إنّ موضوع الوطن في الأدب العربي استدعى الدفاع عنه، فاقترن الموضوع بوجود العدو الذي يشكلّ خطراً على الوطن وبالمقاومة التي تدافع عنه وتحميه… وعادةً ما كان للكلمة سلطتها في تجييش الجمهور، وللحاكم (القائد) سلطته في قيادة الأمور على أرض الواقع…
هذا ما ربينا عليه في ثقافتنا مما وصلنا من أدب المعارك، وخاصّة الشعر العربيّ، منذ أقدم ما وصلنا منه من قصائد ما قبل الإسلام، إلى قصائد الفتوح الإسلاميّة، حتى وصف المعارك في العصر العبّاسي، عند أبي تمّام والمتنبّي وغيرهما… .
وفي العصر الحديث، مع استمرار الحروب، استمرّ موضوع الحرب في الأدب، ومن ذلك قصائد موضوعها بيروت في ظلّ الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 م الّذي يعدّ أطول حرب بين العرب وإسرائيل. وكانت هناك أقلام بارزة عبّرت عن الاجتياح، منها أدونيس وسليم بركات وسعدي يوسف وغيرهم…، ونجد أنّ محمود درويش قد عاش الحصار وأرّخه في عملين إبداعيين كبيرين هما “مديح الظلّ العالي”( )، و”ذاكرة للنسيان”( )، قدّم فيهما صوراً للأدب المقاوم آنذاك، وصوراً للقائد، وأثر سلطة الكلمة وسلطة القائد على أرض الواقع، ولأن كل نصّ يرتبط بالمجتمع، وذلك بتصوير المصالح والقضايا الجماعية عبر اللغة( )، فإننا في بحثنا، في “مديح الظلّ العالي” و”ذاكرة للنسيان” سنحاول إظهار كيف بدت ملامح المقاومة في ما بين السطور، من خلال صورة الأدب المقاوم، وصورة القائد الفلسطيني والعربي والإسرائيلي، وهل عبّر درويش عن مقاومة قادرة على النهوض بمجتمعها أو تمثّل مصالح خاصّة بسلطة على حساب الناس؟ وعلى ذلك سوف نبدأ البحث بوضع القضيّة في إطارها الاجتماعيّ في تلك المرحلة التي كانت تشهد صراعاً عالمياً بين الرأسمالية والاشتراكية، وكانت هزيمة الفلسطينيين بداية تدهور لحركة القوميّة العربيّة المرتبطة بالصراع العربي الإسرائيليّ عندما انتصرت إسرائيل على المقاومة في بيروت.
لمحة عن وضع المجتمع الفلسطيني وموقف درويش منه:
يمكننا القول إنّنا في “مديح الظلّ العالي”، كما في “ذاكرة للنسيان” نجد تصويراً لطبقات مستغلّة تملك وسائل الإنتاج، وطبقات خاضعة لاستغلالها؛ وهو ما يميّز الرأسماليّة عن غيرها؛ والنصّان الإبداعيان لا يعبّران عن شخصيّات بقدر ما يعبّران عن فئة اجتماعيّة تنتمي إليها وعن مواقع اجتماعيّة. ففي المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين يبدو صراع بين القوى الفلسطينيّة المتداخلة في المجتمع اللبنانيّ من جهة وإسرائيل مع من يدعمها من قوى عربيّة بصمتها ودوليّة بشكل مباشر بالسلاح، من جهة أخرى؛ ممّا يختزل تكوين اجتماعيّ عامّ في المنطقة العربيّة، ويمكن اختزاله بين قوى رأسماليّة عالميّة وقوى مناهضة لها. وهكذا يبرز النظام الاجتماعيّ معبّراً عن الوضع السياسيّ العالميّ في الصراع بين قوّتين عظميين على أرض لبنان، لتكون المنطقة العربية جزءاً من الصراع، والذي كانت نتيجته هزم القوى الرأسماليّة للقوى الاشتراكيّة، وكانت الثمانينات بداية التحوّل نحو انهيار النظام الاشتراكي في منطقة الشرق الأوسط.
ويمثّل الشاعر محمود درويش، في الظاهر، موقف السوفييت، فيطرح شعارات ثوريّة تحرّريّة من العدو الإسرائيليّ، ويندّد بأمريكا، وبالصمت الرسميّ العربيّ المساعد للإسرائيليين في الانتصار على المقاومة الفلسطينية. وتبقى الشعارات تحرّريّة في ظاهرها، فهو وإن كان يواجه الرأسماليّة وما تمثّله من قيم قائمة على علاقات السوق والتسليع من الربح والدجل والكذب، فإنّه لا يطرح البديل بتقديم مصالح الإنسان على أيّ مشروع استغلاليّ، فالحالة، الآن، ولو كانت سيّئة فإنّها مثل القدر، لا سبيل إلى تغييره (“… ولكنّ “سمير” المضرّج بالأسئلة عن الحرية في السجن وعن السجن في الحرية انخرط في موجة تساهل عامّ جرفتنا جميعاً إلى شاطئ القدرية”)( ). ودرويش يتكلّم باسم الفلسطيني المشرّد في أرض الآخرين (“القمح مرٌّ في حقول الآخرين والماء مالح والغيم فولاذ… عليك أن تحيا وأن تعطي مقابل حبة الزيتون جلدك”). ويعاني من العزلة والغربة بين إخوانه العرب (“وصرت الغريب الوحيد، كم أكتم شكواي: لماذا يكون الوطن اللبنانيّ منافياً لفلسطين؟ لماذا يكون الرغيف المصري منافياً لفلسطين؟ لماذا يصبح السقف السوري منافياً لفلسطين؟ ولماذا تكون فلسطين منافية لفلسطين؟”)( ). وليس له أحد إلاّ نفسه، ولا يملك شيئاً، ويعاني من العوز الشديد في أساسيات الحياة (“لا إخوة لك يا أخي لا أصدقاء يا صديقي لا قلاع، لا الماء عندك، لا الدواء، ولا السماء، ولا الدماء ولا الشراع ولا الأمام، ولا الوراء”). ويعاني من التقتيل ومن التحكّم بسيره من قبل من قيّدوه ليتاجروا بقضيّته (“لحمي على الحيطان لحمك، يا ابن أمي جسد لأضراب الظلال وعليك أن تمشي بلا طرق وراء، أو أماماً، أو جنونا أو شمال، وتحرك الخطوات بالميزان حين يشاء من وهبوك قيدك، ليزينوك ويأخذوك إلى المعارض كي يرى الزوار مجدك”). وقتال العدوّ في المعركة يكون باللحم الحيّ (“أشلاؤنا أسماؤنا، سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوك.. لا مفر، وسقطت قربك، فالتقطني واضرب عدوك بي.. فأنت الآن حر وحرّ وحرّ..”)، وإمدادات القوّة تأتي من الذين يسقطون قتلى أو جرحى (“قتلاك، أو جرحاك فيك ذخيرة فاضرب بها. اضرب عدوك..”)( )، وليس له أرض أو بحر يذهب إليهما (“لا بر إلا ساعداك لا بحر إلا الغامض الكحليّ فيك”).
ومع ما يعانيه الفلسطينيّ نجد ثماني وخمسين إحالة إلى الكتاب المقدّس في “مديح الظل العالي”، ليظهر الفلسطينيّ مسيحاً في مواجهة الشيطان ممثّلاً بالآخر… دون حلّ حاضرٍ. ولا نجد ضمن رؤيته طرحاً يفيد الناس، بل يقدّم حال الفلسطينيين المذرية على أنّها جيّدة، وهذه الجودة تبدو طموحاً، فالفلسطينيّون في وضع مذرٍ والفقر هو الحالة الممجّدة المرجوّة (“اذهب فقيراً كالصلاة”)، والمخيّم هو الطموح بالنسبة إليهم للعيش الكريم (“تشيد أرضاً تحت راحتك الصغيرة خيمة أو فكرة أو سنبلة”)؛ هذا هو الوضع الذي يدافع عنه ويثبت، حتّى يصوّر الفقر المدقع على أنّه جزء من مشهد سلام (“حافياً كالنهر في درب الحصى”)، أو على أنّ ذهابه في الحالة السيّئة دون رفضها مثل مبشّر بربيع حتميّ (“…مؤجّلاً كقرنفلة”). وفي ذاكرة للنسيان نجد وصفاً لا يحيد عمّا سبق، وفيه تشديد على الصمت الآن في مواجهة كلام السلاح، (سنرى صورة الكلمة المقاومة بشكل تفصيليّ ما أمكن).
والشاعر يرى أنّ الثورة ضروريّة، لكنّ شكلها يختلف عن ثورة حركة فتح، هي ثورة كبرى لتحرير الإنسان، لا تدعو إلى دولة (“ما أصغر الدولة”)، والرحلة فيها ضيّقة (“ما أضيق الرحلة”)؛ وهذا يتوافق مع الطرح الاشتراكي بشمول الثورة للعالم كلّه، ولكنّ درويش يصف ما يحدث باكياً عليه، غير واجد الحلّ بيد المقاومة، بل يطلب النجدة للمقاومة، وعلى ذلك تبرز صورة الحاكم الفلسطينيّ مشابهة للحكّام العرب الآخرين، وممجّدة ومطلوبة لذاتها وليس للحلّ الذي تقدّمه… وسنرى صورة الحاكم عند العرب وعند إسرائيل ثمّ الحاكم الفلسطينيّ في المواجهة كما يرى درويش (سنرى ذلك، في بحثنا، بشكل تفصيلي ما أمكن).
صوَر الحكّام في الاجتياح عند محمود درويش:
نرى صورة الحاكم عند درويش مثالاً للشرّ وللخير في مواصفات متشابهة. فالحاكم السيّئ هو العدو أو المتعاون مع العدو، بشكل مباشر علني، أو غير مباشر تمثّل بالصمت تجاه ما يحدث، وباستغلال ما يحدث للصالح الخاص بالحاكم رمز الشرّ المنتصر. أمّا الحاكم المثاليّ، رمز الخير المنهزم، فهو الحاكم الفلسطيني عرفات قائد المقاومة في لبنان آنذاك. وتبدو السلطة هي ما يجعل الحكّام متشابهين بإلغاء الذات الجماعيّة للمواطنين، بالرضا أو الضغط، لصالح الحاكم الذي يرتبط مصيرها بشخصه، كما سنرى:
صورة الحاكم الإسرائيليّ:
ظهر الحاكم الإسرائيليّ في الداخل الإسرائيلي ديمقراطياً سامحاً بحرية الرأي والتعبير عن الاحتجاج سواء بالتظاهر أو بالأدب، فقد انطلقت مظاهرات في وجهه في تلّ أبيب فيها، فمنهم القاتل ومنهم الضحية، “وقد سهّل التنافس الانتخابي بين الحزبين الكبيرين عملية انفتاح شوارع تلّ أبيب على عشرات الآلاف من المتظاهرين، واستنهضتهم ضحاياهم إلى درجة دفعت ضابطاً كبيراً إلى الاستقالة”( )، وقد نُظمت عشرات القصائد العبرية تحاول التعبير عن حصار بيروت والاحتجاج على المذبحة( ). وفي خارج إسرائيل ظهر مجرماً وأعصابه باردة، ويحاول أن يكون لائقاً، لكنّه ينتقل، بسهولة بالغة، من اللياقة إلى الإجرام إن غضب، وقد أثاره عرفات (خصمه)، ودفعه إلى مزيد من الجنون فردّ بقنبلة فراغية على بناية غادرها عرفات، وأبيد فيها حوالى مائة إنسان( ). وهو يجرّد الفلسطينيين من الصفة الإنسانيّة ويكسبهم طبيعة حيوانية، ليبرّر قتلهم، ويحلله لأنهم واجهوه، وقد قال: “هؤلاء الفلسطينيون ليسوا بشراً. إنهم حيوانات تدب على اثنتين”( ).
وكان، في الحرب، مجرماً تاريخيّاً، يقدّس إجرامه المستمرّ، في حقّ من يخالفه، معتمداً على ما ورد في التوراة (“يستعيد تاريخ جنونه وجرائمه، فقد ظنّ أنّ جنوده صيادي هذه الحيوانات، يقومون بنزهة صيد، فأُلقيَت في وجهه مئات التوابيت المرفوعة على الأكفّ تصرخ : إلى متى؟ ولسنا بشرا لأننا لم نسمح له بدخول عاصمة عربية”)( ). حتّ أنّه كان يغيّب الشهداء الذين أبادهم ليشترط حضوره، في المكان والزمان، مستعيناً باعتقاده أنّ فصولاً من التوراة “كانت قادرة على أن تكتب، وحدها، تاريخ البشر..”( ).
وانطلاقاً من التوراة يتقمّص الحاكم الإسرائيلي “بيغن” شخصيّة الملك سليمان، لكنه يتخلّى عن حكمته وأناشيده ومصادره الثقافيّة، ويأخذ منه، فقط، عصره الذهبي المرفوع على دبابة. “لا يتعلّم منه عبرة سقوط المملكة حيث ازداد الفقراء فقراً وازداد الأغنياء غنى.. لا يعنيه منه غير البحث عن ملك صور لتوقيع معاهدة سلام. أين ملك صور؟ أين ملك الأشرفية؟ بيغن يجمّد التاريخ عند هذه اللحظة…”( ). وترتبط صورة بيغن بالحرب والقتل والسياسة، حتى في لحظات فرحه، إلى درجة أنّه “يلتهم في عيد ميلاده، دبابة “مركباه” مصنوعة من الحلوى، ويدعو إلى توقيع معاهدة سلام، أو تجديد المعاهدة القديمة بين إسرائيل ولبنان. ويعاتب أميركا: لقد أهديناكِ لبنان…”( )
ونذكر أنّ الحاكم الإسرائيلي يتحكّم بلبنان إلى درجة أنّ صورة الحاكم اللبنانيّ ارتبطت بإسرائيل، ففي “مديح الظل العالي” لم ترد صورة القائد الحربي “بشير الجميّل” بشكل مباشر، لكن وردت بشكل غير مباشر خلفيّةً لجريمة الفاشيين الإسرائيليين( ) واللبنانيين الذين قاموا بمذبحة صبرا التي “تنام وخنجر الفاشيّ يصحو…”( ) انتقاماً من الفلسطينيين بعد اغتيال الرئيس الجميّل؛ وفي “ذاكرة للنسيان” وردت بصورة مباشرة، بإشارات قليلة إليها ارتبطت بالتعصّب ضد الفلسطينيين، في سياق في دعاء “يا سيّدة لبنان، احفظيه لكلّ لبنان”( )، أو ارتبطت بالعلاقة مع الإسرائيليين إلى درجة أنّهم هم من ينتخبونه، إذ يراه الحاكم الإسرائيلي موازياً لملك صور في التوراة، فيرى أنّ ملك الخرافة الجديد “مناحيم ابن سارة ابن بيغن الذي سيحمي الهيكل الثالث من الغضب الداخلي ومن الغضب الخارجي، بالتحالف مع ملك الأشرفية بشير، ابن بيير، ابن جميل..”( )
صورة الحاكم العربي :
تبرز صورة الحاكم العربي عند درويش، في واقعٍ حربي كانت فيه صورة بيروت من الداخل تناقض صورتها من الخارج، فبيروت من الداخل “ترفع بنادقها لتحافظ على إشراق معانيها: عاصمة الأمل العربي”( )، في حين “بيروت من الخارج: محاصرة بالدبابات الإسرائيليّة وبالشلل العربيّ الرسميّ. بيروت غارقة في الظلام والابتزاز. بيروت تعطش…”( ). و”الشباب يائسون من تحرّك العالم العربيّ”( ).
وكذلك مقابل أنّ بيروت من الداخل تعاني، كانت العروبة غير مكترثة:
(“تنكسر السماء على رغيف الخبز.
ينكسر الهواء على رؤوس الناس من عبء الدخان ولا جديد
لدى العروبة “)( )
والوضع ليس استثنائيّاً بل بات مألوفاً، مكرراً، بما فيه من إصرار على المواجهة الفلسطينية، رغم ضعف في الإمكانيات، وانعدام المساعدات العربية (“ما من أحد.. وزراء الدفاع كانوا يتلهون بفقاعات الشمبانيا، مع القتلة، كلما جاءهم خبر عن تضييق الخناق على تل الزعتر. فبماذا يتلهون الآن. أثناء تضييق الخناق على بيروت؟ لقد رأينا صورهم على أحواض السباحة. أليس شهر آب حارًا؟ ورأينا تعب حراسهم المدججين بالبنادق وهم يرفعون ابتسامات أسيادهم السائلة حتى الركبتين في محاولة لإعادتها إلى الأفواه المفتوحة سالمة.. سالمة من عيون المارّة ومن حصار بيروت”)( ). وهؤلاء الوزراء تابعون لحكّام أعلى يقودون شعبهم إلى الهزيمة أو نصرهم الخاصّ في لعبتهم السياسية، التي يسودها الصمت تجاه الفلسطينيين ومعاناتهم، أو المتاجرة بقضية فلسطين لصالحهم، حيث جعلهم العدو أبطالاً في مواجهته، وبطولتهم المزعومة تثبّت عروشهم:
(“كسروك، كم كسروك كي يقفوا على ساقيك عرشا
وتقاسموك وأنكروك وخبأوك وأنشأوا ليديك جيشا”)( )
ولو كانت الهزيمة محققة، فقائد الهزيمة لا يُعاقب، بل يضغط على شعبه بحجّة أنّه يواجه عدوّاً يريد إسقاطه، وعلى الشعب الوطنيّ أن يتحمّل عبء الظلم الواقع عليه حتّى يكيد الأعداء (“ليس للهزيمة أب واحد. وفي السياسة، ليس من التقاليد العربية الحديثة معاقبة القائد على الهزيمة. إنه يدعو الشارع للعطف عليه، ولمواساته الجماعية المعبّر عنها في دعوته إلى البقاء على العرش ليكيد الأعداء. أليس ما يريده الأعداء هو إسقاط الحاكم، ولتخليصنا من هذه النعمة؟ فلننتصر عليهم بالانتصار على أنفسنا وإبقاء الحاكم المهزوم جلاداً لنا”)( ).
لكنّ لعبة الحكام العرب مكشوفة، وموالاتهم لأعدائهم مكشوفة، فقد سقط القناع:
” عربٌ أطاعوا رومهم
عربٌ وباعوا روحهم
عربٌ.. وضاعوا
سقط القناع”( )
وأكثر من ذلك، فإنّ لعبة السياسة مثل لعبة كرة القدم، وفيها عيّن الحاكم نفسه معبّراً عن روح الأمّة، والحاكم هو سبب النصر لا الهزيمة، وهو الممجّد في حالاته كلّها، فهو “يعبّر عن نصرٍ هو نتاج سياسته الحكيمة، وتنشيط الإرادة والطاقات. لعلّه، وليس اللاعب، هو الأقدر على التأويل لأنه صاحب الأمة وراعيها، وهو يصرف من ماله الخاصّ على تشجيع الرياضة”( )، لكن إذا انهزم الوطن فإنّ الحاكم العربي الذي يقوده يتنصّل من الهزيمة، و”يحمّلها للأجهزة، لتاريخ التقاليد مرّة، للمدرّب مرة ثانية، لانتكاسة اللاعبين- المحاربين مرة ثالثة، ولانحياز عوامل خارجية متمثّلة بالحكم مرة رابعة… أما الحاكم فهو برئ من الهزيمة، لأنه مشغول بقضايا أكثر جدية. لذلك يرفع الشارع الغاضب صورة الحاكم عالية عالية، وينفذ من تحتها إلى حرية التعبير: يشتم الغرب كما يشاء، ويومئ إلى الداخل كما يشاء. هذا ما تبقى لنا من حرية، فهل نُفرّط بها؟ وهذا ما تبقى لنا من متعة، فلنصفق لما يشير إلى العافية. الأمّة في خير ما دامت قادرة على الحماسة”( )، فالحرية، كما الوطنيّة، على مقاس الحاكم وكرسي الحاكم هي الثابتة في تغيّر المواقف.
والشارع الذي كان ليسقط الحاكم لأيّ مساسٍ بقضيّة فلسطين القلب الجماعيّ، لكن الآن، أي في وقت الاجتياح، “يتسابق الحكّام ليرشوا الشارع ، ليدفعوه إلى التخلّي عن هذا الإجماع. السلاح العربي الرسميّ يتصدّى، علانية، للخطورة والفكرة الفلسطينيتين ويحمّلهما المسؤولية عن بؤس الأمّة وعبوديّتها…”( ).
وفضلاً عن ذلك تبدو ساحة التعبير في الشارع العربي محصورة بتفجير المكبوت العربي المتعدد المصادر في ما هو متاح من السلطة، وكأن هناك تواطؤ بين الحاكم والمحكوم، حيث شهدت الساحة العربية مظاهرات صاخبة احتجاجاً على حكم منحازٍ في مباراة كرة القدم، ولم تشهد أيّة مظاهرة احتجاجاً على ما يحدث في حصار بيروت. فكانت المباريات فسحة تنفّس في “زنزانة الديمقراطية العربية المهددة بخنق سجنائها وسجّانيها معاً…”( )
وإنّ الحكّام العرب، الذين لا يعرفون سوى الخطابة والفرار، ينكرون الفلسطيني ويغدرون به، ويتاجرون به، وهو يعاني في حربه الطويلة منهم:
(“حطوك في حجر.. وقالوا..لا تسلم
ورموك في بئر.. وقالوا لا تسلّم
وأطلت حربك، يا ابن أمي
ألف عام ألف عام ألف عام في النهار..
فأنكروك لأنهم لا يعرفون سوى الخطابة والفرار.
هم يسرقون الآن جلدك.
فاحذر ملامحهم.. وغمدك”)( )
والحاكم العربي الخالد على كرسيه لا قيمة للزمن عنده، فبعد شهر من الاجتياح تنادى وزراء الخارجية العرب لبحث إمكانية عقد مؤتمر قمّة عربي لبحث الاجتياح (“فتساءلنا: لماذا يحرق أصحاب “قمة الحضيض” العربي ثومهم وبصلهم وأصابعهم؟ أليس في الوقت متسع للمزيد من الاجتياح وابتلاع الأرض والناس، إذ لم يمض على الغزو شهر واحد فقط.. شهر واحد لا يزيد على لحظة عابرة في تاريخ الحكم العربي الخالد. ولا تكفي لصياغة رد الدول العربية على عجلة من أمره، والعجلة من الشيطان الرجيم، ليقضي وزراء خارجيتها ساعات صعبة في تونس، يختلفون فيها على تحليل أهداف الاجتياح ومداه: هل هو ضد الفلسطينيين واللبنايين أم ضد سائر العرب؟”)( ).
ولا شيء ينتج عن العرب، ولو موقف متأخر في وصوله، وكأنّ الحكّام مجتمعين يرون الحالة طبيعيّة غير قابلة للنقاش:
(“بعد شهر يلتقي كل الملوك بكل أنواع الملوك، من العقيد
إلى الشهيد، ليبحثوا خطر اليهود على وجود الله. أمّا
الآن فالأحوال هادئة تمامًا مثلما كانت. وإن الموت يأتينا بكلّ
سلاحه الجوي والبري والبحري. مليون انفجار في المدينة”)( )
والحكّام العرب مجرمون، مسؤولون عن التصعيد في حقّ الفلسطينيين وصولاً إلى المجازر، عندما أداروا ظهرهم للفلسطينيين، فصبرا “استسلمت للنوم من تعبٍ ومن عربٍ رموها خلفهم”( ).
صورة الحاكم الفلسطينيّ:
كان الحاكم الفلسطينيّ قائداً للمعركة على الأرض في بيروت، وتكاد شخصيّته تمثّل الرمز الفلسطيني، وهو في ذلك لا يحيد عن غيره من الحكّام، في الشكل والسلوك.
لقد كان يحمل هواجس كلّ فلسطينيّ في العودة، وكان رمزاً في لباسه، وقد كانت الشكليّات والرموز الظاهرة لتمجيد القائد طاغيةً على ما عداها (“ازدادت المصوّرة ومساعدة الصحافي تحديقاً بوجه العدو الأسطوريّ. سألتني إحداهما: أين كوفيته الشهيرة؟ قلت لها: في كلّ مكان. ولكنّه الآن يرتدي القبّعة العسكرية لأنّه يحارب”)( )
كان يوجّه رسالته إلى أعدائه بأنّه يعيش حياته بأعصابٍ باردة ليثير أعصابهم (“كان أمس يلعب الشطرنج أمام الكاميرا الأميركية ليدفع بيغن إلى مزيد من الجنون، وليحرمه من لياقة الشتيمة السياسية واستبدالها بالشتيمة الإنسانية”) ( )، وكان يُحسن في التلاعب بأعصاب العدو (“وكان القائد يلعب الشطرنج. لقد أحسن التلاعب بأعصاب بيغن المتدلّية كأسلاك الكهرباء على مزبلة الأوزاعي”)( )
كان هادئاً يخاطب الرأي العامّ الإسرائيليّ المضطرب، وهو أهدأ من الرسالة التي يبلغها، “حين سأله الصحافيّ إلى أين سيخرج حين يخرج من بيرزت؟ أجاب بلا تردّد سأذهب إلى بلادي. سأذهب إلى القدس… تأثّر بها الإسرائيليّ واغرورقت عيناه بدموع الخجل. وأضاف أبو عمّار: لم لا؟ لم لا أذهب إلى بلادي؟ لماذا يحقّ لك أن تذهب إلى بلادي ولا يحقّ لي أن أذهب إلى بلادي؟”( ). ويرتفع في جوابه إلى مستوى الوجود الشعريّ والملحميّ الفعليّ، وإن لا يملك أمره( ):
” عمّ تبحث يا فتى في زورق الأوديسّة المكسور؟
– عن جيش يحاربي ويهزمني فأنطق بالحقيقة ثمّ أسأل: هل
أكون مدينة الشعراء يوماً؟
– عمّ تبحث يا فتى في زورق الأوديسّة المكسور؟
– عن جيش أحاربه وأهزمه،
وعن جزرٍ تسمّيها فتوحاتي، وأسأل: هل تكون مدينة الشعراء
وهما؟…”( )
والقائد ممجّد ولا يخطئ ولو خالف الوضع الصحيح، فحتّى لو خالف درويش قائده في الرأي أو الموقف، فإنّه يحاول أن يجد له المبررات (“… غضبت أكثر ولم أعلّق. بيروت مليئة بمندوبي كلّ الصحف العالميّة. أ من الضروريّ أن يجري هذا الحوار مع هذا الصحافي في هذا الوقت؟ لكلّ مقام مقال. وهذا المقام ليس لهذا المقال. ولكن لعرفات نظرة أخرى إلى الإعلام. فربّما أراد أن يوصل رسالة مباشرة، وربّما أراد أن يمرّغ بيغن في مزيد من الجنون”)( ).
والقائد الحاكم يبقى حاكماً للثورة، رغم فساد حكمه، فهو لا يحاسب القادة الذين تحت إمرته على جرائمهم، بل يقتصر العقاب على شهداء المستقبل على هفواتهم، (“استقر سمير في بيروت ليواصل أسئلته الجارحة حول الحرية في السجن، والسجن في حرية قابلة للفساد وإلغاء نظام العقوبات، حتى لو تمكن أحد الناطقين باسم هذه الحرية من تدمير بناية على ساكنيها تصفية حساب مع عضوفي التنظيم دون أن يفقد عضويته في القيادة وحقه في تمثيل نظام عربي تمثيلا مدويا في القيادة! لعل المحاكمة التي تستحقها الثورةهي أنها كانت خالية، ومازالت خالية من تقاليد محاكمة أعضاء القيادة على جرائمهم المدوية. واقتصرت المحاكمة على تتبع جنايات أخلاقية يرتكبها شهداء المستقبل خلال بحثهم عن متعة عابرة في سيجارة حشيش أو امرأة تغوي، قبل أن يتحولوا إلى منصة للخطابة”)( ).
وفي خروجه من بيروت يبدو واقعاً أسطوريّاً، وهو الأساس وليس أعماله؛ وهنا يصل التمجيد لشخص الحاكم، عن وعي، إلى أقصاه:
“لستَ آدم كي أقول خرجت من بيروت منتصراً على الدنيا
ومنهزماً أمام الله.
أنت المسأله
الأرض إعلانٌ على جدران هذا الكون،
حبّة سمسم، قتلاك
والباقي سدى”( )
وللقائد الفلسطيني دور الأب القائد الذي يحدد المصير له ولغيره، ويصل الأمر إلى التأليه من أجل تقديس القيمة وليس من أجل هدف من وراء التأليه:
“لك أن تكون- ولا تكون
لك أن تكوّن
أو لا تكوّن..
كلّ أسئلة الوجود وراء ظلّك مهزله.
والكون دفترك الصغير،
وأنت خالقه،
فدوّن فيه فردوس البداية، يا أبي..
أو لا تدوّن
أنت.. أنت المسأله”( ).
و”لا. لست آدم كي أقول خرجت من بيروت أو عمّان أو يافا، وأنت المسأله”( )
ويكفي وجوده حاكماً ليكون عظيماً يرتقي إلى مستوى القائد الأسطوري، ولو دون إنجازات أو حتّى طموحات قد تكون منطقيّة لكونه عظيماً في سبيل تحقيقها على أرض الواقع:
“ماذا تريد؟
وأنت من أسطورة تمشي إلى أسطورة
علماً؟
وماذا تنفع الأعلام..
هل حمت المدينة من شظايا قنبله؟.
ماذا تريد؟
جريدةً
أتفقّس الأوراق دوريّاً
وتغزل سنبله؟
ماذا تريد؟
أشرطةً؟
هل يعرف البوليس أين ستحبل الأرض الصغيرة بالرياح
المقبله؟( )
ورغم ظروف الحرب والتقتيل والمجازر، غير مطلوب من الحاكم مواجهة العدو والانتصار عليه، وهو ليس سيّداً عاديّاً، بل هو سيّد الروح، وفي ذلك لا يخرج عن الهتافات العربية بفداء القائد بالروح والدم، بل هو نموذج لها في أقصى حالاتها، وإن كانت المبالغة في تميّزه تُخرجه عن سربه، وكأنّ سلطة الآخرين زبالة، لكنه هو خالق الطرقات:
“ماذا تريد؟
سيادةً فوق الرماد؟
وأنت سيّد روحنا يا سيّد الكينونة المتحوّله.
– فاذهب…
فليس لك المكان ولا العروش المزبله
حرّيّة التكوين أنت
وخالق الطرقات أنت
وأنت عكس المرحله”( )
ويبقى القائد ممجّداً وإن كان لم يحسم أمره في قيادة الجماهير، في الظرف التاريخي الصعب، سواء نحو تكريس المخيّم حاليّاً أو السلام أو التأجيل للواقع العمليّ بالتنظير الفكري الذي يحصر الأمل بالآتي؛ فالمهم القيادة لشخص القائد، مع خلاف واحد هو أن ليس هناك أرض دولة توازي غيرها من الدول.
“تخلع المدن الكبيرة والسماء المسدله
– وتمدّ أرضاً تحت راحتك الصغيرة،
خيمةً
– أو فكرةً
– أو سنبله”( ).
ويصل محمود درويش في تمجيد القائد إلى أقصى التمجيد حين يعلنه سيّد الجمرة والشعلة( )، ليمنحه القصيدة كلّها، حيث الظلّ العالي للممدوح الموازي للسيد المسيح في الفكر المسيحي، ومن يخالفه يكفر بقدسيّته أيّاً كان نوع المخالفة، على مدار ديوان “مديح الظل العالي”، وفي المقابل غير مطلوب منه التضحية، ومطلوب توحيد الفلسطينيين “بمعجزة فلسطينية”( ) ومطلوب الانتصار، ولو “في آخر التاريخ”( )، دون تحديد ماهيّة هذا الانتصار في شيء خارج شخصية الممدوح الحاكم، والظلّ العالي ناتج عن نار الثورة التي يوقدها سيّدها القائد.
وهكذا رأينا أنّ موقف درويش يميل إلى موقف السوفييت الاشتراكي ظاهرياً، لكنّه ينخرط في صورة تابعة للحاكم على طريقة الحكام العرب، ومقابل تقديس إجرام الحاكم الإسرائيلي، في “خرافة” بني إسرائيل، ومقابل صورة تخاذل الحكّام العرب، إلى درجة تورّطهم الفعليّ في إهدار دم الفلسطينيين وفي ما عانوه، دون أي اعتراض من الشارع العربي، تظهر صورة الحاكم العربي الفلسطيني مقدّسة هي الأخرى، ويبدو الصراع صراع سلطة من أجل السلطة لا من أجل حماية الشعب، بل من أجل تكريس سلطة الحاكم وبطشه إلى درجة فدائه بالحياة، سواء عن وعي جماهيري أو عن غير وعي…
ورأينا أنّ “درويش” يُظهر أنّ حركة المقاومة حركة ثوريّة، وقيادتها ثورية، وهذا الادّعاء غير سليم وغير دقيق، لأنّها واقعيّاً صيغة من الصيغ القائمة من الأنظمة العربيّة، تسعى إلى سلطة لم تحصل عليها، ولذلك هُزِمت في الأردنّ؛ وهي لا تقيم علاقات ثوريّة في لبنان، بل تنافس السلطة الحاكمة، وكأنّ القضيّة صراع سلطة من أجل السلطة وليس من أجل التغيير المنشود.
صورة الكلمة المقاومة:
تاريخيّاً كانت للكلمة أهمّيّتها وللقلم أهمّيّته منذ بداية الخلق، في ثقافتنا( )، وبقي للكلمة المكتوبة تأثيرها في جمهور المبدعين حتّى اليوم… وللأدب المقاوم المعبّر عن جرح الجماعة أثره في جمهوره، فهو يتوجّه إلى فئة من القرّاء ليعبّر عن موقفها الأدبي من الوطن ومن أعدائه، أو على الأقلّ يعرض موقفاً سياسيّاً… والأديب يُعنى بتصوير أحداثٍ تاريخيّة، ويدّعي أنّ خطابه يتّفق مع الواقع وأنّه يتطابق معه. هذا الادّعاء له أصول نفسيّة واجتماعيّة. وللأديب دورٌ هامُّ في تزاحم الخطابات وفي الصراعات الخطابيّة، لأنّه يعبّر عن مصالح معيّنة( )، فكيف بدت صورة الكلمة الممقاومة عند درويش؟ وفي مصلحة من كانت الصورة؟
يميّز درويش بين موقفين من الكلمة المقاومة، الموقف التقليديّ المتمثّل بالكتّاب والشعراء الذين يرون أنّ لهم دوراً قياديّاً وفاعلاً في قيادة الجماهير والمواقف، والموقف الثائر على التقليديّة المتوارثة، وهو في الظاهر يمثّل الموقف الاشتراكي المماثل للروسي تولستوي، في مسيرة حياته، وغيره، الداعي إلى خدمة المجتمع بشكل مباشر، ولا يرقى الفنّ إلى هذا الشكل من الخدمة (“ليس ردُّ الفعل واحداً- أيها الكتّاب- فمن يستطيع الكتابة الآن فليكتب. ومن يستطيع الكتابة بعد الآن فليكتب. وإذا أذنتم لي بأن أُبدي رأيي – دون اتهام – فسأعبر عن ظنّي بأنّ الجرحى والعطاشى والباحثين عن الماء والخبز والملجأ لا يطالبونكم بالغناء، والمقاتلين لا يكترثون بغنائكم. غنوا إذا شئتم، أو فاصمتوا إذا شئتم. فنحن هامشيون في الحرب وفي وسعنا أن نقدم خدمات أخرى للناس، فإنّ تنكة من الماء تساوي وادي عبقر. المطلوب منا الآن هو الفاعلية الإنسانية لا الجمالية الإبداعية”)( ).
والمجتمع عند درويش يعيش حالة حرب، ففي الظاهر مطلوب تأمين الحاجات التي تساعد الناس على الصمود، ولكنّ في الباطن يحمل إسكاتاً لصوت الأدب، بما يمثّله من توعية للناس وحضّهم على الصمود. فيجعل درويش الكلمة واصفة مؤرّخة للحدث، وليست عاملاً تغييريّاً مواجهاً، ويبقى هو الأب للشعر المقاوم( )، رغم عدم فاعلية شعره في الحدث، برأيه، وفي ذلك يمثّل الشاعر المهزوم المادح للقائد المهزوم، وكلاهما يمثّل مقاومة تدّعي الثوريّة.
فالموقف التقليديّ أنّ للقصيدة دورها، بينما القصيدة في وادٍ والواقع في وادٍ آخر، فأشعار البطولة مفرغة من معناها عمليّاً وهي مجرّد أغانٍ (“”أخي جاوز الظالمون المدى، فحقّ الجهاد وحقّ الفدا.. طلعنا عليهم طلوع المنون، فكانوا هباءً وكانوا سدى” وبقدر ما كانت تلك الأغاني تطارد فلول الغزاة وتحرر الأرض سطراً سطراً، كان هؤلاء، هنا، يولدون بلا مهدٍ، وكيفما اتفق… كانوا ولادة زائدة، كانوا بلا هوية. وانتهى الأمر إلى ما انتهى إليه. عادت الجيوش النظامية. وبقي هؤلاء يولدون بلا سبب، ويكبرون بلا سبب، ويتذكّروت بلا سبب، ويحاصَرون بلا سبب…”)( )، وشعر الفروسيّة لا يعبّر عن الواقع الحاضر، فاللغة الحاضرة هي
“لغة تفتش عن بنيها
عن أراضيها وراويها
تموت ككل من فيها
وترمى في المعاجم”( )
وهذه اللغة هي ما تبقّى من أثر العرب، وبعدها لا وجود للعرب وبطولاتهم في الواقع الحياتيّ للفلسطينيّ الذي كان دائماً وحده
(“هي آخر النخل الهزيل وساعة الصحراء
آخر ما يدل على البقايا
كانوا، ولكن كنت وحدك”)( ).
فالكتابة لا تجدي نفعاً أمام الحدث (“وماذا سنكتب في “المعركة” (نشرة “المعركة”) أمام حديث المفاوضات والخروج؟”)( ).
والشاعر يائس من وصول الكلام إلى من يفعل:
(“إلى من أرفع الكلمات سقفاً
وهذي الأرض يحملها الغمام؟
ويرحل، حين يرحل، نحو تيهي
أحدّق في المسدّس، وهو ملقىً
على طرف السرير، وأشتهيه”)( ).
وعلى ذلك يأتي ذكر خليل حاوي وانتحاره عاديّاً؛ والشاعر يبرّر قتل الشاعر خليل حاوي لنفسه على أنّه هكذا أراد ربط الحرية بالموت
(“يصغي لموجته الخصوصيّة: موتٌ وحرّيّة
يصغي لموجته ويفتح موته لجنونه
من حقّه أن يجلس السأم الملازم فوق مائدة
ويشرب قهوة معه
إذا ابتعد الندامى”)( )
فمواجهة الحدث الوت هي بموت الشاعر فعليّاً بعد العجز أمام دخول الإسرائيليين إلى بيروت (“بيروت تخرج من قصيدته وتدخل خوذة المحتلّ”)( ). وهكذا يبدو حدث انتحار الشاعر موضوعيّاً ومكشوفاً ومبرّراً، لأنّ القصيدة في حضرة الحرب وأمام موقف العجز، فيبدو الانتحار هو الفعل الحياتي الموازي؛ والقصيدة الشعريّة لا تغري إلاّ صاحبها الشاعر بالحياة من خلال تموز وامرأة وإيقاع:
(“… في بيته بارودة للصيد
في أضلاعه طيرٌ
وفي الأشجار عقمٌ مالحُ
لم يشهد الفصل الأخير من المدينة
كلّ شيء واضح منذ البداية، واضحٌ
أو واضحٌ
أو واضحٌ
وخليل حاوي لا يريد الموت، رغماً عنه
يصغي لموجته الخصوصية
موت وحرّيّة
هو لا يريد الموت رغماً عنه
فليفتح قصيدته
ويذهب..
قبل أن يغريه تمّوز، وامرأةٌ، وإيقاعٌ … وناما
الشاعر افتضحت قصيدته تماما”)( ).
وهذا التسليم بالعجز ليس فيه ثورة، بل فيه إعلان موت التغيير، فالحلّ ليس بربط الحرية بالموت وربط الحياة بالعيش بضغط، بل الحلّ في جملة طروحات تغييريّة تؤدّي إلى نتيجة مختلفة عن الحاضرة. ويبدو الطرح استسلاميّاً تقليديّاً في جعل الشاعر ينتحر احتجاجاً على وضع غير قابل للتغيير، على أنّ التغيير ليس من صنع الثوريّ الحرّ، فالطرح يجعل ردّة فعل الشاعر في قمّة اليأس الفعليّ مباركة من قِبل الشاعر المتكلّم.
وهو يبدو أنّه يريد تعميم يأسه، باسم مواجهة التقليدي، فيطلب من أصحاب الموقف الحماسي تغيير موقفهم، وعلى المثقّفين إعادة النظر بربط صيحة الحرب بحماسة الشعر، “باعتبار الشاعر معلّقاً على الأحداث، حاضّاً على الجهاد، أو مراسلاً حربيّاً. في كلّ معركة يقولون أين القصيدة؟ لقد اختلط مفهوم الشعر السياسي بمفهوم الحدث، معزولاً عن السياق التاريخيّ”( )، وإعادة النظر بجدوى الأغاني الثوريّة (“والآن، والأشياء سيدة، وهذا الصمت يأتينا سهاما هل ندرك المجهول فينا؟ هل نغني مثلما كنّا نغني؟”)( ).
ويرى المثقّفين المخالفين لرأيه تقليديين ليسوا واقعيين، بل مثاليين وخياليين في الواقع إلى درجة السخرية (“نخرج، أم لا نخرج؟ فقد حسب المثقفون المنصهرون في ورشة الصمود الرائعة انصهاراً مدهشاً أن هذا السؤال هو سؤالهم. وحسبوا أن لهم حق الفيتو على القرار السياسي. وكان بعضهم يعتقد أن نشرة “المعركة” هي التي ستحدِّد مصير المعركة. وقرروا أنّ هذا المنبر الشجاع هو الذي سيشهد للتاريخ أنّ المثقفين هم الذين يقودون انعطاف التاريخ. ما أجملهم! ما أجملهم!”)( ).
والخروج على الطرح التقليدي يكون بصمت الأدباء؛ فالمبدعون على الأرض هم المقاتلون، والكلمة للمقاتلين، فقط، في بيروت المحاصرة، في ضوء الواقع الحربي حيث “الصمت الذي يتوّج العالم يعطيهم منصّة الكلام. دمهم وحده، هو الذي يتكلّم في هذا الزمن”( ).
والمطلوب الصمت والخشوع أمام الحدث، أمام الموت، وفي صبرا، ليس فقط لا دور للشعر، بل من غير اللائق قول الشعر (“صبرا أيها المثقفون فسؤال الحياة والموت المهيمن الآن، سؤال الإدارة التي تدفع بأسلحتها كلها في هذه الساحة، سؤال الوجود الذي يصوغ شكله المادي والألوهي، أهم من السؤال الأخلاقي عن دور الشعر والشاعر ومن اللائق أن نحترم الرهبة التي تنثرها هذه الساعات، ساعات انتقال الوجود الإنساني من ضفة إلى أخرى، ومن طور إلى طور. من اللائق أن يعرف الشعر القديم كيف يصمت، في خشوع، أمام حضرة هذا المولود الجديد”)( )
وإنّ طرح موضوع ولادة القصيدة في أثناء الحدث هو ثرثرة، على حساب الصمت المطلوب (“إذا لم تولد القصيدة «الآن» فمتى تولد؟ وإذا ولدت فيما بعد، فما هي قيمتها «الآن»… تولد في مكان ما، في لغة ما، في جسد ما، ولكنها لا تصل إلى الحنجرة و الورق. سؤال بريء يحتاج إلى جواب بريء لولا أنه مليء- في هذه الجلسة- بالرغبة في اغتيال الشاعر الذي يجرؤ على الإعلان بأنه يكتب صمته. ومن المثير للمرارة أن ننتزع من زمن الغارات هذا الوقت للثرثرة”)( )
وقد يكون الشعر في المعركة ينافي الإنسانية، والصمت هو المطلوب، لصالح خدمة المقاومين المدنيين والعسكريين (“يستجوبني كاتب صحافي أميركي: ماذا تكتب أيها الشاعر في الحرب؟
– أكتب صمتي
– هل تعني أن الكلام للمدافع؟
– نعم صوتها أعلى من أي صوت
– ماذا تفعل إذن؟
– أدعو إلى الصمود
… ومتى عود إلى كتابة الشعر؟
-حين تسكت المدافع قليلا. حين أفجر صمتي المليء بجميع هذه الأصوات. حين أجد لغتي الملائمة
أليس لك من دور؟
-لا. لا دور لي في الشعر الآن. دوري خارج القصيدة. دوري أن أكون هنا، مع المواطنين، ومع المقاتلين”)( )
وإذ لا صوت يعلو على صوت المعركة، (“لا يستطيع الصوت أن يعلو على الغارات في هذا المدى”)( )، فلا يمكن أن تكون ولادة القصيدة في وقت الغارات (“في هذه اللحظة المحددة، حيث تحرث الطائرات أجسادنا، يطالب المثقفون المتحلقون حول جسد غائب بقصيدةٍ تعادل قوة الغارة، أو تقلب موازين القوى على الأقل… كيف تستطيع الكتابة الجديدة، المحتاجة إلى كسل، أن تتبلور وتتشكل في أوج معركة لها هذا الإيقاع الصاروخي؟ وكيف يستطيع الشعر التقليدي- وكل الشعر تقليدي في هذه اللحظة- أن يصف هذا الشعر الجديد المختمر في بطن الزلزال؟”)( ).
والمعركة غير متكافئة، فالتغيير لن يكون؛ إذ لا بطولة في المعركة الحاليّة. ويرى الشاعر أنّه يضيف إلى أغاني العرب في المعارك لوناً جديداً من الشعر هو صمت الشعر أمام طلبات الناس وصوت المعركة، ويريد أن يعمّم تجربته على الشعراء العرب الذين يُطربون وصوتهم لا يعلو على صوت الرصاص
(“هذا فطام قصيدتي، فلتكتبوه
وتراً على طرب العرب”)( ).
فاللغة في الحاضر الحربي لا دور لها، أمّا عن الآتي الذي فيه دور اللغة، فإن اللغة تبدو بكاء للتفريغ فقط عن المكبوت (“سأراك في قلبي غداً، سأراك في قلبي وأجهش يا ابن أمي باللغة”)( )، وموضوع كتابة القصيدة مؤجّل حتماً إلى حين انتهاء الحرب (“إنّي أختزن حتى الاختناق، وأثير سخرية الزملاء القائلين: ما جدوى القصيدة… ما جدواها بعدما تنتهي الحرب. ولكنني أصرخ في لحظة لا يصل فيها الصراخ. ويبدو لي أنّ على اللغة ألا تزج بنفسها في معركة أصوات غير متكافئة”)( )
وهكذا يعبّر درويش عن موقف الشاعر العاجز أمام هول الحدث، وينظر نظرة اليائس من فاعليّة اللغة والأدب، فاللغة ماضية ولغة الحاضر هي الصمت القاتل، أمّا المواجهة فتكون بلغة واصفة هي الحماية من أثر هول الحدث (“أريد أن أنشد لهذا النهار المحروق، أريد أن أنشد. أريد أن أجد لغة تحول اللغة إلى حديد للروح، إلى لغة مضادة لهذه الطائرات، الحشرات الفضية اللامعة، أريد أن أنشد، أريد لغة تسندني وأسندها، وتشهدني وأشهدها على ما فينا من قوة الغلبة على هذه العزلة الكونية…”)( )
وإنّ الأدب له دور حين يصبح صوته الخاصّ عامّاً و”إنّ انقطاع التفاعل بين النصّ وبين الذين يتحوّل النصّ- فيهم- إلى قوّة، هو اغتراب الأدب الذي يصفّق له المبشّرون بالهزيمة النهائية لكلّ شيء”( ) والكتابة مطلوبة لذاتها، وللشاعر دوره، لكن ليست بالضرورة مرتبطة بالحدث وتطوره الواقعيّ، والمثقّفون مخطئون بالدفاع عن دور الشاعر الذي يستمد خاصيته من تاريخ كتابته الشعر في علاقته بتطور الواقع، “أمام لحظة يتوقف فيها كل شيء من الكلام، لحظة تصوغ فيها الملحمة الشعبية تاريخا وإبداعها الجماعي. بيروت هي الكتابة الإبداعية المثيرة. شعراؤها الحقيقيون ومنشدوها هم مقاتلون وناسها الذين لا يحتاجون إلى ترفيه وتشجيع على عود مقطوع الأوتار. هم التأسيس الحقيقي لكتابة ستبحث طويلاً عن المعادل اللغوي لبطولتهم وحياتهم المدهشة”( ).
وإنّ على الأدب مواجهة معركته الخاصّة بتدمير الثقافة والمثقّفثن الذي هو النتيجة الوحيدة الواضحة لظاهرة “رعاية” النفط للثقافة. هكذا تتحدد صعوبة المعركة التي نخوضها في سؤال الأدب، وهي انعكاس مباشر أو محوّر لهجوم الرجعيّة السياسي والفكريّ التي لا تفتقر إلى أسباب الإفادة من فشل “رجعيّات التقدّم”( )، حيث “تقدّمت الرجعية القادرة على الوقوف يساراً بكامل عدّة الحداثة الشكليّة، حافلة بمعاني السلفيّة…”( )
والحلّ لمعاناة الأدب هو حرية الإبداع (“… نريد أن نحرر أنفسنا، وبلادنا، وعقولنا، وأن نعيش عصرنا بجدارة وكبرياء. ما دمنا نكتب فإننا نعبّر عن إيماننا بفاعلية الكتابة. من هنا، لا نشعر أننا أقلّيّة. نعلن أننا الأقليّة- الأغلبية. ونعلن أننا قادمون من هذا الزمن.. لا من الماضي ولا من المستقبل”)( )
ويبدو في هذا الطرح قتل لدور الشعر في المعارك لإثارة الحماسة من أجل البقاء ومن أجل استمرار النضال، مثل حال المتنبي وسيف الدولة، ونذكر أنّ الشعر في “مديح الظل العالي”، وهو النص الملحمي التسجيلي يبدو عارضاً يأس الشاعر على مختلف النواحي إلى درجة الخروج على التاريخ الشعريّ لا للتجديد على المدح بتغيير مضمونه، بل تكريس المدح دون فضل للممدوح، وفي الوقت ذاته خروج على دور الشعر البطوليّ في المعارك في زرع الهمم للحفاظ على الكرامة، ليجعل الصمت لغة تعبّر عن اليأس من جدوى الكلام. وكيف للشعر أن يكون ثوريّاً وهو يقدّم يأسه من التغيير لا أمله شكلاً ومضموناً. وديوان “مديح الظل العالي” فيه استخدام تقليديّ للرموز دون تحييدها عن مضمونها، فيبقى المسيح وأشعيا ويوسف على حالهم دون تغيير، ويبقون يمثّلون القداسة، وقد استخدم الشاعر رموزه دون تغيير بشكل يتلاءم مع طروحاته التقليديّة شكلاً ومضموناً، ويصل إلى النثريّة في الاعتماد على الوزن في كثير من العبارات الحماسيّة التي تتوجّه إلى القارئ لتجعله يفهم الوضع. ويصل بتكريس القائم إلى طرح فكرة البطل المفرغ من محتوى البطولة بطلاً رمزاً. فالبطل هو الفلسطينيّ الممدوح ذو الظلّ العالي، وهو من يجعل لقصيدة الشاعر معنى على أرض الواقع كونها تبرز هذا الواقع
(“كم كنت وحدك تنتمي لقصيدتي، وتمدّ زندك…”)( )
ووجود البطل لا يغيّر من واقع اللغة عند الشاعر؛ وغير مطلوب التضحية بالنفس من أجل الآخرين أيّاً كانوا
(“المدينة والقصيدة تخرجان
من خصر أجملنا، سمير درويش
ليحتفل المكان
بنا.. وينسبنا إلى أحدٍ
ليعطي العائلة
شجراً وأسماءً..
أتعرف من أنا حتّى تموت نيابة عنّي؟”)( )
ومن مات في سبيل غيره فهو ميت خارج الحياة، وإن انتمى أهله إليه كونه الشهيد البطل، فهم أحياء وقافلة الحياة تسير ويموت الشهيد
(“ستمضي القافلة
جازاك ربّك.. سوف تمضي القافلة”)( )
والفارس الشهيد عليه أن يقوم على فرس الدخان. والشاعر يائس من حاله وحال جماعته في الحرب إلى درجة رفض البطولة
(“نشعر أنّ للأرض احتقاناً في مفاصلنا، فنصرخ: أيّها البطل انكسر فينا!”)( )
بعد أن كان هو وجماعته وبيروت حالة تمثّل طوق النجاة لعرب يعيشون في الخيال واللغة القياسيّة (“كنّا معاً طوق النجاة لقارّة محمولة فوق السراب
ودفتر الإعراب؟”)( ).
وفي هذا الطرح العبثيّ وجوديّاً يخدم فكرة تكريس الواقع بسبب اليأس من تغييره، والتخلّي عن تقديم الذات في سبيل الآخرين وحصر الحياة بنجاة الذات وعيشها لا بكرامة ذات الفرد والمجموعة.
ويرى القيام بالفعل قد انتهى مع خروج الفلسطينيين، فيكرّس الموجود أي الصمت دون فاعليّة؛ وتبقى لغته الموجّهة للفلسطينيّ البسيط لتعزّيه لغة شاعر يائس من الوضع، ويحاول أن يتأقلم مع حياته لا أن يغيّرها في الوضع الحاليّ؛ فالبديل للوضع الحاليّ هو الخروج من الواقع إلى الفكرة لا إلى الدولة، وإعلان الثورة الممتدّة خارج الآن، أي الصمود والرضا بالوضع الحاليّ على أمل التغيير تحت قيادة توحّد الفلسطينيين ويقدّسونها (“وحّدنا بمعجزة فلسطينيّة”)، وهو الممدوح ذو الظلّ العالي، أو هو الممدوح ذو الصمت الحاليّ الذي عليه الانتماء إلى ثورة عامّة شعبيّة وصولاً إلى اللاحرب لا إلى الدولة (“فوق الرماد”)، وفي ذلك تسليم بالوضع الحالي الفلسطينيّ وتكريس قيم فاسدة للسلطة وللحياة بدون كرامة ووعي لقيمة التطوّر.
ونظرة الشاعر إلى الكلمة هي نظرة تهدم ولا تطرح بديلاً لدور اللغة البنّاء، وتساهم نظرته في تكريس الوضع الفلسطينيّ والدفاع عنه كون الفلسطيني ضحيّة الآخر؛ وبما أنّ الضحيّة ضعيفة فالمطلوب رسم حدود ضعفها الحاليّ بوضوح، والانطلاق إلى مستقبل آمن دون أرض حاضنة. والشاعر لم يرفض الوضع على أنّه سيئ بل مجّده كونه يمثّل لقاء الإنسان مع ذاته في المخيّم
(“فاذهب إليك، فأنت أوسع من بلاد الناس
أوسع من فضاء المقصلة
مستسلماً لصواب قلبك تخلع المدن الكبيرة والسماء المسدلة
وتمدّ أرضاً تحت راحتك الصغيرة
خيمةً
أو فكرةً
أو سنبلة”)( ).
وفي تكريس المخيّم حصول على الأمان في التشرّد دون استرداد الأرض المغتصبة.
وقد تتحدّد ماهيّة الظلّ في ديوان مديح الظل العالي بأنّه مرادف للصمت أو الصورة، فالشاعر يمدح صمت من لا يملكون القوّة مثل صبرا الّتي “لا تشتري وتبيع إلاّ صمتها”( )، فهي تحارب بسلامها، ومثل بيروت حين قتلتها يد الغدر فخاطبها الشاعر باسم جماعته (“كنّا نحبّك يا ابنتي والآن نعبد صمتك العالي”( ). وفي الجهة الأخرى للمديح يأتي مديح الشعراء قتل الشاعر الّذي يرتعدون من حضوره صوتاً، وصمتاً أو صورة أو صدى، ربّما لأنّه بوجوده بأيّ شكل كان يسلّط الضوء على عجزهم أمام الحدث، بدل فاعليّة قوّة الخلق عندهم، إن حكى أو حضر (“يمدح الشعراء قتلي في مجالسهم، ويرتعدون حين أطلع بينهم صوتاً وظلاّ”)( ).
وفي هذا الطرح خطوة تراجعيّة حتّى في الأمل من الأغاني الثوريّة واللغة في تغيير فكر الناس وتحميسهم على خوض غمار المواجهة، وفي الخروج من المواجهة بين العيش والموت، إلى المواجهة بين الحياة الكريمة والموت في الحياة. وهنا الشاعر يبارك اليأس حتّى العدم، فكيف سيكون الطرح تغييريّاً وهو لا يملك الأمل ولا الفكر الحضاريّ المعارض للسائد؟ فالشاعر يبدو، غير قياديّ، حائراً ما بين تمجيد بطولة المقاتلين إلى درجة إلغاء الذات الشاعرة لصالح هؤلاء، وبين عبثيّة الشهادة، وأنّ القافلة سوف تسير بعد الشهيد سمير درويش.
وموقفه من اللغة والشعر البطوليّ يتوافق مع الرضا بعدم التغيير الحاليّ والرهان على المستقبل حلماً غير ظاهر الأفق، وكأنّه يخدّر من يعاني من الواقع المؤلم دون علاج؛ وهو يعتمد اللغة التواصليّة التي تصل إلى المباشرة وعدم الإيحاء، بل الاعتماد على الإيقاع بشكل رئيس لإيصال المعنى إلى القارئ العاديّ، وتكريس اللغة الشعريّة التي لا تطالب بقلب القيم في معناها، وهي تكرّس تقليديّتها في مبنى الشعر الحماسيّ القائم على الصيحات المكرّرة. وديوان “مديح الظل العالي” ليس سوى محاولة تعويض غنائيّ شعريّ عن واقع مأسويّ، والمديح بالضحيّة ويبقيها في وضعها ضحيّة.
جمهور الشاعر ينتظر منه إظهار موقف قياديّ في أحيان كثيرة… وفي غياب الطرح البديل التغييريّ يبقى الناس في نظريّته عرضة للاستغلال والاستثمار، عن وعي من الشاعر أو لا، لكن هذه هي الوقائع، فالناس في حالتهم السيّئة يريدون تغييراً إيجابيّاً وليس القبول بأضعف حالات العيش الكريم، وتصوير الحالات المعيشيّة السيّئة على أنّها انتصار إيجابيّ، على أنّ المهم هو البقاء (“المهم أن نبقى. بقاؤنا انتصار”)( )، فالطرح تعسّفيّ في حقّ أناس يطلبون الحياة الحرّة الكريمة.
وفي النهاية نقول: يبقى صوت الشاعر المثقّف محمود درويش من الأصوات الشعرية العربية التي نفخر بها، وبه وهو الإنسان المسالم الذي أراد للمقاتل أن يقاتل وللمغني أن يغني… وللشاعر أن يكتب شعراً، وتكون مواجهته بما تحمله القصيدة. فلا يمكننا إغفال ثمانٍ وخمسين إحالة إلى الكتاب المقدّس، في محاولة لعرض ثقافة الفلسطيني للحفاظ عليها في مواجهة ثقافة المحتلّ، فمن لا يملك سلاحاً يواجه السلاح، يملك ثقافة تواجه الثقافة…
وهذا يدعونا إلى التساؤل: هل على الأدب المقاوم المحافظة على الذات على سلبيّتها وكأنّها هي المستهدفة في الإلغاء؟ أو أنّ له مهمّة توعية الجمهور على بناء مجتمع متحضّر يضاهي مجتمع العدو ويتفوّق عليه بحضاريّته لا بالاكتفاء بتاريخه أو بتكريسه واقعاً قاتلاً لأهله، فيكون مساعداً للعدو على قتل الوطن الحيّ حين يحصر وجوده بما لا يريده العدو دون تحديد ما يريده الوطن؟