انضمُّوا إلى الركب السَّائد، وصاروا موظَّفين في خدمة الأنظمة.
3- في هذا المنعطف التاريخي، لم يتبلور مشروع ثقافي متماسك… أو إنَّ المشروع الثقافي يخلو من الرؤية المتماسكة المنبثقة من الواقع المعيش… علاوة على أنَّ هذا المشروع غير المتبلور لم يتمكَّن دعاته من التوحُّد، ولم يتمكَّن كثيرون من الاتصال بمعرفة العالم المعاصر وبالواقع المعيش… هذا كله أفضى إلى العجز عن إنتاج الإبداع… والخطر الكبير أن يؤدِّي هذا العجز إلى العقم، ومن كان عقيماً ينقرض…، لا بدَّ إذاً من بلورة مشروع ثقافي وتوفير سبل نجاحه، هذه مهمَّة مقاومة.
مشكلة الإبداع العربي
وفي تقديرنا، أنَّ مشكلة الإبداع العربيُّ تتمثَّل في هذا التخلِّي الذي يُراد منه التخلِّي عن قضايا الذَّات حاضراً، وتزييفها مستقبلاً في ما ننتجه من أدبٍ يراد له أن يكون استهلاكيَّاً يحتذي نماذج الآخر، ويفقد الأدب وظيفته حاضراً ومستقبلاً؛ إذ إنَّ الأدب يسهم في تكوين الثقافة الوطنيَّة وهويَّة الإنسان.
إنَّ المشكلة الكبرى تتمثَّل في ما يدعو إليه بعضهم من تخلٍّ عن الذَّات مفتعلين انفصاماً عن قضايا واقعهم. قد نجد تفسيراً لذلك في هذا الكمِّ الهائل من الهزائم والخيبات الذي راكمناه؛ وهو ما يدفع بعضهم إلى التَّبرُّؤ من سيرورة أدَّت إلى ذلك. ولكنَّ هذا التبرُّؤ لا يحلُّ المشكلة وإنَّما يزيدها تعقيداً، فما كان التَّبرؤ من خيبات الماضي وقساوة الواقع حلاًّ، لأنَّه، في كلِّ الحالات، فَقْدٌ لا يعوِّض عنه الهربُ إلى آخر، مهما كانت إنجازاته برَّاقة.
ولعلَّ الخطأ الأساس يكمن هنا، أي في التَّبعيَّة على مختلف الصُّعد، وأخطرها التَّبعيَّة الأدبيَّة. ونجد، في هذه المرحلة من تاريخنا، تبعيِّين جدداً أرهقتهم الخيبات والهزائم، فراحوا يفتعلون انفصاماً يظنُّونه ميزة حداثة، وهو بعيد كل البعد عن الحداثة الحقيقيَّة. إنَّهم يضعون إنجازات الغرب نماذج يحاولون النَّسج على منوالها، ويستخدمون مقاييسها معايير يميزون بها الجيِّد من الرديء. والحداثة الحقيقية شيء آخر تماماً. إنَّها تتمثَّل كما يبدو لنا في الحركة الآتية:
الحداثة الحقيقيَّة
الحياتيُّ يتحوَّل، في الحياتيِّ: التراث الوطني، أو الجذور، والتُّراث الانسانيّ والحاضر واستشراف المستقبل. يُحدث التحوُّل الحياتي، وهو وليد العناصر سالفة الذِّكر، وجداً لدى الأديب القادر على الرُّؤية إليها رؤية فريدة. ويتجسَّد هذا الوجد نصَّاً جديداً لدى الأديب القادر على صوغ تجربته لغةً فنيَّة ترى وتكشف.
ويظلُّ التحوُّل الحياتيُّ يحدث تحوُّلاً أدبياً ما دام الأديب قادراً على الوجد بواقعه وعلى صياغة هذا الوجد لغةً فنيَّة. وتتوقف هذه العمليَّة إن تعطَّلت إحدى القدرتين.
في هذه العمليَّة، يتمثَّل معنى الحداثة الحقيقيَّة المُحْدَثة بفعل دفق الحياة الذي يدخل ما يُطلق عليه اسم الأصالة في تكوينه. وهذا يعني أنَّ المُحْدَث ينبغي أن يكون خاصَّاً، وليس مُختاراً من آخر، أيَّاً يكن مستوى تطوُّره الحضاري، لأنَّ الاختيار يعطِّل الوجد بالواقع وصوغه، فإحساسنا بأنَّ إنجاز الآخر هو مقياس الحداثة لا يلغي كونه نتاج الآخر، وليس نتاج الأنا المبدعة هويتها.
الأدب المقاوم والتعامل مع إنجازات الغرب
ليس من شكٍّ في أنَّ الغرب حقَّق إنجازاتٍ أدبيَّة مهمَّة، ولكنَّها انجازات آخر لا أعاديها، وإنَّما أتعامل معها بجدِّيَّة وفهم وتمثُّل، ولكنِّي لا أحتذيها، ولا آخذها مقياساً؛ إذ عليَّ أن أبدع ما يجسِّد تجربتي وما يفصح عن رؤيتي، ما يكشف خيبتي وهزيمتي، إن حدثتا، لا أن أتبرَّأ منهما. عليَّ أن أرصد الواقع وأن أراه وأريه.
وهذا ما يوصلنا إلى الحداثة الحقيقيَّة، وهي الإبداع الأدبيُّ الذي يجسِّد التحوُّل الحياتيّ عندنا، أيَّاً تكن طبيعته: هزائم أم انتصارات، وطالما أنَّ التحوُّل الحياتيَّ دائم، وفريد لدى كلِّ مجتمع وفي كلِّ مرحلة، يجب أن يكون الإبداع الذي يجسِّده منبثقاً منه ورائياً إليه وفاعلاً فيه، في علاقةٍ جدليَّة تعيد إنتاج أدب جديد ينبثق من الجديد الذي أسهم الأدب في صنعه. وهذا الجديد لا بدَّ من أن يتميَّز بفرادتنا لا بفرادة الآخر، وإن لم يحدث هذا توقَّف إنتاج الجديد الحقيقي، وتمَّ صدور المزيَّف المنفصل عن واقعه والتَّابع لنتاج آخر.
المحور المركزي في حياتنا وأدبنا
إنِّي أعيش حياةً محورها المركزي معاناة احتلال وطني، فكيف تكون كتابتي عن هذه الحياة بعيدةً عن المرحلة، أو عن الحداثة، إنَّ هذا فهم مشوَّه، ويفتعل انفصاماً، إن لم أقل إنَّه مشبوه يصبُّ في خانة التنكُّر للذَّات الوطنيَّة والشخصيَّة في أخصِّ قضاياها. ولعلَّه يندرج في إطار السياسة العامَّة، أي للنَّهج السَّائد على مختلف الأصعدة التي تريد لهذا التنكُّر أن يعم، فإن يكن هذا هو المقصود بالمرحلة الجديدة، وبالحداثة الثانية، يكن الأدب الحقيقي، خارجهما فعلاً. وليس من شكٍّ في أن الأدب الذي ينتمي إلى هذه المرحلة يحقِّق فقد الهويَّة؛ إذ أيُّ معنى لأدب نريد أن نقرئه لأبنائنا وأن نبقيه لأحفادنا، وفي تاريخنا، يتنكَّر لهويتنا وقضاياها؟
دلالة العداء للأدب المقاوم
في هذا الإطار من الفهم، نفهم العداء للأدب المقاوم، ونصنِّف الحملة عليه في إطار سياسة عامَّة هدفها إفقادنا الهويَّة في أهم مكوِّناتها، وهو الوجد بهموم مرحلةٍ نراها من أهمِّ مراحل تاريخنا الحديث.
نحن لا نفهم الأدب المقاوم، كما أسلفنا، صراخاً وخطابة وحماسة جوفاء، وإنَّما نفهمه لغةً فنيَّة تجسِّد تجربتنا في مقاومة كلِّ ما يسيء للانسان، هذا الانسان الذي يجب أن يتمتَّع بكلِّ حقوقه التي تحفظ حياته وكرامته وحرِّيته وتقدُّمه، وسيره إلى أرقى مراتب الإنسانيَّة. ونحن نفهم الأدب المقاوم بعيداً عن الإلزام، ونفهمه نصَّاً وليد عيش التجربة الحياتيَّة.
الأديب الرَّافض للالتزام بكلِّ معانيه، أيَّاً يكن عشقه للجمال الأدبيِّ المجرِّد، هذا إن وُجد جمالٌ أدبيٌّ مجرَّد، لا يمكن أن يكون نحَّاتاً للجمال كما الآلة. إنَّ الأديب، أيَّاً يكن بعده عن التَّعامل مع قضايا السياسة والاجتماع، لا يمكن إلاَّ أن يلوِّن العالم برؤيته، فإن تخلَّى عن ذاته واحتذى إنجازات الآخر تكن رؤيته تابعةً، وإنتاجه إعادة إنتاج ممسوخ لا يحقِّق سوى الاستهلاك الذي لا يلبِّي حاجةً، وإنَّما يبقي الذَّات عقيمة تلاعب أبناء الآخرين ولا تربِّي أبناءها… الأديب الحقيقي لا بدَّ من أن يكشف العالم من خلال مرآته السِّحريَّة الشخصيَّة، سواء أتمَّ ذلك بوعي أم بلا وعي، ونصيحتنا المخلصة ألاَّ يتخلَّى أدباؤنا عن ذواتهم وإلاَّ تخلُّوا عن كلِّ ما يخصُّهم.
عندما تكون الحياة الشخصيَّة المعيشة، أي خبرة الأنا الحياتيَّة، مرجع الإبداع، لا يمكن لأحد أن يقول: هذا سياسيّ وهذا اجتماعيّ، أو هذا وليد مرحلةٍ مضت. الحياة المعيشة هي التي تحدِّد، ومن يكن خارجها يكن ابن مرحلةٍ تقبع خارج تاريخها، وفي سياق تبعيّ. وهذا ما يجعلنا نرفض كل من يدعو إلى التنكُّر لواقعنا المعيش وقضاياه، إذ علينا أن نحياه ونرصده ونكشفه، ونبلور أسئلته، ونجيب عنها إن استطعنا، وإلاَّ لكفانا فضلُ طرح الأسئلة والحثِّ على الإجابة عنها. هذا هو دور الأدب، وينبغي أن يتمَّ التزاماً ذاتيَّاً وبلغةٍ فنِّيَّةٍ.
الأديب الحقيقيّ لا يفعل هذا انطلاقاً من عاملٍ إراديٍّ، وذلك لأنَّ العامل الإراديّ هو أحد العوامل المكوِّنة للتجربة الأدبيَّة، ويقيناً هو ليس أهمّها، إذ إنَّ هناك الموهبة والثَّقافة والمهارة والتفاعل مع الحياة والتراثين: الوطني والإنساني والقدرة على تجسيد التجربة والقدرة على إيصالها الخ…
هذه العوامل جميعها أهم من العامل الإرادي، وعندما يسقط الأدب أسير العامل الإرادي يفقد مزيَّة الإبداع الأدبي.
لهذا السقوط مظهران هما: 1-الاختيار والاختبار، أي اختيار نماذج يُعتقد بأنَّها مقياس الحداثة والنسج على منوالها، 2- الانصياع إلى إلزام، إذ إنَّه لا يكفي لشخصٍ ما أن يريد كتابة نصٍّ أدبي مقاوم ليبدع نصَّاً أدبيَّاً، هناك كما قلنا عوامل أخرى. وهذه العوامل جميعها أهم من العامل الإرادي المجرَّد. فكثيراً ما يريد الإنسان وكثيراً ما تعوزه الإمكانات، وبخاصَّة على صعيدٍ يؤدِّي العامل اللإرادي فيه الدَّور الأهمّ.
الأدب الحقيقي/مقاومٌ من حيث طبيعه
من هنا قولنا: إنَّ الأدب الحقيقيّ مقاوم من حيث طبيعته، ولدينا من الأمثلة ما يكفي للقول: إنَّ الأدب الصَّادق يكون ابن المرحلة ودافع تطوُّرها إلى الأفضل من خلال كشفها. وقد تأتي دلالة الأدب على نقيض موقف صاحبها. وأصدق مثالٍ على ذلك بلزاك الذي كان ملكيَّاً، ولكنَّ كتاباته كانت في صالح الثَّورة والتَّغيير.
نستطيع أن نقدِّم مثالاً آخر نأخذه من تاريخنا الأدبيِّ الحديث، ذلك هو إميل حبيبي، الكاتب الفلسطيني المعروف الذي تسلَّم في السابع من أيَّار “جائزة إسرائيل للإبداع الأدبي” عن مجمل أعماله الأدبيَّة؛ وذلك خلال حفلٍ رسميّ أقيم في القدس بمناسبة مرور أربعة وأربعين عاماً على إنشاء الكيان الاستيطاني في فلسطين “إسرائيل”.
يندرج إعطاء الجائزة وقبولها في سياق سياسة إسرائيل الرَّامية إلى إلغاء الوطنيَّة الفلسطينيَّة وقوميَّة أبنائها العربيَّة. وتعني أنَّ حبيبي الذي تسلَّم من قبل جائزة منظمة التحرير الفلسطينيَّة للإبداع الأدبي، ينتمي إلى كيان بديل من الوطن الفلسطينيّ، وكأنَّ هذه الجائزة تريد أن تذكِّرنا بما دعا إليه ذلك الصحفيِّ من التخلِّي عن لغة تلك المرحلة التي رأى أنَّها مضت، نتذكَّر ونقارن فحسب، ويعني إعطاء الجائزة أيضاً أنَّ هذا الكيان لا يمارس التَّمييز العنصري بين عرب ويهود، فكلاهما أبناؤه، وها هو يعطي أحد المبدعين العرب جائزة الإبداع.
ما تسعى جائزة الإبداع إلى تحقيقه، يدور في شأنه صراع، ولمَّا تنتهِ بعد مرحلة هذا الصَّراع، على خلاف ما يزعم بعضهم، وأعمال حبيبي وبخاصَّة العمل الأخير منها: “سرايا بنت الغول” تؤكِّد هذا، وتقف إلى جانب الطَّرف العربي الفلسطيني فيه.
إنَّ الكاتب يؤكِّد من خلال عمله الأخير: شكلاً ومضموناً – ونصنِّفه خرافيَّة فلسطينيَّة عربيَّة – أنَّه لا تقرُّ عين الكرمل، ولا تقرُّ عين البحر ولا تقرُّ عين سرايا، ولا يقرُّ قصرٌ فيه سرايا بنت الغول إلاَّ بعد أن يتمَّ تخليص سرايا = فلسطين من الغول = الكيان الاستيطاني.
تقول الخرافيَّة التي تستمدُّ شكلها من التراث العربيِّ وتتفرَّد بصياغة منبثقة من الواقع، من حيث مختلف عناصرها، هذه الحقيقة وإن كان الموقف السياسي المتمثِّل بقبول الجائزة وتسلُّمها يدخل في إطار العمل من أجل استقرار تلك العيون وذلك القصر، وهنا تتمثَّل المفارقة، فوجد الكاتب الذي تمثل خرافيَّة رافضة ثائرة، سوى موقفه الذي تمثَّل قبولاً وتسليماً…
إنَّ سرايا – كما يقول حبيبي في عمله الأدبيِّ – لن تبقى ابنة الغول، لأنَّ الحبيب قادم وسرايا تطيل “جديلتها” له. ونميل إلى تصديق ما يقوله الإبداع الأدبيِّ أكثر من ميلنا إلى تصديق حفلٍ رسميٍّ رُتِّب في كواليس بعيدة كل البعد عن الإبداعين: الحياتي والأدبيّ، بدليل أنَّ الكاتب يقول: “لو أهمل غيري سراياه كما أهملت سراياي، هل يبقى على هذا الكون سوى الذِّئاب والضِّباع؟”، ويقول إنَّه يرى ابنة فرعون تردُّ الطفل إلى أيدي كلِّ الأمَّهات سوى أمِّه.
وإن تكن ابنة فرعون هي صاحبة القرار في السياسة العالميَّة، فإن الأمَّهات اللواتي يأخذن الطِّفل لسن سوى ذلك الخليط من يهود العالم، وهؤلاء لا شأن لهنَّ بالطِّفل، ولهذا يسأل حبيبي: أين هي الأمّ؟ أين دورها؟ هل تكتفي بالمراقبة وإشاحة الوجه، وكأنَّها لا ترى ما يحدث؟
يطرح حبيبي أسئلة واقعه، ويكشف أنَّ سرايا تطيل “جديلتها” في قصر الغول. وما على الحبيب المخلِّص إلاَّ أن يُقدِم فهي تنتظر، ولن تكون الكلمة الأخيرة لابنة فرعون التي تعطي الطِّفل إلى كلِّ أمَّهات العالم سوى أمِّه، فعلى الأمِّ أن تمدَّ يديها، ما يعني أنَّ علينا أن نمدَّ أيدينا، ونقاتل قتالاً عادلاً، ونكتب كتابة جميلة تمثِّله… هذا هو قدرنا كي لا نصل إلى الواقع الذي لا يكون فيه في هذا الكون سوى الذِّئاب والضِّباع.
هذا ما بدا لنا، منذ البدء، أنَّه أدب مقاوم، لأنَّه ذلك الأدب الذي ينتمي إلى واقعه شكلاً ومضموناً، ينبثق منه: تراثاً وقضايا حياة معيشه ويرى إليه كاشفاً محرِّضاً.
شاهد أيضاً
ندوة “عاشوراء نبضة الألم ونهضة الأمل” في معهد المعارف الحكمية
شارك الملتقى الثقافي الجامعي في ندوة أقامها عصر يوم الإثنين في 11 أيلول 2023 معهد …