بحث: الدكتور علي زيتون
حضرت المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني، وأمامها المعادلة الأصعب “التفوّق على المتفوّق”.
ولا يمكن لهذا التفوّق المطلوب أن يقوم على العفويّة والارتجال. قوّة الإسرائيليّ نتاج ثقافة. والتغلّب على هذه القوّة يحتاج إلى ثقافة تُضاهي الثقافة الإسرائيليّة وتتفوّق عليها. والإنتصارات الأربعة التي أنجزتها المقاومة في الأعوام 93 و 96 و 2000 و 2006 علامة دالّة. والثقافة التي أنجزت هذه الإنتصارات, وإن كانت ذات بُعد تقني بجانب أساسي منها, إلا أنها نقلت مثقفنا من التفكير داخل دائرة الهزيمة التي عَمَرَتْ ثقافتنا مع العامين 1948 و 1967 إلى التفكير داخل دائرة الإنتصار. وهذه النقلة ليست بسيطة, فهي نقلةٌ من نظام علامي ّ بكلماته ومصطلحاته واقع تحت عنوان الهزيمة, إلى نظام علاميّ آخر واقع تحت عنوان الإنتصار. ويعني ذلك أن يبدأ الكاتب أو القاصّ مقاومته من داخل اللغة ليؤسس على ذلك قراءة العالم المرجعيّ: (الأرض, الرجال المقاومين, عجائز الجنوب, أطفاله, العدوّ, السلاح, المعارك). وما يراه القاصّ هو عمقٌ من أعماق ذلك العالم، وليس ما يمكن أن يراه كلُّ الناس منه, عمق ٌ استطاعت رؤية الأديب, بما تمكنها به ثقافته, ان تمسك به. وهذا العمق لا يمكن لرؤية أيّ أديب آخر ان تدركه, يعني أننا أمام خصوصية هذه الرؤية التي تمثّل فرادةً هي الأدبية عينها.
ويحضر الأسلوب بصفته رؤية الرجل, ثقافته. وما تراه الرؤية (الخاص, الفريد في العالم المرجعي), لا يمكنها أن تراه إلا باللغة , إذ لا فكر ولا تفكير خارج اللغة وبمعزل عنها. والأسلوب هو عين المكتشف, العمق المقروء من العالم المرجعي. فكيف قرأ علي حجازي, في قصته, الحضور المقاوم للمرأة الجنوبية؟ هل كشف ذلك الحضور عن عمق خاصٍ برؤيته, ثقافته، بعيداً عن المشترك المعروف من جميع الناس فأنتج أدبيته وفرادته؟
سنحاول الاجابة عن هذا السؤال من خلال مجموعته القصصيّة الموسومة بعنوان “القبضة والأرض”. واللافت في هذه المجموعة سجيّة الصمود والمقاومة التي تمتلكها المرأة الجنوبية, حتّى لكأنّ أمارات صمودها أمتدادٌ لطهريّتها العابقة بقبضها التاريخي على جمر دينها وأرضها, منذ مماليك ابن تيميّة وصولاً إلى مماليك التلمود, مروراً بكل أنواع المماليك والأتراك. وهي لم تنشأ صدفة, ولم تتكوّن شخصيتُها من فراغ. تحمل إرثاً من الوجع المضني الذي جعلها تدرك بعمقٍ أن وجودها في قبريخا أو طلّوسة, أو دير سريان هو وجود مدفوع الثمن: جوعاً وحصاراً ودماً وحرقاً. إن ذاكرة هذه المرأة مستفزة سلفاً , باسم إحدى القرى الجنوبية (شحور), وتحمل وجعاً متحدرا إليها من قلب جدّتها التي شهدت أحمد باشا الجزار وهو يغتصب المكتبات العاملية التي تجمع حبرها بدمع العينين, ليشعل بها أفران عكا شهراً كاملاً. لم تُسقط الريحُ هذه المرأة من رجلي طائر “الشوحة” كما نسميه في بعلبك, فوق الجنوب. هذه المرأة تاريخ بكامله.
(خديجة) لم يستعرها علي حجازي لقصته من بلاد “الواق الواق”. خديجة جنوبية لحماً ودماً وثقافة, ذاكرة وتمثيلاً للوجود الإنساني على الأرض, مرجعيتها الواقعية لها تمثيلها الحقيقيّ في تاريخنا. والقصة حين استحضرت شاهد قبر تلك المرأة لم تقم بعمل عفوي. كان الاستحضار وظيفياً (1882و1982) . فهذا التاريخ ليس تاريخاً عابراً. هو تاريخ علاميّ مزدوج الدلالة. هو إيماءة من حيث امتداده, إلى ثلاثة أزمنة: زمن الأتراك, وزمن الفرنسيين, وزمن الإسرائيلي, وهو إيماءة من حيث آخره العام 1982, الى تسليم جيل مقاوم الراية إلى جيل آخر.
وحين رفض الحاج محمد أن تكون خديجة قد جُنّت عندما راحت تصرخ بلازمة مستمرة “اسقوني, اسقوني, أنا عطشانة” فلأنه قد أدرك سرّ هذا النداء حين قال:”ثم جلست تحدثني عن مآسي الحرب وويلاتها, عن سفر برلك, وعن زوجها الذي بقيت تنتظره كل ليلة, إلى أن يئست, ولم تنس” (ص91). وإذا كان يأسها علامة صحةٍ نفسيةٍ تنبئ بوعي بالقضية وتعال عن أي مرض نفسيّ, فإن عدم نسيانها (لم تنس), إشارة إلى ذاكرة منهجية تجمع التاريخ درساًيجدد مسيرة حياتها.
وكما وظّف علي حجازي الذاكرة الجنوبية توظيفاً فنياً رائعاً في أثناء قراءته دور المرأة, فإنه عرف كيف يقدّم تلك المرأة إنساناً من لحم ودم. وصياحها ” اسقوني, اسقوني” وبقدر ما هو علامة على نفاذ احتمال المرأة الجنوبية المولودة العام 1882, لما تراكم في ذاكرتها من أهوال ثلاث مراحل من إعتداءات الآخر الخارجي على الإنسان اللبناني عامة, والجنوبي خاصة, فإن رمزيته العائدة الى (الهامة) الجاهلية, قد قدّمت المرأة الجنوبية , عبر رمزية خديجة, شهيدة حيّة. ظُلمت, ثم ظُلمت ثم هي قيدُ ظلم جديد في العام 1982, عام الاجتياح الكبير, وهي إذا ما أقفلت زمناً من صمود المرأة الجنوبية بصرخة مدوّية “اسقوني, اسقوني” , فتحوّلت إلى هامة نفسها, فإنها قد أومأت إلى إفتتاح زمن جديد يحتاج إلى مقاومة مختلفة. ولقد أدرك ابنها سهيل سبب صراخها :” لم تكن أمي هكذا قبل مجيئهم” (ص72).
… أمي لم تصرخ: أنا جائعة إلا عندما شاهدت أولئك الجنود الذين اقتحموا بيوت الضيعة… وهم يرطنون بلغة غريبة تارة, وبعربية غير سليمة طوراً. ولعلّ القصة حين تركت ميمَ (مجيئهم) غير محددة النسبة (ص 94-95), وحين وصفتهم أنهم (يرطنون) إنما أرادت أن تقيم صلة بين ظلمين: ظلم التركي وظلم الإسرائيلي. فجنود الفريقين قاموا باقتحام الضيع والبيوت, وجنود الفريقين يرطنون. والصلة بين المعتديين لم تكن قصد المشابهة بقدر ما كانت إشارة الى اتصال القهر الجنوبي. ولعلّ اشارة القصة الى صياح خديجة عندما شاهدت الإسرائيليين يدخلون القرية (السلعدى) أي السلّ للعِدى أو (خرا واوي), هو من قبيل استعادة الظلم التركيّ بوجهه الإسرائيلي. والحاج محمد الذي عاش الظلمين هرول الى التبانة (المخبأ المعتاد من الأتراك, ثم رجع وعاد ليهرب من جديد إلى مخبأ يناسب المرحلة الإسرائيلية, وفي هرب الحاج محمد علامة شديدة الدلالة تؤكد إتصال القهر الجنوبي, ومهما يكن من أمر فإن قصة (خديجة) قد استطاعت ان تقدم لنا من سيرة المرأة الجنوبية خصوصية رؤية علي حجازي , وفرادتها, فكان الأسلوب عين العمق المكتشف من العالم المرجعي.
واذا تحمّل الرجل الجنوبي الظلم في جسده, بشكل أساسي تحملته المرأة الجنوبية في نفسها: صبراً وصموداً, وانتظاراً طويلاً. ولئن عاشت تلك المرأة مرحلة استقرار نسبيّ بين زمنيْ الفرنسيين والإسرائيليين فان حالها, حتماً في هذه المرحلة لم تكن على ما يُرام. ذلك أن المواشي وحدها “كانت تدرّ للإنسان الجنوبي حليباً صافياً, وخدمات جلّى, من دون أن تذبحه, وتسلخ جلده لتأكل اللحم وترمي العظم” (ص 84). وإذا كان فعلاً (الذبح) و(السلخ) فعلين مجازيّين , فإنهما إشارة شديدة الدلالة على نوع جديد من الظلم, وعلى ظالم مختلف هو السلطة. وإذا هاجر الوالد في قصة “المنديل الممزّق”, مطمئناً أولاده الصغار:” لا تخافوا يا أحبائي, سأعود”, بدت الأم على لسان ابنها الذي تولى سرد الحكاية, أمّاً ذات تاريخ. “كنت كلما اتجهت نحو أمي (ساعة الوداع) لأسألها, كانت تسرع لتمسح دموعها, لكي لا أراها, وتقول لي , حتى قبل أن أسألها: لا تخف يا حبيبي, غداً يعود” (ص85) . واذا كانت الدموع علامة دالة تحتشد فيها دموع كل الجنوبيات اللواتي ودّعن أزواجهن لهجرة أو لسفر, وفيها من المرارة واليأس والقهر ما فيها, فإن إسراع تلك الأم لمسح تلك الدموع علامة ثانية تواجه الأولى, وتتعالى عليها لتشكل إشارة صمود ومقاومة في وجه الزمن المرّ. ولعل هذا الصمود المفروض على الجنوبيات هو الذي هيأهن ليتصدّين للدوريات الإسرائيلية في “لعبة أيمن”. ولئن بدت الجنوبية في قصة “ابو منصور” متعالية على الرجل بشجاعتها, فإن قصة “أبو محمد” قد وصلت بالمرأة الجنوبية إلى الموقف النموذجي حين أحضرتها امرأة عميل. “وصلت زوجة سمير مع النسوة, ولما رأته هجمت عليه , فظنّ انها ستساعده… تسوّي جراحه, إلا أنها غرزت أظفارها في عنقه جيداً” (ص19). ويبقى أن المرأة الجنوبية التي ورثت الصبر جدّة عن جدّة , كان الله معها، قوّاها على المصاعب, وعصمها من الشّطط. ضَعُفت نفس الزوج سمير, فانحرف وظلت امرأته بمنأى عن ذلك بفعل تجربتها المتصلة بتجربة الرجل والمختلفة عنها. فلا مجال للانحراف داخل دائرة الصبر، الصبر الكفيل بتطهير النفوس, فكانت تلك المرأة علامة ثانية على تعالي المرأة على الرجل. وكان على الادب ان ينصفها, فأنصفها علي حجازي.
ويبقى أن علي حجازي قد استطاع, من خلال مجموعته الموسومة بعنوان ” القبضة والأرض” أن يكون علامة واضحة من علامات أدبنا المقاوم الحديث كما استطاع مع وجود أزمة في الثقافة يجب معالجتها , أن يقدم خصوصية أدبية هي أدبيته المندرجة في سياق الأدبية المقاومة التي استطاعت أن تبني عرشها لغة جديدة لقراءة الصراع القائم بين الحق والباطل في منطقتنا. وذلك بعد أن نقلتنا المقاومة الإسلامية كما أسلفنا من واقع الهزيمة والذل إلى واقع الانتصار العزيز.